(عدم التدخل في شؤون الآخرين):

كذبة دبلوماسية سعودية

عبد الوهاب فقي

لعل أشهر عبارة درج على ترديديها السفير السعودي في لبنان، سواء كان عبد العزيز الخوجة، وزير الثقافة الحالي، أم عبد الله العسيري، السفير الحالي، هي أن (المملكة تقف على مسافة واحدة من جميع الأفرقاء)، ولا ندري من الأهبل الذي صكّ لهم هذه العبارة حتى يصر الدبلوماسيون السعوديون على ترديدها كلما تراكمت الإنتقادات حول الدور المشبوه لآل سعود في شؤون الدول والشعوب الأخرى. ومن المصادفات العجيبة أن يكون لبنان هو المكان الذي يتحدث فيه أحد عن عدم التدخل، وهو الفضاء المفتوح على تدخلات كل الدنيا إلا شعبه.

ما يبعث على السخرية أن العبارة تتكرر في ذات الوقت الذي تضع السعودية يدها في هذا الملف وذاك، وتجلس مع أقطاب الصراع، فتقدّم لهذا المال، ولهذا السلاح، وللآخر التموين، وللرابع المخططات.. ثم تعود وتدير الاسطوانة مجدداً (نقف على مسافة واحدة...الخ). شكاوى تصدر من الضحايا في العراق ولبنان واليمن والسودان ومصر وتونس وصولاً الى المغرب حيال تدخلات سعودية مباشرة وغير مباشرة وتؤدّي الى سفك الدماء، أو انقسام المجتمع، أو ضغوطات على القيادات السياسية من أجل وقف التفكير في نقل السلطة أو تداولها سلمياً وديمقراطياً.

تدخل سعودي مسلح في البحرين

آل سعود يحذّرون كل العالم من التدخّل في شؤون البلاد الداخلية، ولكن تدخّلهم يصل الى حد الغضب على إدارة أوباما لأنها تخلت عن حليفها المستبد حسني مبارك، حين اقتربت الثورة الشعبية في مصر من النصر وتحقيق أول أهدافها بتنحي مبارك عن السلطة. وقبل ذلك استقبلت زين العابدين بن علي، طاغية تونس على أراضي المملكة بعد أن رفضت بلدان العالم السماح لطائرته بالهبوط في مطاراتها، ورفضت تسليمه للسلطات التونسية لمحاكمته على جرائمه ضد الشعب التونسي..ولم يكن ذلك تدخل في شؤون تونس الشقيقة الداخلية!

وأرسلت في 15 آذار (مارس) قوات درع الجزيرة الى البحرين لقمع انتفاضة الشعب البحريني في مطالبته بالانتقال الديمقراطي الحقيقي، ولم تعد ذلك تدخل في الشؤون الداخلية لدولة شقيقة، والذريعة الفارغة: أن حكومة البحرين هي من طلبت هذا التدخل..مع ذلك، فقد نفى تقرير لجنة التحقيق التي رأسها شريف بسيوني أن تكون هناك أية تهديدات تتعرض لها دولة البحرين من الخارج، ما يجعل وجود قوات أجنبية على أرض البحرين غير شرعي.

الحال نفسه في اليمن، التي بلغت ثورتها مرحلة متقدمة أثارت إعجاب ودهشة العالم لسلمية الثورة في بلد ينتشر فيه السلاح، وينافس عدد أقراص الخبز. قررت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، اغتيال الثورة عبر ما عرف بـ (المبادرة الخليجية) التي كانت تستهدف إنقاذ النظام اليمني من السقوط..ولم يتوقف التدخّل السعودي عند هذا الحد، فقد بعثت بالمال والسلاح الى زعماء القبائل لاشعال الفتن الطائفية والقبلية لحرف الثورة عن مسارها..

التدخل السعودي في الشؤون الداخلية للدول العربية أخذ أشكالاً متعددة، فهناك تدخّل عبر المال والأحزاب كما في مصر وتونس واليمن، وهناك تدخّل عسكري مباشر كما في البحرين، وهناك تدخل عبر المال والأحزاب والسلاح والمخابرات والرجال كما في سوريا..وتتصرف أحياناً في بعض الدول كما لو أنها صاحبة اليد الطولى كما في لبنان، حيث تفرض إملاءاتها على حلفائها من فريق 14 آذار، ويستجيب هؤلاء لطلباتها، طمعاً ورجاءً في المال السعودي..

مشهد التدخلات السعودية على طول خارطة الشرق الأوسط بات مكشوف ومعروف، وليس هناك من يستطيع إخفاء آثاره، بل إن الضحايا أنفسهم يطلقون تصريحات (نفثة مصدور) في لحظة يصل فيها التدخل السعودي حدوداً لا تطاق، ما يدفع ببعض المسؤولين للبوح بما يعانونه من ويلات هذا التدخل سواء كان سياسياً أو أمنياً أو حتى طائفياً، عبر الجماعات السلفيّة المتطرّفة كما في تونس وليبيا ومصر..

ما يثير السخرية حقاً مزاعم النظام السعودي التي ينفي فيها تدخله في شؤون الدول الأخرى، وكأنه إما يسخر من عقول الآخرين أو أنه يغفل حقيقة كون الزمن قد تغير وأن هذا النوع من المزاعم لاسوق له وبات خارج الزمن.

التدخل في اليمن: المال والسلاح والخطط والتآمر

لقد لفت انتباهنا موقفان متناقضان في يوم واحد لوزير الخارجية سعود الفيصل، الأمر الذي يعكس ليس تغيّراً في السياسة الخارجية السعودية بقدر ما يعكس أيضاً التناقضات المتزايدة فيها.. يقول سعود الفيصل في تصريحات له في 4 ديسمبر الجاري بأن (المملكة لا تتدخل فى الشئون الداخلية للدول الشقيقة والصديقة)، وهذا التصريح يأتي للرد على سؤال حول التدخل السعودي في الحوادث الأخيرة في مصر عقب الإعلان الدستوري للرئيس محمد مرسي، والذي أثار موجة احتجاجات عمّت الشارع المصري. سعود الفيصل يقول بأن (ما يحدث فى مصر “شأن داخلى” وأن الشعب والحكومة المصرية أدرى بشئونهم). وأضاف في سياق رده على تطورّات الاحداث في مصر بالقول (إن السعودية لا تتدخل فى الشئون الداخلية للدول الشقيقة والصديقة، وما يحدث فى الشقيقة مصر شأن داخلى، وأشقاؤنا فى مصر هم أدرى بشئونهم). حسناً، إذاً مالذي جعل هذا السؤال مطروحاً وموجّهاً للسعودية على وجه التحديد؟ ولماذا ينفي سعود الفيصل بهذه الطريقة تدخل حكومة أسرته في الشؤون الداخلية في مصر، رغم أن المصريين عموماً يعلمون بأن أصابع السعودية تعبث بأمن المصريين، وباستقرارهم، وحتى برغيف خبزهم، عبر وضع شروط صارمة وابتزازية على الحكومة المصرية لجهة إخضاعها تحت النفوذ السعودي.

في المقابل، وفي اليوم نفسه، أي 4 ديسمبر الجاري، يستقبل سعود الفيصل رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض الشيخ أحد معاذ الخطيب، ويستعرض معه المستجدات على الساحة السورية. وبصرف النظر عن موقف النظام السعودي من بشار الأسد أو حكومته، فهل يمكن تعريف أو توصيف الموقف السعودي الرسمي من الدولة السورية، هل هي شقيقة أم صديقة أم عدوّة؟..ولتكن دولة معادية، فهل في القانون الدولي ما يجير التدخل الشامل والمطلق في الشؤون السورية الى حد ارسال السلاح بكل أنواعه والمسلّحين من كل التنظيمات بما فيها تنظيم القاعدة وتشجيع القتال الدائر في كل محافظات ومدن وقرى سوريا..

ومن أي منطلق أو مبدأ في السياسة الخارجية لدولة أن يرحب وزير خارجيتها بتشكيل إئتلاف معارض ويعتبر ذلك (خطوة إيجابية مهمة تجاه توحيد المعارضة تحت لواء واحد)، ويضاف الى ذلك استعراض ما يجري على الساحة السورية وما تقوم به المعارضة السورية من اتصالات على المستوى الدولي.

سعود الفيصل لم يستقبل معارضاً واحداً بل استقبل وفداً من الائتلاف السوري المعارض وأراد بذلك أن يقول بصورة علنية أن حكومة أسرته باتت اليوم في حالة حرب مع النظام السوري، وعلى الأخير أن يتصرف على هذا الأساس..فهل التدخل في الشؤون الداخلية للدول يتطلب أكثر من ذلك؟

وفي مصر: السعودية تقود الثورة المضادة

هو لم يكتف بمجرد اللقاء مع وفد من المعارضة السورية، بل هو يملي ما يجب على سوريا أن تكونه بعد الآن. يقول في تصريح له في مؤتمر صحافي في 4 ديسمبر بأن الانتقال السياسي للسلطة في سورية يبقى (أكثر ضرورة وحتمية) للحفاظ على وحدة هذا البلد أرضاً وشعباً، معتبراً أن (الوضع يزداد تدهوراً). وعاد وأكّد بأن (توحيد المعارضة واستمرار توحيد الفصائل الباقية هو أهم حدث في الفترة الأخيرة. وإذا استمر هذا التوجه فسيزيد ذلك من فعالية المعارضة). وأضاف الى ذلك (المعارضة والائتلاف قادران على إدارة الوضع في سورية ما بعد بشار الأسد كي تحافظ البلاد على وحدتها وتعامل شعبها بمساواة). وحول مستقبل الوضع في سوريا حدد سعود الفيصل مهمة المعارضة والائتلاف وقال بأن (لديهم عملا شاقا لإعادة بناء سورية حيث الوضع مأسوي نتيجة الدمار والقصف)، مشيرا إلى أن (أخوتهم وأصدقاءهم في العالم العربي سيساعدونهم). وتجاوز في استشرافه مستقبل سورية الى أوضاع ما بعد سقوط النظام، فطمأن الأقليات في سورية وقال (ليست هناك رغبة في الانتقام وملاحقة الذين قاتلوا في الحرب، وبالتالي فإن التخويف من هذه القضية هو سبب إعاقة الحل).

لاشك أن من يقرأ تصريحات سعود الفيصل لا يتردد في الوصول الى نتيجة واحدة أن الرجل يتصرف وكأنه صانع القرار الفعلي في الأزمة السورية، فهو يحدد ما على المعارضة فعله، وما هو صالح لسورية، وما سيؤول اليه الوضع فيها، وماهو حال الاقليات بعد سقوط النظام. بكلمة إنه يريد ابلاغنا جميعاً إن القرار في سورية هو سعودي في نهاية المطاف. واعتقد أن هذه التصريحات كفيلة بإخافة كل من يتطلعون الى الديمقراطية في سورية.

وحتى تتأكد نزعة التسلّط السعودية، نقرأ تصريحات سعود الفيصل حول اليمن، فقد دعا (كافة الأطراف السياسية في اليمن بمختلف فئاتهم وأطيافهم إلى الاستجابة لجهود الحكومة اليمنية والانخراط في المؤتمر الوطني للحوار الشامل). وأكّد في مؤتمر صحفي عقده بمقر وزارة الخارجية بالرياض في 4 ديسمبر (أن اليمن يحتاج اليوم للحوار الوطني الشامل لاستكمال تنفيذ نصوص اتفاقية المبادرة الخليجية). فهل التدخل في الشؤون الداخلية يتطلب إثباتاً أقوى من ذلك؟

يقول سعود الفيصل (نحن نتابع باهتمام الجهود القائمة لعقد المؤتمر الوطني للحوار الشامل ، وندعو الأشقاء في اليمن بكافة فئاتهم وأطيافهم إلى الاستجابة لجهود الحكومة اليمنية والانخراط في هذا الحوار المهم الذي يحتاجه اليمن وكل اليمنيين اليوم، أكثر من أي وقت مضى استكمالاً لتنفيذ نصوص اتفاقية المبادرة الخليجية، وللحفاظ على وحدتهم الوطنية والإقليمية، وتحقيق أمنهم واستقرارهم وازدهارهم).

فلماذا يجوز لعضو في حكومة دولة ما أن يملي على حكومة وقوى سياسية في دولة أخرى ما يجب عليها القيام به من أجل تحقيق الامن والاستقرار والازدهار..ولماذا يتم التعامل مع هذه الدولة وكأنها غير راشدة، أو أنها تابعة ولابد من أن ترضخ لإملاءات الخارج..لمجرد أنها تعتمد على مساعدات مالية منها..

سوف يقال بعد الكلام سالف الذكر أن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بات هو القاعدة وأن عدم التدخل هو الاستثناء، ونقول نعم هو كذلك، ولكن لماذا يصر أمراء آل سعود على تكرار هذه الكذبة، فيما العالم كله بات يعلم أن أيادي ال سعود ممتدة في كل شؤون الدول العربية من المحيط الى الخليج، وأن قسطاً كبيراً من ثروتها مخصص لتمويل مشاريع التدخل في هذه الدول، وترى بأن لا سبيل الى درء أخطار الدول الأخرى عنها الى عبر مشاغلة الأخيرة بمشكلاتها الداخلية حتى لا تفكر بنقلها الى الخارج وخصوصاً الى السعودية..ولذلك لحظنا كيف أن الأخيرة بدأت تلوّح بخيار المعونات الى مصر وتونس واليمن والأردن، بل استعملت المعونات كسلاح تهدد به من لا يمتثل لإملاءاتها.. فهل يكف آل سعود عن كذبة عدم التدخل في شؤون الاخرين قبل أن تكون سبباً لخصومة واسعة معهم من الدول المتضررة من تدخلاتهم الشائنة!

الصفحة السابقة