السعودية وإيران في لبنان

رهان الإنتخابات وصراع المحاور

عبدالحميد قدس

استحقاقات جمّة تنتظر لبنان، ليس آخرها الحرب الأهلية الدائرة في سورية، والتي شهدت تطوّراً خطيراً حيث افتتح حلفاء وخصوم النظام السوري جبهات عسكرية في البقاع والشمال اللبنانيين، حتى بات ثابتاً أن هناك من يقاتل الى جانب المعارضة السورية المسلّحة وهم فريق 14 آذار اللبناني، وعلى رأسهم تيار المستقبل الذي يقوده رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري، فيما يقاتل الى جانب النظام السوري فريق 8 آذار، أو على الأقل حزب الله سواء عبر مقاتليه المنتشرين على القرى الحدودية في البقاع أو في المناطق التي يتواجد فيها الشيعة بما في ذلك منطقة السيدة زينب القريبة من ريف دمشق. الاستقطاب الحاد وفي شكله العنيف والدموي في سورية يعكس نفسه سياسياً في لبنان، حيث الانخراط الواسع من كل القوى بات مكشوفاً؛ وسوف تزداد حدّة الصراع كلما اقترب لبنان من الاستحقاق الانتخابي في الربيع المقبل.

السفير السعودي في احتفال باليوم الوطني

ليس هنالك من شك في أن الصراع الايراني السعودي في لبنان بات شديد الخطورة، ويرتبط بمعادلة المحاور القائمة، وفي ظل إصرار كل محور على الدفاع باستماتة عن مواقعه وتحصينها بكل مصادر القوة المتوافرة. صراع المحاور أنهك المنطقة بكل دولها، خصوصاً في ظل نزوعات شديدة لدى كل طرف في استخدام كل الأوراق التي بيده من أجل كسر الطرف الآخر..وبات من شبه المستحيل في الوقت الراهن الحديث عن تسوية يمكن التوصّل اليها بين طهران والرياض، فقد باعدت الحرب في سورية بينهما الى حد باتت حربهما ولكن على الأرض السورية. ولا يتردد السعوديون والايرانيون في التصرف على أساس أن سورية الدولة والشعب هما جزء من مجالهم السيادي..

لن تنفصل المعركة في سورية عن أي تجاذب سياسي في لبنان، فهما مكوّنان رئيسان في صراع المحاور تماماً كما العراق وقوى المقاومة الفلسطينية، حيث يجري العمل على تفكيك معسكر بأكمله، بمساعدة أطراف إقليمية تركية واسرائيلية ودولية أوروبية وأميركية فيما دخل الروس والصينيون على خط التجاذب بهدف الدفاع عن آخر مناطق نفوذهم في الشرق الأوسط، المتمثلة اليوم في سوريا..

لا يفصل السعوديين والايرانيين عن الاستحقاق الانتخابي في لبنان سوى أربعة شهور، وبالتالي فإن أي تطور قد تشهده الساحة السورية خلال هذه الفترة سوف يعكس نفسه بصورة تلقائية على لبنان، بل إن تدهور الوضع الأمني في سورية سينقل الصراع مباشرة الى جارتها الشمالية الغربية والتي قد تفتح صراع المحاور على آفاق بعيدة وخطيرة..

تطوّر خطير في ملف الصراع الايراني السعودي في لبنان برز مع تعيين الأمير بندر بن سلطان رئيساً للاستخبارات العامة والذي يعتبر المهندس الفعلي لتوجهات فريق 14 آذار الى جانب مسؤوليته عن الملف السوري. فقد كانت إقالة الأمير مقرن بن عبد العزيز من منصبه قد أنعش آمال الفريق اللبناني الحليف للسعودية، كونه وضع الاجهزة الامنية اللبنانية التابعة لفريق تيار المستقبل تحت تصرّف الأمير بندر الذي بات القائد الفعلي لأطياف فريق 14 آذار..

بطبيعة الحال، فإن الأمير بندر بن سلطان الذي يصرّ على ربط الملفين السورين واللبناني ببعضهما، يضع خطة لفريق 14 آذار في تنفيذ أجندة سعودية في سورية تقوم على تمويل بعض الجماعات المسلّحة المحسوبة على التيار السلفي الوهابي دون سواها، بخلاف ما يقوم به الأتراك من دعم خيار الإخوان المسلمين في سورية المقرّبين منهم. الأمير بندر الذي لم يزر تركيا حتى الآن للتنسيق في ملف الأزمة السورية يفضّل إبقاء هذا الملف مقتصراً على الأميركيين والبريطاينيين لاعتقاده بأن هناك من لديه أجندات خفيّة قد تفقد السعودية نفوذها بعد سقوط النظام السوري.

لاريجاني في بيروت مؤخراً

قصة تسليح المعارضة السورية عبر زعيم تيار المستقبل سعد الحريري والنائب عقاب صقر والتي جرى توثيقها في اتصالات هاتفية بينهما وبث عبر وسائل إعلام لبنانية، تكشف طرفاً من المنهج السعودي في مقاربة الأزمة السورية..بل إن نقل الملف من انقرة الى الدوحة وبدء وزير الخارجية سعود الفيصل استقبال وفود المعارضة السورية في الرياض وبصورة علنية وبحفاوة بالغة ووضع مبادىء عامة لعمل المعارضة السورية ينم عن أن السعودية كانت ترغب في نقل الملف اليها بحيث تتصرف وكأنها الراعي الرسمي للمعارضة السورية المسلّحة..

في لبنان، هناك معركة انتخابية قادمة، ويصر آل سعود على كسبها، ولذلك فإن صراعاتهم مع ايران سوف تكون هذه المرة أشد شراسة مما يتخيّل المرء، لأن تغيير المعادلة السياسية في لبنان يعني تمهيداً حتمياً لتغيير كبير في سورية. وبذلك، فإن حصول فريق 14 آذار المدعوم والمموّل سعودياً على أكثرية نيابية يعني بالنسبة لها نصراً استراتيجياً كبيراً وسوف يضع المعسكر الآخر، الممانع، أمام امتحان الوجود. الى جانب ذلك، فإن فوز الحليف السعودي في لبنان سوف يعني أيضاً أن الاخفاقات التي عانى منها النظام السعودي منذ اندلاع الربيع العربي سوف يجري تعويضها بعودتها الى واجهة المشهد اللبناني.

في المقابل أيضاً، فإن طهران سوف تناضل بقوة من أجل دعم حليفها المتمثل في حزب الله وحركة أمل وحلفائهما في لبنان من السنّة والمسيحيين والدروز وغيرهم من القوى السياسية والاجتماعية الأخرى كيما يحصدوا أكثر المقاعد البرلمانية التي تؤهّلهم للبقاء على رأس السلطة في لبنان..والرهان يبقى دائماً على استمالة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط لترجيح كفة أحد المتنافسين.

في الاعلام اللبناني كلام خاص عن المعركة الانتخابية في لبنان والتي تديرها الرياض وطهران وكل حسب طريقته، فالسفير السعودي علي عسيري والذي افتتح المعركة الانتخابية عبر توجيه دعوات لشخصيات حزبية وسياسية فاعلة ونافذة في الساحة اللبنانية بزيارة المملكة وأبرزها لرئيس حزب الكتائب أمين الجميل والنائب ميشال المر، والتي اعتبرت بداية مواجهة متنية ضد التيار الوطني الحر، الأكثر شعبية في الطائفة المسيحية، عبر تشكيل تحالف ثلاثي يضم (الكتائب) و(القوات) الى جانب تيار ميشال المر القوي (متنياً).

في المقابل، فإن زيارة رئيس مجلس الشورى الايراني علي لاريجاني الى بيروت في 23 نوفمبر الماضي والتي اجتمع خلالها برئيس مجلس النواب نبيه بري الى جانب عدد من وزراء ونوّاب فريق 8 آذار لا شك أنها حملت دلالات بالنسبة للمراقبين والمتابعين والتي تأتي في سياق الرد على التحرّك السعودي، وذلك قبل موعد الانتخابات اللبنانية التي بدأ الاستعداد حولها والجدل بشأنها بين كل الأطراف خصوصاً مع تبدّل قانون الانتخابات واعتماد قانون النسبية الذي يصب في صالح 8 آذار في مقابل قانون الستين الذي ينتمي الى النظام الطائفي اللبناني ويكرسه بحسب مشرّعين دستوريين لبنانيين مستقلين.

ايلي سكاف يزور الرياض بدعوة من الفيصل

بدأ المال السعودي يجد طريقه الى القيادات السياسية في فريق الرابع عشر من آذار منذ الآن، استعداداً للاستحاق الانتخابي القادم، فيما يعيش النائب والزعيم الدرزي وليد جنبلاط قلق الرهانات، في ظل تحديات يصعب فيها الانزياح بسهولة الى خيار مكلّف، ولذلك فهو لا يزال يلتزم خطّاً وسطاً أقرب الى رئيس الجمهورية، في ظل إشارات سلبية برزت مؤخراً عن خلاف بين جنبلاط والحريري على خلفية مطالبة الاخير باتخاذ جنبلاط موقف حاسم من حكومة ميقاتي عقب اغتيال مدير الأمن العام اللواء وسام الحسن. جنبلاط رفض طلب الحريري معللاً ذلك بأن من غير الممكن التفريط في الحكومة في ظل أوضاع شديدة التعقيد والخطورة. ولكن السؤال: هل يبقى جنبلاط متمسّكاً بموقفه المحايد، أم أنه ينتظر، كغيره، ما سوف تسفر عنه الأوضاع الأمنية والعسكرية في سورية خلال الشهور القليلة المقبلة، وعلى ضوء ذلك يقرر الى أي من الفريقين يميل.

في تطوّر آخر لافت يشي بحدّة الصراع بين المحورين الايراني والسعودي، وتمثل في زيارة النائب الزحلاوي إيلي سكاف الى السعودية، والتي تفتح معركة زحلة في مرحلة مبكرة، بالنظر الى ما تمثله زحله من ثقل مسيحي وانتخابي بالغ الأهمية. ففي مقابل الاهتمام السعودي بالتحضير لمعركة المتن الشمالي انتخابياً، فإن زحلة برزت هي الأخرى كجبهة متقدّمة في المعارك الانتخابية، كونها رهاناً انتخابياً نوعياً ويمكن أن يحسم في بعض الجولات المعركة الانتخابية لهذا الفريق أو ذاك. ايلي سكاف، الوزير السابق، ورئيس (الكتلة الشعبية) زار السعودية تلبية لدعوة وزير الخارجية سعود الفيصل، وهي من بين دعوات أوصلها السفير السعودي علي عسيري الى عدد من القيادات الحزبية والسياسية اللبنانية والتي يمكن التعويل عليها في قيادة المعركة الانتخابية المقبلة.

من الضروري الاشارة الى أن العلاقة بين آل سكاف وال سعود تعود الى منتصف القرن الماضي، وكان جوزف سكاف، والد إيلي سكاف، وزيراً في الخمسينيات وكان على علاقة بالنظام السعودي والتي استمرت حتى اتفاق الطائف، والذي عارضه سكاف الأب كونه لم ينص على مدة بقاع القوات السورية، ثم توفي بعد ذلك بوقت قريب اي العام 1991. وتولى ايلي اسكاف وزارة الصناعة والتجارة في حكومات رفيق الحريري وعمر كرامي وفؤاد السنيورة، وانتخب نائباً عن زحلة في انتخابات 2000 و2005، ولكن انهزمت لائحته بالكاملة وبصورة مفاجئة في انتخابات 2009، وأوعز ذلك الى عملية نقل آلاف من أصوات السنّة الى الدائرة الاولى والى ما أسماه حينذاك (رشاوى على عينك يا تاجر وعلى مرأى من كل الناس).

الصحافة اللبنانية نظرت الى زيارة ايلي سكاف الى الرياض بأنها غير عادية. فمن غير المعقول أن تقدّم دولة اقليمية ولاعب فاعل على الساحة اللبنانية دعوة لرئيس تيار سياسي مرجح في دائرة زحلة فقط (للسؤال عن الشؤون العائلية أو الخاصة)، وإنما الهدف من وراء ذلك هو للتواصل السياسي ووصل ما انقطع إذا كان ممكنا. وفي تقديرنا أن الزيارة جاءت لابلاغ سكاف أن ما جرى في 2009 هو بسبب خياراته السياسية، وأن الفرصة أمامه لتعويض تلك الخسارة في حال قبل تبديل خياراته السياسية، وبالتالي فإنّ أهمية الدعوة نابعة من هوية الداعي والمدعو، فالسعودية تعوّل كثيراً على دور زحلة في الانتخابات المقبلة، وإن قبول سكاف للدعوة تعكس قبولاً مبدئياً بتصحيح خياراته السياسية حتى لا يتكبّد خسارة فادحة على غرار ما جرى في العام 2009.

بطبيعة الحال، لا نتوقع من أوساط ايلي اسكاف أن تكشف عن طبيعة الزيارة وأهدافها، ولذلك فقد اكتفوا بالقول بأنها اقتصرت على الشكليات دون مقاربة الاتفاقات والتحالفات أو حتى البحث في الشؤون الانتخابية، (فالمنطقة تمر بتحولات ومن المبكر جدا التطرق إلى مثل هذه المواضيع في هذا التوقيت بالذات)، وهذا الكلام غير دقيق بل هذا النوع من التبرير يزيد في حجم الشكوك حول الزيارة. ويؤكد هؤلاء أنّ الزيارة لا تحمل مؤشرات بالقدر الذي تناوله بعض الاعلام أو الشخصيات المنزعجة منها، لاسيما أنّ سكاف لم يحسم خيارته بعد، وهو إن فعل فلن يخرج عن ثوابته بحسب التعبير.

على أية حال، فإن تجارب الانتخابات السابقة تكشف عن أن خارطة التحالفات السياسية تبلغ من السيولة بحيث يصعب التنبوء أحياناً بما ستؤول اليه الانتخابات، وكل ذلك يتوقف على أوضاع الصراع السياسي والعسكري الاقليمي.

الصفحة السابقة