ما وراء الإنتعاش السلفي في السعودية والمنطقة

محمد قستي

انتعاش التيار السلفي في المملكة السعودية بفرعيه العنفي المسلح، والتكفيري المتطرف.. أمرٌ ظاهر، وإن اتخذ حتى الآن صفة المطالبة باطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات، مع التشديد على اولئك المنتمين الى تيار القاعدة، او المتعاطفين معها، أو المنظرين الفقهيين لها، بمن فيهم نساء اشتهرت اسماؤهن على صفحات الأخبار والانترنت (تويتر والفيس بوك). ومع ان المعتقلين السياسيين بعشرات الألوف وهم في غالبيتهم ليسوا من القاعدة، فإنهم لم يحاكموا أصلاً، ولو كانت المحاكمة مزوّرة ولم تستوف شروط المحاكمة العادلة. بمعنى آخر، فإن المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، ليس خاصيّة (سلفيّة)، وبالضرورة ليس خاصية قاعدية، بل انها موجودة في كل المناطق، من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب، وتشمل كل معتقلي الرأي، بمن فيهم معتقلي القاعدة، او المتهمين على أرضية التعاطف معها، ممن حرموا من حقوقهم المشروعة والشرعية، بغض النظر عن الموقف من فكر القاعدة ووسائلها وأهدافها.

لكن ظاهرة الإنتعاش السلفي في السعودية أوضح ما تكون في وسطها النجدي، فالشيعة في الشرق طرحوا موضوع من يسمونهم بـ (السجناء المنسيين) منذ 17 عاماً بدون محاكمة، وقد كان سجنهم سبباً في تفجّر الأوضاع منذ فبراير 2011 وحتى الآن. والليبراليون والإصلاحيون والإسلاميون المعتدلون في كافة المناطق طرحوا قضية سجناء الرأي عامة ودافعوا عنهم وأوضحوا أن حقوقهم منتهكة على الدوام، ومن أبسط ذلك سجنهم بلا محاكمة أصلاً. ولكن هذه التحركات اعتاد عليها المواطنون، اللهم إلا التيار السلفي المتشدد، الذي اعتاد التعبير عن ذاته بوسائل أخرى. فالمظاهرات والوقفات الإحتجاجية جديدة على سلوك أتباعه، والمتعاطفين معه، ويرجح أنه استلهمها ليس من دول الربيع العربي، بقدر ما هي محاكاة للمواطنين الشيعة في الشرق، حيث لا يريد أن يظهر هذا التيار بأنه أقلّ شجاعة وقدرة على تنظيم احتجاجات من نوع ما، وإن كانت تلك الإحتجاجات لا تقارن من حيث الحجم بما يجري في المناطق الشرقية، حيث عشرات الألوف من المحتجين المتظاهرين نساء ورجالاً، في حين أنها في القصيم والرياض والتي ينظمها التيار السلفي لا تزيد عن العشرات، ولم تتجاوز ربما المائة في كل الحالات التي شهدناها حتى الآن.

لكن المعنى السياسي للحراك السلفي أقوى، فهذا التيار محسوب أصلاً على النظام السياسي وبيئته الإجتماعية، ولطالما مثّل أداة بيد النظام في مواجهة التيارات الأخرى. وهذا التيار لا توجد له سابقة اعتراض سياسي من هذا النوع: الإضراب والإعتصام وخروج النساء، ورفع اللافتات، والحرب على اليوتيوب وتويتر وطرح الشعارات. هذا جديد كليّة على الثقافة السلفية، بل أن الفقه السلفي يحرّم كل ذلك، وكل ما يمسّ الحاكم السعودي بالسوء.

نعم.. ظهر بين التيار السلفي عنفيون، وتنظيمات عنف استخدمت السلاح، ولكنها لم تجرّب العمل السياسي السلمي الإعتراضي ـ وإن كان قد انحصر بشأن اطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات السلفيات ـ كما هو الحال الآن. ولربما يمكن القول ان التيار السلفي ـ المتعاطف جزء منه على الأقل مع القاعدة ـ اضطرّ الى هذا السلوك السياسي بعد ان طفح الكيل بإطالة فترات الإعتقال التعسفي الظالم ـ بنظرنا، وبعد وضوح عدم نجاعة التغيير بوسائل العنف وعدم وجود تعاطف شعبي معه، وكذلك بعد الزلازل التي تعرّضت لها المنطقة العربية بسبب الثورات، والتي كشفت أنه يمكن للحراك السلمي الشعبي أن يغيّر واقع الأنظمة المستبدّة.

ظاهرة انتعاش التيارات السلفية في المنطقة العربية عامّة كانت واضحة في الأشهر الأخيرة، سواء في المملكة السعودية أو على امتداد العالمين العربي والإسلامي. بل حتى التيارات القاعدية، التي هي جزء من السلفية، ونشأت من رحمها، وتغذت من فكرها، بل هي الأكثر أمانة على تطبيق النصوص السلفية (الوهابية).. هذه التيارات وجدت لها متسعاً في الفترة الأخيرة لأن تعبّر عن نفسها، كأشخاص وكرموز وكتيارات وأن تظهر هكذا في وضح النهار حاملة أعلام القاعدة، مدافعة عن رموزها، في جرأة غير متخيّلة الحدوث قبل فترة غير بعيدة.

يمكن أن يعزى الإنتعاش السلفي، ومن ضمنه القاعدي العنفي، الى عامل أساس وهو الإنفجار السياسي في البلدان العربية ووقوع الثورات فيها. لقد نُظر الى الثورات العربية السلمية وكأنها تجاوزت منهج القاعدة في التغيير. القاعدة فشلت في التغيير عبر العنف، في حين ان نهج السلمية أطاح بأعتى الديكتاتوريات. وكان يفترض ان تتصاغر القاعدة ورمزيتها أمام تجاوز الجمهور العربي لها، من حيث التكتيك في انتزاع الحقوق السياسية، أو من حيث الأهداف: فأهداف القاعدة معروفة وهي إقامة دولة دينية وفق منهج السلف (الوهابية)؛ في حين أن الجمهور العربي أراد دولة مدنيّة ديمقراطية يتمتع بها الجميع بحقوقهم.

الذي حدث هو أن الثورات العربية فتحت ثلاثة آفاق أساسية أساسية، تنفّس من خلالها التيار السلفي عامة، فانتعش انتعاشاً كبيراً فاجأ الكثيرين. هذه الآفاق هي:

الأول ـ أن سقوط الأنظمة العربية الديكتاتورية تمّ عبر قوى غير سلفية، بل أن السلفية ـ عدا في ليبيا ولأسباب خاصة ـ كانت صامتة، بل ومعارضة للتغيير، بل وأكثر من ذلك كانت متهمة بأنها ممالئة لتلك النظم الفاسدة، وأنها مخترقة من قبلها، بل وأنها شريكة في بعض جرائمها، كما هو الحال مع سلفيي مصر المتهمين بتفجير الكنائس وقت الثورة. وقد أدّى سقوط تلك الأنظمة المستبدّة ـ وكما هو متوقع ـ الى فراغ سياسي، والدخول في مرحلة انتقالية مصحوبة بمساحة واسعة من الحرية (حتى غير المنضبطة). وهنا ظهرت كل القوى الى السطح، مدفوعة بعاملي: القمع السياسي السابق، وبالرغبة في الحصول على جزء من مغنم السلطة ـ على الأقل. ولهذا رأينا التيار السلفي ـ ذي العقل السياسي الصغير ـ يظهر بشكل قوي في تونس ومصر وليبيا، مستفيداً من ضعف السلطة المركزية، وليقوم بأعمال وأفعال يحاسب عليها القانون، ولكن من دونما حسيب تقريباً، حيث أخذ بعضهم السلطة بيده، خاصة في الموضوعات الدينية (تدمير الأضرحة ؛ والتهديد للخصوم بالعنف وممارسته عبر الإغتيالات والإعتداءات الجسمانية، والقيام بأعمال شغب في الشارع، مع ما يصاحب ذلك من تخريب وغيره). ولأن التيارات السلفية عامّة موجودة قبل الثورات العربية، وان كان فعلها السياسي جامداً، تمكنت من تعبئة بعض الفراغ السياسي في الساحة، وتغلّبت على القوى المدنيّة الأخرى الناشئة حديثاً بعد الثورات، وهذا ما أشعر البعض بالخوف من أن أعداء الثورة والحرية والديمقراطية، يمكن أن يختطفوا تلك الثورات، ويحولونها الى اتجاه آخر.

الثاني ـ ان الثورات العربية أضعفت الأنظمة العربية بشكل عام، حتى تلك التي لم يصبها زلزال الثورات في العمق، وهذا الضعف فتح كوّة أخرى للقوى القاعدية للتنفّس، وللقوى السلفية أن تبرز أكثر فأكثر وتتحدّى أيضاً. ولعلّنا راينا كيف طفى على السطح وانتعشت القاعدة في البحرين وحملت راياتها جهاراً أمام السفارة الأمريكية، بعيد مهاجمة القنصلية الأمريكية في بنغازي ليبيا وقتل السفير على يد قوى سلفية. وأيضاً نتذكر ما حدث من رفع أعلام القاعدة والتظاهر امام السفارة الأمريكية في الكويت وهم يرددون: (أوباما.. أوباما، كلّنا أسامه). وأيضاً نتذكر حمل أعلام القاعدة في تظاهرات الأردن وغيرها.

الأنظمة المستبدة التي أضعفها الربيع العربي نسبياً، كما في البحرين والكويت والأردن واليمن بالضرورة وغيرها، منحت القاعدة، والتيار السلفي جملة، فرصة الخروج من قمقمه والإنتعاش، وسهّلت عليه التواصل بين أذرعه المختلفة، كما سهّلت انتقال الأفراد والسلاح والأموال عبر الحدود، كما هي التجربة الليبية التونسية والجزائرية، وكما في سوريا، حيث نالت القاعدة شرعية (وشرف!) مقاتلة الأسد، تحت نظر الناتو والغرب والدول الحليفة التي تزعم محاربتها للقاعدة، كما السعودية وتركيا وقطر والإمارات والكويت والأردن.

الثالث ـ غضّ النظر عن القاعدة والتيار السلفي من قبل الغرب والأنظمة الحليفة للعمل العسكري ضد أعدائهم كما في ليبيا وسوريا، وهذا أضاف الى قدرة التنظيمات السلفية والقاعدية ووسع من قاعدتها الجماهيرية، خاصة وأن أموالاً كثيرة تنهال عليها من المصدر، خاصة السعودية ودول الخليج. وهذا الفعل ستظهر آثاره مستقبلاً، بعد أن ينتهي دور التيارات السلفية ذات (العقل السياسي الصغير)، لتصبح هي المستهدفة، كما هي العادة، ولتقوم بفتح معارك مع الأنظمة التي دعمتها، كما حدث في اليمن وأفغانستان والباكستان. وستدفع المجتمعات السنيّة عموماً ثمناً باهظاً لهذه الإستراتيجية العمياء القائمة على الإستفادة من التنظيمات السلفية المسلحة ضد الخصوم، حيث ستتحول المعركة ضد الجمهور نفسه الذي احتضنها، كما حدث لسنّة العراق العرب، وكما بدأ يحدث في سوريا.

ان الإنتعاش السلفي ليس نابعاً بالضرورة من قوى ذاتية يمتلكها السلفيون، بقدر ما هي تقاطعات المصالح، والإستغلال السياسي لقوى جاهلة بالسياسة ما يتيح استخدامها لضرب الخصوم قبل ان تشتعل النار مجدداً في كل بلد، كما حدث مع (العائدون من أفغانستان) و(العائدون من العراق) وغداً يمكن أن يقال (العائدون من سوريا)!

لا مستقبل سياسي للتيارات السلفية، خاصة المسلّحة منها، إذ يصعب ضبطها ضمن اللعبة السياسية الديمقراطية التي لا تؤمن أساساً بها. وستجد الأنظمة الوليدة من الثورات العربية نفسها وجهاً لوجه معها بعد أن تستنفذ أغراضها منها، وبعد أن يستنفذ الغرب حروبه في المنطقة.

الصفحة السابقة