تفتقد معايير التجريم ولا صلة لها بـ (المحاكمة العادلة)

.. إنّها تُهَـمٌ عبَـثـيّـة كـيـديّة!

من مذكرة قُدّمت للقاضي في جلسة المحاكمة الثامنة بتاريخ 8/12/2012

د. محمد القحطاني

عضو مؤسس لجمعية الحقوق المدنية والسياسية (حسم)

من المؤسف أن القاضي لا زال يكرر في كل جلسة بأن ردودنا مكررة أو (غير ملاقية) حسب تعبيره، في الوقت الذي يرى فيه تهم المدعي العام المرسلة التي لا تليق بمجلسه القضائي، وهو يسمح بسماعها رغم أنها لا تقوم على اعتبار شرعي أو قانوني، وليست لها عقوبات منصوصة، لأنها لا تصلح تهماً، بل هي لإثارة اللبس والتلبيس. ولذلك قلنا بأنها تهم كيدية؛ لأنها تفتقد معايير التجريم.

د. محمد القحطاني (يسار) قبل دخوله ود. الحامد قاعة المحكمة

مالغرض من توجيه تهمة: (السعي لغرس بذور الفتنة، والانشقاق، ونزع الولاية والخروج على ولي الأمر، وتأليب الرأي العام) إذا لم يكن المدعي قادراً على إثباتها بوجه مادي قاطع، يحدد الفعل الذي يجسّد معنى الفتنة والخروج. فإذا لم يكن لدى المدعي جواباً قاطعاً صريحاً في تحديد معاني التهم المرسلة، فوجودها في لائحة التهم عبثٌ لا يراد به سوى تشتيت العدالة، وإلهائها بالخوض فيما لا يحقق الأصل الذي لأجله أقيمت المحاكمة.

تسلّح طغاة الرياض
بعديمي الضمير

يقول المدعي العام: (بم يوصف من يدعو للإصلاح عن طريق السب والشتم، ونشر معلومات غير صحيحة). وهو هنا لم يحدد ـ كعادته ـ ما هو السب والشتم الذي يتحدث عنه. وكان الأولى به ان يوجه السؤال لنفسه: فبم يوصف من يلقي التهم المرسلة التي كررها في لائحته ولم يستطع التدليل عليها، ولم يستطع أن يجيب بتحديد ركن مادي قطعي في (تعطيل التنمية)، بل اكتفى بالقول بأن (الدعوة للمظاهرات يترتب عليها الفوضى والتكسير وإتلاف الممتلكات العامة.. وهذا لا يخفى على ذي بصيرة أنه من أهم معوقات التنمية) انتهى كلامه. إن جواب المدعي العام ليدل دلالة قاطعة على جهله التام بأصول التجريم، وقواعد الإدّعاء، فلقد كشف جوابه مدى الخطر الذي ينتظر كل من حاول الإصلاح.

فلكل دارسي الأنظمة والقوانين وقوانين التجريم الجنائي، نعرض لهم جواب المدعي، ونضعه بين أيديهم كشاهد ودليل على انحراف هيئة التحقيق والإدعاء العام عن مسارها، من حفظ العدالة في المجتمع، إلى محاولة تجريم الأشخاص بناء على رؤية وزارة الداخلية.

التزييف وسيلة الضعيف

الإدعاء العام لازال في غيّه يتمادى، حتى أنه يستدلّ بما هو إنكار للمنكر على أنّه منكر، فهل انقلبت الفطرة لدى هذا الجهاز؟ أم هي قناعة بأن الغاية التي يعتقدها بعض القائمين على هذا الجهاز تبرر الوسيلة؟! فمما لا يمكن السكوت عليه، قول المدعي العام أن المدعى عليه (القحطاني) يصف الحجاب الشرعي بالصفة التالية: (أصبح حجاب المرأة نوعاً من الإعاقات الجسدية، لا تختلف عن فقدان البصر والأميّة وفقدان الأهلية). والواقع هو أن المدعى عليه سبق وقال ممتعضاً ومنكراً على أحد البنوك: (هل أصبح حجاب المرأة نوعاً من الإعاقات الجسدية، لا تختلف عن فقدان البصر والأمية وفقدان الأهلية؟). وقد ذكر المدعى عليه هذا الكلام في إنكار (الجريمة) التي فعلها أحد البنوك، حيث قام هذا البنك بوضع قائمة خيارات تحت بند ظروف خاصة في أحد نماذجه: (كفيف، أمّي، امرأة محجبة، فاقد الأهلية، فرد محجور عليه). (مرفق صورة من النموذج) ويعد ما فعله هذا البنك جريمة بحق الشريعة والنساء في هذا البلد تستوجب العقوبة بعد التحقيق والمحاكمة، بل لو وجد هذا البنك في معظم الدول الغربية لعد تمييزاً ضد المرأة وحريتها، وهم لا يدينون بدين الإسلام، فكيف بمن يدين بدين الإسلام. فما فعلته هيئة التحقيق والإدعاء العام هنا لهو إخلال واضح بواجبها في التحقيق في الجرائم بناء على نص النظام، فبدل من ملاحقة (المتهم) بارتكاب (جريمة) وهو البنك في هذه الحالة، تتم ملاحقة من يفضح هذه الجرائم. وهكذا أصبحت وظيفة الهيئة هي ملاحقة المبلغين عن الجرائم لا عن مرتكبيها.

علماء في السجن لمخالفتهم رأي الحكومة

يدعي المدعي العام بأن المراوغة هي صفة لازمة للمدعى عليه (القحطاني)؛ ويدلل على ذلك بالحديث عن الطعن في أمانة وديانة أعضاء هيئة كبار العلماء، وهي التهمة التي خلقها وأقرّ بها المدّعي العامة نيابة عن المدعى عليه، وقد أوضحنا موقفنا بأننا نؤيد استقلال العلماء، وأن مقصدنا في كلامنا هو كفّ يد الحكومة عن التضييق على العلماء، ومحاولة التدليس عليهم في فقه الواقع. واختصارا لوقت المحكمة يوجد العديد من العلماء الذين تم التضييق عليهم لمجرد مخالفتهم لرأي الحكومة، حتى أن من عبر عن رأي مغاير للحكومة صار مصيره السجن، فقد سجن عدد منهم ولازال البعض يقبع في غياهب السجون! ولا نريد أن نسبب حرجاً لهم في طلب شهادتهم التي قد تتسبب في إيقاع الظلم عليهم من قبل الحكومة، وإذا رأت المحكمة الإستماع لبعض الشهادات في هذا الشأن فسنطلبها منهم.

متهمون بـ (تعطيل التنمية)!

يقول المدعي العام في البند الأول من سادساً فيما يتعلق بتعطيل التنمية: ( لم يرد في الأوصاف الجرمية اتهامه بهذا الوصف)؛ ثم يقول بعد ذلك في البند الثاني من سادساً: ( كما أنه لم يتم اتهامه بتعطيل التنمية، وإنما بالسعي في تعطيلها) انتهى كلامه. نريد أن نفهم فقط: هل ورد اتهامه ام لا؟ ففي العبارة الأولى يقول لم يرد في الأوصاف الجرمية اتهامه بهذا؛ ثم في السطر الذي يليه يقول كلاماً متناقضاً بأنه لم يتم اتهامه بتعطيل التنمية، وإنما بالسعي في تعطيلها. فالمدعي ينفي التهمة ثم يثبتها بتعديل عليها! ونقول أن ما ورد في صحيفة الدعوى في الصفحة الخامسة هو النص التالي (محاولة تعطيل التنمية).

ولأن المدعي أراد أن يشعر العدالة بأن تهمته في (تعطيل التنمية) لم ترد في متن الإدعاء بل في الشرح، فإننا نطالبه بذكر الأركان الماديّة والتحديد الدقيق لبقية الأوصاف التي وردت في متن الدعوى، وهي السعي لغرس بذور الفتنة، والانشقاق، ونزع الولاية، والخروج على ولي لأمر، وتأليب الرأي العام. إننا نطالبه كما طالبناه في تهمة السعي لتعطيل التنمية أن يجيب إجابة محددة، ولن يستطيع، بل سيكرر إجابته، بأن إنشاء جمعية حقوقية وإصدار بيانات يترتب عليها فوضى وتكسير واعتداء على أنفس وأموال. وإذا كانت العدالة ستعاقب الناس بمثل هذه التهم، وبمثل هذه الإجابات، فعلى العدل السلام.

إنشاء جمعية حقوقية (مخالف للشرع)!

من التهم الموجهة في لائحة الإدعاء: إنشاء جمعية غير مرخصة. وقد ابتنى المدّعي العام على ذلك تهماً عديدة أخرى. لقد زعم المدعي العام بأن إنشاء جمعية الحقوق المدنية والسياسية (مخالف للشرع). ومن المعلوم أن المملكة قد وقعت وصادقت على الميثاق العربي لحقوق الإنسان، والذي نصّت مادته (24 ـ الفقرة 5) على حرية تكوين الجمعيات مع الآخرين والإنضمام إليها. وقد قال فضيلة القاضي في الجلسة السادسة بأن المملكة لا توقع اتفاقية تخالف الشرع!

نسأل المدعي العام: هل سبق أن وقعت المملكة على اتفاقية تخالف الشرع؟ إن أجاب بـ (لا)، فقد ناقض نفسه، إذ كيف يتهمنا بما وقّعت عليه حكومة المملكة وهو لا يخالف الشرع؟ وإن أجاب بـ (نعم)، فقد اتهم المملكة بأنها تمارس ما يخالف الشرع، وأولى به أن يقيم دعوى عامة على الحكومة، وأن يجعلها تحت الشرع، كما صرح بذلك فضيلة القاضي في الجلسة الخامسة، بأن جميع أولاد عبدالعزيز تحت الشرع.

نحن لم نرتكب ـ بموجب ما تصرحون به بأن المملكة دولة الكتاب والسنة ـ ما يعتبر مخالفة للشرع، وإذا كنّا لم نرتكب ما يخالف الشرع، فلماذا النظام يمنع ما يجيزه الشرع؟ لماذا يحرّم ما أباحه الشرع؟

وإذا كانت مخالفتنا نظامية، وموافقة للشرع، فأيهما المقدم: الشرع أم النظام؟ على النظام أن يسعى أن يوافق الشرع، وليس العكس، فيطلب من المتوافقين مع الشرع تركه والالتزام بالنظام!

سلمية الوسائل الإحتجاجية

ذكر المدعي العام تحت بند سادساً: (استدل المدعى عليه بحديث “إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” وجعل الوسائل الأخرى التي يترتب عليها الفوضى وإثارة الفتنة، أقلّ خطورة، ثم يقال هل الوسائل التي سلكتموها في الإثارة والدعوة إلى الإضراب عن الطعام، ومخاطبة الجهات الخارجية.. تعتبر من الوسائل السلميّة التي أصلها الإباحة؟). انتهى كلامه!

إن استدلالنا بالحديث على وسائلنا، هو استدلال بالقياس الأولوي، وهو من أقوى الاستدلالات الالتزامية، فإذا جاز تعريض النفس للقتل بالإنكار لرفع جور الحاكم وأجهزته، فمن باب أولى الإضراب عن الطعام لرفع الظلم، ولا يشك في ذلك إلا من يتبع الهوى، بل كافة الوسائل السلمية هي الأقل ضرراً من تعريض النفس للقتل.

وندلل على الوسائل السلمية ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (قال رجل: يا رسول الله إن لي جارا يؤذيني، قال: انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق، فانطلق فأخرج متاعه، فاجتمع الناس إليه فقالوا ما شأنك؟ فقال إن لي جاراً يؤذيني. فجعلوا يقولون: اللهم العنه، اللهم اخرجه. فبلغه ذلك فأتاه فقال: ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك أبداً).

إن المدعي العام لم يثبت حتى هذه اللحظة ما معنى (الإثارة) وركنها المادي، حتى يصح له النزاع في الدليل، فنحن نطالبه أولاً بتحديد مصطلحاته، وتهمه المرسلة، حتى يصح له الخلاف. ولم يثبت المدعي العام لنا ما هي مخاطباتنا للخارج على وجه التحديد، حتى يصح له النزاع في وسائلنا. فإذا أثبت صحة دعواه، ناقشناه في معنى الحديث، وناقشناه في صحة استدلالنا، وأتينا له بالمزيد من أدلّة الشرع على أن وسائلنا في الإصلاح هي وسائل شرعية توافق مراد ومقاصد الشريعة، وليس فيها أدنى شبهة، بل هي مما يتوافق تمام التوافق مع كل نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفع الظالم، وجعله مسؤولاً عن ظلمه.

فالشرع لم يجعل التهمة والسؤال والسبيل على من يدفع الظلم، والمدعي يريد مخالفة نهج الشرع في معاملة من يدفع الظلم، وهذه واحدة من عشرات المآخذ والتناقضات على جهله بأصول الشرع.

إزالة الظلم أهم من بقاء الظالم

قال المدعي العام: (بأن المدعى عليه قال في إجابته “الحاكم بشر، وزوال ظلمه أهم من بقائه ظالماً”. وهذه دعوة صريحة للخروج على الحاكم، ولو كان ظالماً، وهذا لم يقل به أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من العلماء المعتبرين). انتهى كلامه.

ونحن نطالب المدعي العام بإثبات معنى الخروج، وإثبات معنى الجملة الذي لا يحتمل إلا ما ذكره. نحن لا ندعو للخروج، وإنما نقوم بإنكار الظلم وندعو لرفعه؛ ونطالبه بإثبات دعواه بأن الخروج على الحاكم الظالم لم يقل به أحد من الصحابة ولا من التابعين، ونحن نعلم أن الحسين وابن الزبير وهم صحابة، وابن الأشعث وهو من التابعين، ممن خرجوا على يزيد والحجاج ـ وهم حكام ظلمه، انتزعوا حق الأمة في ولايتها بالسيف والقهر. فكيف يكذب المدّعي العام ويفتري على الصحابة والسلف في دعواه، وهو يزعم أنه يقيم دعوى، لأن المدعى عليه طعن ـ بزعمه ـ في أمانة العلماء. كيف يصدق المدّعي العام في دعواه بالدفاع عن أمانة الآخرين، وهو يكذب كذباً صريحاً على الصحابة والتابعين؟!

ثم إن كل عاقل لو سألته: أيهما أولى وأحق في نظرك: بقاء الحاكم ظالماً، أم زوال ظلمه؟ وهو سؤال مطلق تجريدي، لا يحتمل إلا جواباً واحداً، فإن كان جاهلاً كالمدعي العام، فسيكون جوابه المراوغة، والبحث عن تهم كيدية جديدة. وإن كان عاقلاً، فكل العقلاء في الدنيا لن يجيبوا بأن بقاء الظالم أهم من زوال الظلم. هذا مقتضى العدل والقسط، ولم ترسل الرسل وتنزل الكتب إلا لإقامة القسط والعدل.

ثم إننا في كل مذكراتنا وبياناتنا قد بيّنا منهجنا السلمي في الدعوة لرفع الظلم، فما الغرض من مزايدة المدعي العام في جوابه، وقد بيّنا منهجنا وشرعية وسائلنا السلمية لرفع الظلم؟ ماذا بعد الحق إلا الضلال، وقد بيّنا أننا ضد الخروج المسلح، بل بيناتنا وجمعيتنا لا تستهدف شخص الحاكم، فهي تستهدف أجهزة الدولة، وبعض الأفراد فيها، ممن ليس لهم صفة الولاية العامة. وكلامنا عن الدولة هو كلام عن أجهزتها الحكومية، وليس كلاماً يستهدف شخص الحاكم، وليست لنا خصومة شخصية مع وزير أو مسؤول أو عالم أو غيره.

المدّعي العام جاهل بالشرع والأنظمة

قال المدّعي العام بأن: (هناك فرق بين من ينتقد ويطالب بمحاسبة المقصّر بأسلوب لا تعدّي فيه، وبين من يستخدم التأليب والتحريض على مخالفة الأنظمة، والدعوة للخروج على ولي الأمر). انتهى كلامه.

نقول للمدّعي العام: أين النظام الذي يحدّد ما هو الأسلوب المقبول، وما هو غير المقبول؟ فلا يزال المدعي العام يستدلّ بمحلّ النزاع، وكما أشرنا سابقاً، فإننا نجيب على إدعاء جاهل بالشرع والأنظمة، وأساليب التجريم. إذ كيف يجيب بما لم يستطع إثباته، فهو لم يقم دليلاً يثبت به معنى الخروج، بل يحاول تسقّط الكلام، والبحث عن أقل شبهة كي يثبت بها مزاعمه.

محاكمة التغريدات في تويتر

فيما يخص التغريدات التي زعم المدعي العام أني أعلنتُ مسئوليتي عن الحساب ـ الذي نشرت منه ـ وإدارتي له منفرداً، فهذا كذب صريح، والدليل ما هو مثبت في محاضر التحقيق. فالكتابات في مواقع التواصل الإجتماعي هي جزء من حرية الرأي والتعبير السلمي، التي تندرج تحت حقوق الإنسان الأساسية، وقد أبديت تحفظي أثناء التحقيق وفي المحكمة على الإعلان عن معلومات حسابي، أما إذا وجهتم لي رأي ينسب لي وهو فعلاً لي، فقد سبق وأقررت أمام محققي الهيئة وأمام فضيلتكم بالأفكار التي سبق أن ذكرتها مع التحفظ على الوسيلة.

القضية باختصار هي السعي لإسكات عدد من الأصوات العالية المطالبة بالإصلاح، لكي يصمت البقية على الظلم والجور، وهذا لن يحدث. فالسنن الشرعية في المدافعة قد وجدت لدى الناس، فلعل الله أن يحفظ بهم البلاد، حيث يقول سبحانه: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). وذكر المفسرون القول المشهور المعبر عن تجارب الناس، وهو أن الأمم تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظلم.

الصفحة السابقة