مستقبل العرش في العقد القادم

عمر المالكي

حديث العرش السعودي بات اليوم أكثر من أي وقت مضى حديث الساعة، وذلك لأسباب عديدة، من بينها: أن الجيل القديم يتوارى عن المشهد السياسي بفعل قوانين الطبيعة وسنن الله التي وضعها (الموت). ومن بينها: أن مساحة الصراع على السلطة باتت مفتوحة على أفق واسع بحيث يصعب التنبوء أحياناً بمن ستؤول اليه القوة، رغم أن الجيل الحاكم من أبناء عبد العزيز قرر ابتداءً ترسيخ رهانات ابنائه في مستقبل السلطة. ومن بينها: أيضاً أن السلطة السعودية خسرت قدراً كبيراً من هيبتها المعنوية، ووزنها الشعبي، ورصيدها الاقليمي والدولي خصوصاً بعد الربيع العربي حيث تتطلع دول الثورات الى أن تثبت قدرتها على العيش بعيداً عن مساعدات السعودية المالية، وأن تثبت استقلال قرارها بمنأى عن الضغوطات السعودية والخارجية بصورة عامة.

في المقابل، تحاول العائلة المالكة او على الأقل الأقطاب الكبار فيها التصرّف على أساس أن كل شيء يسير كما هو مقرر له، ولا قلق على العرش، وأن الانسجام بين أجنحة الحكم في ذروته. بل حتى القوانين الطبيعية التي تسري على البشر يراد تجاوزها، فما يقال عن موت الملك أو مرض أحد الأمراء الكبار يصبح مجرد (شائعات مغرضة)، والسبب في ذلك أن معادلة السلطة بمكوّناتها الحالية بلغت من الدقّة والخطورة بحيث في حال اختلال عنصر فيها يصبح الكلام عن معادلة جديدة مناقضة.

بعد اختفاء اخبار صحة الملك منذ دخوله المستشفى في 16 نوفمبر الماضي، كانت هناك ضغوطات متراكمة داخل العائلة المالكة وخصوصاً داخل جناح الملك عبد الله من أجل وضع حد للشائعات التي تحدثت عن دخوله في غيبوبة، وتعرّضه لانتكاسة في وضعه الصحي. وقيل حينذاك، أن مستشار الملك الشيخ خالد التويجري ونجل الملك الأمير متعب كانا يعملان المستحيل لإظهار الملك على شاشة التلفزيون لنفي شائعات حول وضعه الصحي المتدهور، وقد نجحا في ذلك. وكانت شائعات قد ظهرت في 27 نوفمبر الماضي تفيد بأن الملك أصبح ميّتاً سريرياً. ونقلت مصادر صحافية عن أن الملك كان في حال موت سريري خلال يومي 25 ـ 26 نوفمبر الماضي، وأن عدداً من أعضائه الأساسية قد توقف عن العمل، وأن مصير الملك بات مجهولاً. الديوان الملكي ـ وعلى العكس من ذلك ـ أكّد بأن العملية الجراحية التي جرت للملك واستغرقت إحدى عشرة ساعة قد تكللت بالنجاح.

في 28 نوفمبر قام التلفزيون السعودي الرسمي بعرض مشاهد للملك وهو يستقبل عدداً من الأمراء ونقلت حديثاً مختصراً له مع أحدهم وهو يحدّثه عن العملية التي خضع لها وكأنها ليست بالأمر العسير. المغرد المثير للجدل (مجتهد) قال قبل ذلك بأن نجل الملك متعب بن عبد الله ورئيس الديوان الملكي خالد التويجري مستميتان في إظهار الملك بشكل طبيعي رغم وضعه الصحي المتدهور وغير المريح.

وجرى تداول اخبار على شبكات التواصل الاجتماعي بأن الكادر الطبي قد تعرض للضغط بإزالة بعض الأجهزة الطبية من أجل إعداد لقطات قصيرة تظهر الملك وهو ينظر إلى طوابير مكوكية من الأمراء والساسة السعوديين وهم يؤدون التحية لعبدالله ويدعون له بالشفاء ثم ينصرفون. وبين هؤلاء أن الأطباء يتعاملون مع 3 أشخاص فقط هم متعب بن عبد الله وخالد التويجري ومحمد بن نايف، وقد صارحوهم بتضاؤل فرص النجاة والتهيؤ لأخبار سيئة خلال أيام.

الملك يستقبل ولي عهده في المستشفى (واس)

مهما يكن، فإن ظهور الملك عبد الله على الشاشة لم يغيّر من حقيقة أنه يعيش وضعاً صحياً مترديّاً وليس بإمكانه العودة الى مزاولة مهامه بصورة اعتيادية، وأن ما ثبت في ظهوره هو مجرد نفي موته فحسب. تواصل الكلام بعد ذلك عن مستقبل العرش، ومن سيرث الملك بعد موته. في حقيقة الأمر، أن ظهور الملك على الشاشة نفى موته ولم ينف عجزه عن مزاولة السلطة بصورة طبيعية.

بطبيعة الحال، فإن اللقطات التي عرضت في 28 نوفمبر الماضي لم تتكرر ما يؤكّد الشائعات التي تتحدث عن ضغوطات مورست على الكادر الطبي من قبل الثالوث سالف الذكر. بل قيل بأن الوضع الصحي للملك مرشّح لأن يشهد انتكاسة خطيرة بسبب حالة الاحتقان التنفسي الحاد المعروف طبياً باختصار (ARDS) وهو عبارة عن تكّدس السوائل في الرئتين وعجز الجسم عن التخلّص منها. يذكر بأن الملك عبد الله لم يقلع عن التدخين الا في السنوات الأخيرة حيث نصحه الأطباء عن الكف عنه من أجل البقاء على قيد الحياة.

ما بعد موت الملك تكمن مشكلة، بل مشاكل شديدة التعقيد في المملكة، إذ ليس هناك ما يمكن وصفه بإجماع عائلي على الخليفة القادم ولا نائبه، فقد باتت الاحتمالات مفتوحة، وقد يصعد شخص الى العرش من غير التراتبية التقليدية، خصوصاً بعد انكسار النمط الوراثي السائد، حيث يتولى أبناء عبد العزيز المناصب السيادية، وتكون من نصيب من لديه القوة والنفوذ. فقد انتقلت سلطات ثلاث من أبناء عبد العزيز الى الجيل الثالث: الأمير متعب بن عبد العزيز، وزير الشؤون البلدية والقروية وقد نقل الوزراة الى إبنه الامير منصور في 2 نوفمبر 2009، ورئيس الاستخبارات العامة الأمير مقرن بن عبد العزيز وقد انتقلت منه الى الأمير بندر بن سلطان في 19 تموز 2012، ووزير الداخلية الأمير أحمد بن عبد العزيز، وقد انتقلت الوزارة الى الأمير محمد بن نايف في 5 نوفمبر 2012. وبذلك يكون قد كسر الملك عبد الله تقليداً سابقاً يحصر المناصب العليا في أبناء عبد العزيز، ويمنع نزع سلطة أحدهم لصالح أي من أبناء الجيل الثالث..

كلام كثير يروج في الأوساط القريبة والبعيدة عن أقرّب المنافسين لمنصبي ولاية العهد والنائب الثاني، في ظل أنباء متواترة حول عدم إمكانية الامير سلمان لتولي الحكم، بسبب مرض الزهايمر الذي يعاني منه منذ سنوات وازدادت خطورته في الآونة الأخيرة، الى جانب أمراض أخرى مثل مرض القلب وعملية جراحية في العمود الفقري تسببت في صعوبة المشي..

الأمير محمد بن نايف الذي استعاد موقعاً خشي أن يخسره للأبد بعد تنصيب الأمير أحمد بن عبد العزيز خلفاً لشقيقه الامير نايف، يتطلع اليوم لأن يكون الأوفر حظاً في أي ترتيبات قادمة للسلطة، ولذلك فهو يعكف منذ فترة على إعداد قواته لأن يكونوا على أهبة الاستعداد لمواجهة أي طارىء في حال وفاة الملك، وتثبيت رهانه كولي للعهد.

تفيد الأخبار المسرّبة من دوائر الأسرة المالكة بأن ثمة اتفاقاً بين أبناء عبد العزيز على ولي العهد الأمير سلمان ملكاً قادماً بعد موت الملك، رغم ما يعانيه الأمير سلمان من أمراض شديدة، ولكن المشكلة تبقى في من سيخلفه، إذ تفيد هذه الدوائر بأن الأمراء أصحاب النفوذ لن يقبلوا بالتنازل لأبناء الجيل الثالث في حال عدم حسم حصص الأجنحة التي بقيت مهمّشة طيلة عقود خلت. ما يحرّك هؤلاء الأمراء هو قناعة حاسمة لديهم مفادها أن الأمير سلمان لن يطيل البقاء لما يعاني منه من أمراض معقّدة تحول دون إمساكه بالسلطة لفترة طويلة.

المشكلة الأخرى، أن الأوضاع الصحية لدى كبار الأمراء تدفعهم وأبناءهم الى خوض صراع عاجل من أجل إنقاذ ما يمكن انقاذه، بعد أن باتت الاستحقاقات مفتوحة، وليس هناك من يمكنه حسم الصراع بجدارة..ولكن بطبيعة الحال، فهناك تنافس يفرضه ميزان القوى، فهناك محمد بن نايف وزير الداخلية وما تضمه من القوى الامنية وحرس الحدود والشرطة وغيرها، ومتعب بن عبد الله، رئيس الحرس الوطني، وخالد بن سلطان، نائب وزير الدفاع، رغم أن الأخير يتقاسم القوة مع عمّه الأمير سلمان..

يتحدث البعض عن أمراء آخرين مثل الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة، دون تقديم معطيات مقنعة، وقد تعود الى رغبة أكثر منها حقيقة واقعية. خالد الفيصل ليس شخصية نافذة محلياً، ولا يمتلك قوة عسكرية تمكّنه من خوض صراع عنيف في مثل هذه المرحلة، والأهم أن قائمة المنافسين مفتوحة وطويلة بما يجعله مجرد منافس صغير..

على أية حال، فإن ثمة تحدياً كبيراً وراهناً فرض نفسه على العائلة المالكة وهو التحدي المؤجّل لسنوات طويلة، ويقوم على نقل السلطة الى الجيل الثالث..كانت وفاة أقوى قطبين في الجناح السديري الأمير سلطان ولي العهد ووزير الدفاع، والأمير نايف، ولي العهد ووزير الداخلية في غضون ثمانية شهور فرضت الانتقال الحاسم والحتمي الى الجيل الثالث بعد مرور 60 عاماً على حكم مطلق لأبناء عبد العزيز.

لا ريب، أن تغييرات كبيرة في بنية السلط سوف تقع في السنوات العشر القادمة، إن نجى حكم آل سعود من ثورة شعبية وإن بطريقة الاحتجاجات المتقطّعة والموضعية التي قد تندلع في أماكن متفرقة وبصورة غير مترابطة. وإن هذه التغييرات لن تكون سهلة ولا سلسة كما كانت العادة في السنوات الماضية، لأن تقادم الأجيال يجعل السلطة غير منضبطة ولا محصورة في فئة محدودة من البشر. بل إن كثرة المنافاسين يفضي حكماً الى انقسام الناس وتشتت الولاءات والقوة والنفوذ..والاخطر من ذلك، أن الصراع لن يكون بين كبار يدركون طبيعة الأخطار المحدقة بالعرش، بل بين جيل قد يكون تنازل أحد أفراده آخر ما يمكن التفكير فيه وإن أدى ذلك الى انهيار السلطة، ما لم تكن هناك تسويات مرضية بين المتنافسين البارزين والكامنين.

حتى الآن، هناك أخوة كثر للملك يرون أنفسهم ورثة محتملين، إن لم يكن لهم فلأبنائهم، ولذلك فإن الاجتماعات التي تجري حالياً في القصور لا تضم بالضرورة لوناً واحداً، فقد يكون هناك من ألوان شتى متضاربة..ومن تنازل عن السلطة طوعاً أو كرهاً مثل الامير مقرن أو الامير أحمد أو حتى الأمير متعب لا يعني أنه تنازل أبدي، فقد يعودون الى الواجهة بعد موت الملك، ويطالبون بما يعتبرونه حقاً منصوصاً لهم بحكم النظام الأساسي.

الحديث عن توافق وأقدمية وكفاءة كعناصر في معادلة استقرار السلطة وضمانها لم يعد مجدياً في ظل تحوّلات متسارعة، حيث الاهتمام منصب على بناء تحالفات جزئية أو فرعية وعلى القوة وليس الأقدمية أو الكفاءة، وهي، أي التحالفات، وحدها التي يمكن أن تحقق الاستقرار في السلطة لمرحلة مقبلة، على الأقل في السنوات القادمة، قبل أن يعاد تشكيل خارطة السلطة أو هي تتشكل وفق تغييرات ميزان القوى.

نقلت رويترز عن سفير غربي سابق إن أسرة آل سعود ماهرة في إدارة عملية الخلاف وإنها ستكون حريصة على فعل ذلك حين تهب رياح الديمقراطية من اتجاهات مختلفة وقد أطاحت بحكام جمهوريات عربية وضغطت على بعض العائلات الملكية المجاورة للسعودية مثل الاردن. ونقلت رويترز عن محلل اشترط عدم ذكر إسمه (يمكنك المراهنة على أنه في ظل الربيع العربي سيرغبون في اتخاذ قرار يمكنهم جميعا التعايش معه ودعمه).

هذا الكلام ليس جديداَ، فقد ذكر مراراً من قبل المناصرين للعائلة المالكة، ولكن ليس على سبيل الاطمئنان بقدر ماهو تعبير عن رغبة لدى هؤلاء في أن تتوصل العائلة المالكة الى قرارات إنقاذية في مرحلة تحسم فيها خيار نقل السلطة الى الجيل الثالث.

ومن اللافت جداً، أن كل كلام عن الخلافة ووراثة العرش بعد موت الملك يتم فيه استبعاد هيئة البيعة التي أسسها الملك عبد الله العام 2005 بهدف تجاوز مشكلة تعيين ولي العهد ونقلها الى مرحلة يكون فيها الملك قد فارق الحياة، ولكن مع ذلك فقد تجاوزها الملك مرتين ما جعل الهيئة شبه ميتّة، ولذلك فإن لا دور متوقع أن تلعبه الهيئة في المرحلة المقبلة.

الصفحة السابقة