مقرن نائباً ثانياً

قرار الساعات الأخيرة

محمد السباعي

قد تكون المرة الأولى منذ بدء العمل بتقليد تعيين النائب الثاني، تكون الشخصية المرشّحة لهذا المنصب مجهولة لأغلبية الناس، إن لم يكن الاغلبية الساحقة منهم بمن فيهم أمراء في العائلة المالكة، وقد جرت العادة أن تكون الشخصيّة المرشّحة بارزة للعيان، بحيث يتوقع الناس أن يكون هو من يتبوأ هذا المنصب..

الأمير مقرن، من مواليد 1945، وهو الإبن الأخير لابن سعود، من أم يمانية، وتخرج في بريطانيا كطيار حربي في 1968، وتولى عدد من المناصب من بينها إمارة حائل، ورئاسة الاستخبارات العامة، ثم مستشاراً وموفداً خاصاً للملك، واخيراً نائباً ثانياً. وكونه من خارج الجناح السديري فإن تعيينه يعتبر قطعاً لسلسلة التوارث السديري على العرش، واذا ما قدّر لموت الملك أو ولي العهد فإن فرصة وصول السديريين للعرش ستكون بالغة الصعوبة..

بعد موت النائب الثاني السابق، الأمير نايف، بدأ الحديث عن تصعيد أفراد من الجيل الثالث الى مراتب عليا، وسيادية الى حد ما، وجرى تداول أخبار عن احتمال وصول وزير الداخلية الحالي محمد بن نايف الى منصب النائب الثاني، رغم استبعاد كثيرين حصول هذا القفز الفجائي لوجود ما يقرب من 13 من أبناء المؤسس على قيد الحياة، وقد يسبب ذلك انشقاقاً حاداً داخل العائلة المالكة. الغريب، أن تعيين الأمير أحمد بن عبد العزيز في منصب وزير الداخلية لبضعة أشهر لم يعزز أي توقعات حول تعيينه نائباً ثانياً، بل كان الكلام يتركز حصرياً على التحدي في الاحتفاظ بمنصبه مقابل إبن شقيقه محمد بن نايف الذي يمسك بكل مفاصل القوة تقريباً في وزارة الداخلية..

الصعود السريع لنجم محمد بن نايف دفع بتوقّعاته الى مستوى التفكير في الوصول الى العرش عمّا قريب، ولذلك بدأت تروج قصص حول ترتيبات يقوم بها الملك مع محمد بن نايف بخصوص مرحلة ما بعد الملك وولي عهده سلمان، على أن يحفظ مكان لنجل الملك، متعب، في خط العرش..

لأسباب غير محسومة، تغيّر الحال فجأة، فبعد اسبوعين من زيارة محمد بن نايف لواشنطن واجتماعه مع كبار المسؤولين الامنيين والسياسيين، تمّ تعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز، رئيس الاستخبارات العامة السابق، نائباً ثانياً، أي في الاول من شباط (فبراير) الجاري. يوحي التعيين المفاجىء للأخير، بأن ثمة تطورات دراماتيكية حصلت في الآونة الأخيرة دفعت الى هذا القرار العاجل.

البعض ربط القرار بما جرى في زيارة محمد بن نايف الى واشنطن، وقيل عن تنسيق واتفاقيات أمنية مع الاجهزة الامنية الأميركية خصوصاً مع تولي جون بيرنان منصب مدير وكالة المخابرات المركزية سي آي أيه، وهو صديق عزيز لمحمد بن نايف، وقد وقّع الطرفان اتفاقية أمنية في واشنطن خلال زيارة الأخير في منتصف يناير الماضي. بالمناسبة، فإن جون بيرنان هو المسؤول عن القاعدة السريّة للطائرات الاميركية بدون طيار في جنوب السعودية التي تم الاعلان عنها في 5 شباط (فبراير) الجاري.

وفيما يبدو، فإن الامير محمد بن نايف أخفق حتى الآن في صناعة حلفاء من داخل العائلة المالكة. زيارته للشيخ صالح الفوزان كانت محاولة لاعادة انتاج تحالف والده مع المشايخ، ولكن يبقى نزوعه المبالغ فيه نحو الوصول السريع للعرش وتجاوز آخرين كثر من أعمامه قد يدفعه ثمناً باهظاً. بالمناسبة، فإن الأمير مقرن هو الآخر شرع بعد توليه منصب النائب الثاني بتوثيق علاقاته مع المشايخ، فقام بجولة زيارات على عدد منهم في سياق تنافس بين المتصارعين على السلطة.

تتحدث بعض المصادر عن (طبخة) تم إعدادها على عجل بين الملك عبد الله ونجله متعب ومستشاره خالد التويجري لجهة تمهيد السبيل لوصول متعب الى العرش، ووقع الاختيار على مقرن، الاخ غير الشقيق للملك، لأسباب عديدة منها أنه مقرّب جداً من الملك وموضع ثقته والأهم أنه مطيع، ومنها أنه شخصية ضعيفة بحاجة الى قوة تعضده لمواجهة الجناح السديري وخصوصاً من يمسك بوزارتي الدفاع والداخلية، بكل القوى العسكرية المنضوية فيهما.

مقرن يؤدي القسم

كيف ينظر الغرب الى مقرن؟

اختلف المحلّلون والمراقبون في تحديد شخصية الامير مقرن، هل هو مع الاصلاح أم ضده، وهل هو ليبرالي في تفكيره، أم عكس ذلك، بصرف النظر عن سلوكه الفردي، الذي تننشر روايات عديدة حوله. هناك من قال في الصحافة الغربية بأن تعيين مقرن نكسة لمشروع الإصلاح وللإصلاحيين.

من وجهة نظر ما، أن الامير مقرن يمثّل نموذج التحديثي الحذر، وأن تعيينه يرمز الى الانتقال في السلطة، وينظر اليه على أنه يتقاسم مع الملك في الالتزام بالاصلاح البطيء والحذر. وعلى خلاف ما يقال، فإن محمد بن نايف هو الخاسر الأكبر من تعيين مقرن، لأنه خسر الى حد ما فرصته في خط الوراثة، على الأقل في الأمد المعلوم.

التفسير الظاهري لقرار تعيين مقرن يفيد بأن الملك أراد أن يمنح الجيل الثالث فرصة ليتعلّم كيف يمسك بزمام الأمور فيما يتولى الشخصية التوافقية، أي الأمير مقرن، مهمة إدارة الاعمال اليومية للبلاد في مرحلة انتقالية بالغة الحساسية.

فالملك قلّص سلطة المشايخ، من بين أمور أخرى قام بها، للحد من تأثير الفتاوى التي يصدرونها. وطالب بتنظيم عمل الشرطة الدينية، وتعيين شخصية معتدلة في ظل تصاعد السخط الشعبي. رغم أن وتيرة التغييرات لا تلبي تطلعات الشارع، في وقت تبدو فيه الحال الصحية للملك سيئة بما لا يتاح له وقت كاف للقيام بإصلاحات جوهرية مرضية. وأيضاً، وفي السياق نفسه، فإن صحة ولي العهد سلمان هي الأخرى غير مرضية، فهو يعاني من أمراض خطيرة منها جلطة دماغية أفقدته جزءاً جوهرياً من الذاكرة، وجعلت حركته بطيئة، وكذلك متاعب صحية في القلب والظهر، وقد قرر السفر للعلاج لمدة شهر، كما أعلن ذلك مصدر مقرّب من العائلة المالكة.

كان الإعتقاد بأن عزل الامير مقرن من وكالة الاستخبارات العامة عنى تلاشي حظوظه في مستقبل العرش، ولكن تعيينه في مطلع شباط (فبراير) الجاري في منصب النائب الثاني نقله بصورة دراماتيكية الى الموقع الثالث في العرش. وحيث أن مخاوف تتزايد حول صحة سلمان، فإن مهمات الاخير تنتقل أكثر فأكثر الى الامير مقرن.

مايكل ستيفن، محلل في معهد الخدمات الملكية المتحدة (روسي)، ومقره في قطر، وصف قرار تعيين مقرن بأنه مجرد (شراء وقت من أجل الجيل التالي). ووصف مقرن بأنه ليبرالي، وأنه محبوب في واشنطن ولندن، وعلّق قائلاً: (سوف يواصل سياسة عبد الله في التغيير البطيء والحذر وضمان أن ميراثه كتحديثي مأمون).

كانت التكهنات تجمع على استحالة تعيين مقرن نائباً ثانياً، في ظل وجود الامير احمد بن عبد العزيز وزيراً للداخلية، على أساس أن مقرن يصغر أحمد في السن، بالإضافة الى أن مقرن ليس معرّب الجدين، يعني أن جدّته من أمه ليست نجدية، ولأن أحمد بعد التعيين أدرج عرفياً ضمن قائمة الملوك القادمين. ولكن بعد عزل الامير أحمد من منصبه وتعيين محمد بن نايف وزيراً للداخلية بدأ الحديث عن الاخير باعتباره مرشحاً محتملاً جداً في ظل حديث متصاعد عن نقل السلطة الى الجيل الثالث، ومن أبرز أفراده محمد بن فهد، أمير الشرقية السابق، الذي تم عزله بصورة مفاجئة (بناء على طلبه)، ما يعني أن تسنّمه لمنصب آخر يبدو مستحيلاً.

مهما يكن، فإن تعيين مقرن وضع حداً لتكهنات راجت لشهور عدة حول نقل الملك السلطة للجيل الثالث فيما يواجه النظام السعودي تحديات خطيرة جداً. وبتعيين مقرن قد يكون في ظل الاوضاع الصحية المتردية للملك وولي العهد يكون خط العرش متاحاً له في وقت قريب.

عرف عن مقرن تشدّده في القضايا الأمنية، وكان يلعب دور المبعوث الخاص للملك عبد الله في ملفات حساسة مثل باكستان وافغانستان ولكنّ تم عزله من منصبه كرئيس للاستخبارات العامة لصالح الامير بندر بن سلطان الذي تولى الملف السوري. ورغم شعبيته وسط الدبلوماسيين الغربيين، إلا أن تعيين مقرن سوف يكون مخيّباً لكثير من المراقبين الاجانب الذين يتطلعون الى انتقال راديكالي لحلحلة المشكلات المتنامية في الداخل والتقدّم بحقوق المرأة. ولذلك، وصف تعيين مقرن بأنه خطوة للوراء، وأنه أحبط آمال الاصلاحيين ي بلد يشهد احتجاجات وان على نطاق محدود حتى الان ومرشّح لأن يأخذ وتيرة تصاعدية في المرحلة المقبلة.

وصف تعيين الامير مقرن بأنه أشبه بمؤامرة، دبّرت بليل بين مجموعة صغيرة مقرّبة من الملك، خصوصاً وأن التعيين كان غير عادي وفي ظروف غير عادية، والأهم أن الشخصية التي جاءت بالتعيين هي خارج التوقعات. لاشك أن هذا القرار قد بعث أصنافاً من الفضول لدى كثيرين حول العوامل التي دفعت بصعود مقرن الى خط العرش، والسبب الذي دفع بصدور هذا القرار، في ظل أحاديث عن هوية الملك القادم، لا سيما وأن شبح الموت يحوم منذ شهور حول الأخير، وقد دخل الامير سلمان، ولي العهد، هو الآخر في سباق مع الموت.

ردود الفعل

ترواحت ردود الفعل إزاء قرار تعيين مقرن نائباً ثانياً بين متفاجىء، وبين معارض في السر وآخر في العلن، وهناك من اختار الطريقة التقليدية في التمجيد في كل الاحوال، سواء كان قراراً بالعزل أو التعيين، فهؤلاء الطبّالون الذين ينعقون في كل مناسبة..

رد الفعل الشعبي كان سلبياً في الغالب لأن توقعاته تصاعدت الى مستوى المطالبة بتمكين الشعب من اختيار الحكومة والبرلمان وإصلاح القضاء وإقرار مبادىء العدالة والمساواة..

على مستوى العائلة المالكة، هناك من كتم غيظه ورفضه، مثل الأمير محمد بن نايف الذي لم يكن سعيداً بهذا القرار، بعد أن حدّث نفسه بأن يكون يكون ثالث ثلاثة في خط العرش. ربما كان الأمير طلال الأعلى صوتاً، وقد كان كذلك منذ تشكيل هيئة البيعة في العام 2005، للهرب من استحقاق النائب الثاني، ثم المفاجأة في تعيين نايف وسلمان في منصب ولي العهد ثم مقرن نائباً ثانياً دون الرجوع الى أعضاء هيئة البيعة..الأمير طلال هدّد في اليوم التالي من الإعلان عن تعيين مقرن، أي في 2 فبراير الجاري بالعودة الى (العرف) كونه (يحقق العدالة والإنصاف للجميع). وقال في مدوّنة مطوّلة على موقعه الشخصي في (تويت لونغر) بأن (الحكومات التي يصدر عنها قوانين وأنظمة تدعي أنها عادلة وتعكس بها نظامها القائم على العدل تُعرف بالحكومات الرشيدة). وقال بأنه إذا لم تتمكن (الأنظمة المستحدثة) في إشارة الى هيئة البيعة من تحقيق العدالة فالأولى الرجوع الى الأعراف القديمة، في إشارة الى العرف القاضي بتولية المناصب العليا في الدولة بحسب السن بين أبناء عبد العزيز. وبدلاً عن ذلك اقترح تعديل المواد التي يشوبها الغموض في نظام هيئة البيعة حتى تتفق مع الهدف، في إشارة واضحة الى أن ثمة خلافات بين أمراء آل سعود من الجيل الثاني حول تفسير بعض مواد هيئة البيعة خصوصاً المتعلقة بنقل السلطة وأحقية الأبناء فيها. ثم ختم رسالته بالعودة الى العرف وقال بأن (إنني أكرر أن العودة للعرف هو ما يحقق العدالة والإنصاف للجميع، والله على ما أقول شهيد).

وقرأنا مقالاً في صحيفة (اليوم) التي غالباً ما تكون عكس التيار في تحليلاتها التبجيلية للأسرة المالكة، فقد كتب أحدهم مقالة في 3 شباط (فبراير) بعنوان (تعيين الأمير مقرن...تحقيق لمشروع الاصلاح) وبدأ المقال بكذبة كبيرة حيث قال (أحدث تعيين صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء صدى طيباً لدى المواطنين..). هذه الخلاصة جاءت بعد يوم واحد فقط من صدور قرار التعيين، حتى يعلم حجم الكذبة.. ثم تلت ذلك قائمة أكاذيب منها (نزاهته، ونجاحاته في مسئولياته السابقة) فإذا كان كذلك اليس في قرار عزله من قبل الملك عن رئاسة الاستخبارات العامة خطأ كبير! وكيف يكون (ترك أثراً طيباً لدى المواطنين وبرهن على أنه شخصية تحرص على الأداء والتطوير..)، كيف ذلك؟

مقال إنشائي تمجيدي فارغ، لا ينطوي على محتوى أو رؤية حول التعيين، فهو يخلو من معطيات وحقائق سوى تلك اللغة المدقعة في التبجيل الخاوي كقوله بأن تعيين سلمان ولياً للعهد ثم تعيين مقرن نائباً ثانياً يكون الملك قد حقق (قفزة نوعية في مشروعه الإصلاحي..)، دون ان يوضح كيف يتم ذلك؟

إبن الملك (متعب بن عبدالله) مع الأمير مقرن

وفي مقال نشر في (الرياض) في 5 فبراير بعنوان (مقرن بن عبدالعزيز والبيروقراطية.. مواقف تُذكر.. وإصلاحات تُؤمل)، للدكتور فهاد الحمد، مساعد رئيس مجلس الشورى، بدأه ببطاقة تهنئة لمقرن بالمنصب الجديد، ثم أعقبه بقائمة إشادات حول مزايا النائب الثاني، ومنها أنه كان (سباقاً في عمل كل مافي وسعه لمحاربة البيروقراطية وتطوير الإدارة)، وراح يسهب في عرض تجربة مقرن في الادارة ونزوعه نحو تطوير الاجهزة الادارية والنأي عن الكسل والترهل وسرعة الانجاز، وأضاف الى مهاراته وصفاته أنه (محب للتقنية الحديثة ومجيد للتعامل معها)، وهل هناك من يكره التقنية الحديثة مثلاً؟! وراح الكاتب يطري بما لا يتناسب مع من يفترض فيه تقديم رؤية نقدية، وخصوصاً في هذا الوقت على وجه الخصوص، حيث البلاد تمرّ بتحولات كبرى وتواجه استحقاقات تاريخية غاية في الاهمية.

عضو مجلس الشورى السابق، الدكتور محمد القنيبيط علّق على المقال في تغريدة على حسابه في تويتر بالقول (لماذا لم يكتب هذا المقال بعد تعيين الأمير مقرن مستشاراً للملك؟)!

أمين محافظ جدة، هاني أبو راس، قدّم هو الآخر تهنئة (خالصة) للأمير مقرن، وقال عنه أنه (يحمل تاريخاً طويلاً من العمل المتواصل لخدمة الوطن والمواطنين..)، ولم يغادر أسلوب التمجيد والاطراء، حيث تتحول المقالات والتصريحات الى ما يشبه (بطاقات تهنئة) ليس إلا، كقوله بأنه (شخصية وطنية محبوبة لدى المواطنين الذين كان قريباً منهم...) أو من خلال (الاعمال الخيرية والاجتماعية). هل هكذا يتم تقييم المرشّحين لمناصب عليا وهامة؟!

الكاتب فهد عامر الأحمدي كتب مقال في جزئين تحت عنوان (ما لا تعرفونه عن الأمير مقرن)، وهو المناسبة مدير الشؤون الاعلامية في إمارة منطقة المدينة المنورة حين كان مقرن أميراً عليها، وهذا يكفي لمعرفة طبيعة المقاربة التي سوف يقدمها الأحمدي، وما هو الذي لا يعرفه الآخرون عنه. أول ما قال عن مقرن أنه (مثقف وواسع الاطلاع وموسوعة متحركة بمعنى الكلمة..). على أساس أنه يمتلك مكتبة ضخمة! واهتمامه بالمنجزات العلمية، والنباتات، وصعود القمر، ولديه خبرة واسعة بعلم الفلك ، واللغات، وتارخ البلدان، والطيران، والادارة الالكترونية، وأتمتة الأعمال.

وخصّص القسم الثاني من مقالته عن الحديث عن صفات الأمير مقرن، من أبرزها: دقة المواعيد، التي تنطوي على خصال حميدة فيه، على حد وصفه. بل ذهب بعيداً الى حد القول بأنّ (سموّه بلا مبالغة أدق من “الساعة السويسرية” لدرجة كنت أنظم مواعيد حضوري قبل دقيقة فقط من تواجده في أي مناسبة..). أما الحكومة الالكترونية التي كان يهتم مقرن بتعميمها في المملكة، وتطوير الكادر الاداري والوظيفي بما يتناسب وعلم الادارة الحديث. نكتة لافتة وردت في المقال (وكان سموه أول من قرأ كتاب العادات السبع للقادة الإداريين لستيفن كوفي قبل ترجمته للعربية)!

ولم ينس الكاتب نفسه من المديح أيضاً، في سياق المدح العام لمقرن، فمقالة كتبها الاحمدي في صحيفة ما بعنوان (نريد جميعة لحقوق الأطفال) تسببت في استنفار مقرن ورؤوساء المحاكم والشرطة والتعليم والحقوق المدنية واستدعاء استشاريين من مستشفى الأطفال وأسفرت الاجتماعات عن ولادة (أول لجنة لحماية الأطفال في السعودية)! وكان يفترض ان يستكمل سموه مشواره مع الاطفال لولا صدور قرار تعيينه رئيساً لجهاز الاستخبارات. الطريف في الأمر، أن الأحمدي وهو يتحدث عن مزايا مقرن الادارية، انتقل فجأة من عالم الادارة الى عالم الاستخبارات، ويعلق (صحيح أننا حزنّا على مغادرته المدينة ولكننا في نفس الوقت شعرنا أنه الرجل المناسب للمنصب..)، كيف؟ لأنه رجل عسكري، وسياسي محنك (لا يستبعد نظريات المؤامرة..) على حد قوله!

على الضد من تلك الكتابات التمجيدية، جاءت مقالة خليل الزارعي بعنوان (النائب الثاني (هل من جديد)، رفض فيه أسلوب التهنئة اعتراضاً ليس على شخص مقرن وإنما على الطريقة، والأسلوب (إعتراضاً على عدم التقدّم ولو خطوة واحدة نحو منح الشعب حق المشاركة في الاختيار).

يقول الزارعي بأنه واحد من عشرين مليون مواطن (لم يؤخذ رأيهم ولم يُطلب منهم مشورة ولا سألهم أحد هل توافقون أو تعترضون على تعيين الأمير مقرن نائباً ثانياً، إنها سياسة فرض الأمر الواقع، ربما يقول سموه أو بعض من حوله ومن أنتم حتى توافقوا أو ترفضوا؟ ولن أعلق على هذا السؤال، لأن التعليق عليه يفتح موضوعات كثيرة، ولكن يأتي سؤال آخر وهو منذ متى أصلاً يؤخذ رأيكم في هذه القضايا؟ فعلا منذ متى يؤخذ رأينا؟ ولكن إلى متى لايؤخذ رأينا؟ إلى متى ونحن لا رأي لنا؟ أو فلنقل إلى متى لا يُسمح أن يكون لنا رأي؟).

مقاربة جريئة فتحت أفقاً واسعاً لنقاش جدي حول الإرادة الشعبية ودور الشعب في اختيار الحاكم، وقد ثبّت مبدأ المشاركة بعبارات واضحة وصريحة (حين يتعلق الأمر بالحكم الذي هو حجر الزاوية وعمود الأمر كله في بلدنا، لا بد أن يكون لنا رأي، إننا نعلم أن كل حركة وكل سكنة تتم في بلاط الحكم ترتبط بمستقبلنا وبمصيرنا ومصير أولادنا وأحفادنا ومصير البلد كله).

وتساءل طويلاً وكثيراً عن سبب غياب الشعب في قرارات مصيرية (ألا يستحق هذا الشعب أن ينتقل إلى العالم الأول كما يقول بعض علية القوم؟ ألا يستحق مثلاً أن يعطي رأيه عبر ممثليه في من سيكون صاحب المنصب الثالث..؟ هل هي سابقة؟ ليكن !! اجعلوها من اليوم سنّة حسنة، لن نخسر شيئاً، بل سنكسب الكثير والمثير والمحفز ونكسب الحكمة والعقل والمنطق). السؤال الكبير القديم الجديد يفرض نفسه مجدداً (ماذا سنفعل مع مائة وخمسين ألف طالب وطالبة من أبنائنا يدرسون في دول العالم المختلفة، ويرون بأعينهم كيف يقول الشعب كلمته وكيف يختار ممثليه..)..

وذكّر الزارعي أمراء آل سعود بما حدث مؤخراً من كارثة سيول تبوك وكيف تصرّف أميرها، حيث تأخر في العودة الى المدينة المنكوبة، وقد علم كل المواطنين بخبر عودته المتأخرة، وتساءل: أين كان الأمير؟ ولماذا تأخر كل هذا الوقت؟ وكيف يمكن حصول هذا أو تصور حصوله؟. وقارن ذلك بما يحصل عادة في دول العالم الآخر، حيث يلغي رئيس الحكومة زيارته الرسمية لأي بلد في العالم، وأن يقطع إجازته في نفس اليوم، وأن يقدم المسؤول المباشرة استقالة فورية، وأن يقدم اعتذاراً علنياً، أن يعتزل العمل العام.

الحال هنا، في مملكة الفساد عكس ذلك تماماً، حيث (لا أحد يستقيل ولا يقال ولايحاسب ولا يُقاضى، بل يظل المسئول منتشياً منتفخاً لا يحرك صوت المجتمع المدني فيه شعرة ولا شعوراً).

ثم ينتقل الزارعي للسؤال الجوهري والحاسم: ألم يحن الوعد بالتغيير؟ ألم يحن الوقت لأن يتواضع الكبير ويضع يده في يد الشعب؟

وعاد للإجابة عن السؤال الاول حول القلق من الطريقة التي تم بها تعيين مقرن، والذي اعتبره مفاجأة غير متوقعة، وتساءل عن طريقة اتخاذ القرار ومعطياته.

وكان فايد العليوي، الكاتب في صحيفة (الشرق)، قد لفت في مقالة له في 18 يناير الماضي بعنوان (مقام الملك أعلى من مناكفاتنا اليومية) طالب بخجل شديد الفصل بين منصبي الملك ورئيس الوزراء وبرّر ذلك بالقول (فمشكلاتنا لم ولن تنتهي، ومناكفاتنا مع الوزراء والحكومة مستمرة، فحبذا لو أن الملك يستحدث منصباً ويكون مسماه مستمداً من ثقافتنا شأننا كشأن أي أمة أخرى يناط به رئاسة الوزراء، ويُسيِّر الأمور الاعتيادية ويتلقى مشاغباتنا ككتاب، وبالتالي يكون مقام الملك أعلى وأسمى من المناكفات اليومية بيننا وبين الحكومة). وقد فهم من ثنايا كلام العليوي حول منصب رئيس الوزراء مستمدة من (ثقافتنا) و(شأننا كشأن أي أمة أخرى يناط به رئيس الوزراء) أن يكون من عامة الشعب، أي من خارج الاسرة المالكة، (مواطن يتولى شئون الناس، فيتابعونه، ويحاسبونه، بل ويختارون غيره إن أحبوا، ويغيرونه حينما لا يحقق آمالهم ولا يقوم بواجبهم ويفشل في معالجة مشكلاتهم)، حسب الزارعي.

العليوي كتب في 4 شباط (فبراير) الجاري، أي بعد ثلاثة أيام على قرار تعيين مقرن نائباً ثانياً مقالاً بعنوان (الانتخاب بوصفه “حقاً” لا بوصفه مقابلاً للتعيين)، أكّد فيه على الحقوق السياسية (حق المشاركة في صناعة القرار وحق المحاسبة وحق الشفافية وحق الرقابة على السلطة وحق الترشح لممارسة العمل السياسي وحق التصويت العام وحق الاستفتاء).

وانتقد العليوي أصحاب مقولة أن الشعب ليس مؤهّلاً لممارسة الانتخابات والمشاركة في صنع القرار، وهؤلاء من الأمراء مثل سلطان ونايف وسلمان وغيرهم ومن المشايخ أعضاء هيئة كبار العلماء والمفتون السابقون والحالي.. كتب العليوي (البعض ربما يزدري بعض الشعوب ويصرح بأنها ليست أهلاً للحصول على هذا الحق ـ أي حق الانتخاب ـ، وهذا يعكس الأزمة النفسية والأخلاقية لهذا النوع من البشر الذي يتعامل بعقلية “الأكليروس” وهؤلاء الآن شرعوا في الاحتضار الفكري وليسوا بحاجة إلا إلى من يطلق رصاصة الرحمة عليهم).

لابد أن رأياً كهذا لو قيل في مرحلة قريبة سابقة، لكان سبباً كافياً لإدخال صاحبه المعتقل، وإخضاعه لمحاكمة عسيرة، بما تنطوي عليه من إزدراء للمشايخ والأمراء الكبار، ولكنّها لحظة تاريخية تشهدها البلاد حيث سقف التوقعات قد ارتفع عالياً وكذلك هامش الحرية والنقد الذي فرضه المواطنون بأنفسهم، وبدمائهم أيضاً.

في نهاية المطاف، فإن تعيين الامير مقرن يعتبر حلقة من حلقات الإثارة في هذا البلد، ولكن بالتأكيد فأن التحوّلات الاجتماعية والسياسية المحلية تفرض نفسها بقوة وقد تغير معالم ليس معادلة الحكم القائمة بل والدولة معاً.

الصفحة السابقة