قراءة في الخطاب المفتوح للداعية سلمان العودة

خطوة حذرة في اقتحام الميدان السياسي

العودة: إحراق صور المسؤولين عمل رمزي يجب ألا يمر دون تأمل!

عبدالحميد قدس

(الخطاب المفتوح) لسلمان العودة، مقالة كتبت على شكل تغريدات في 64 فقرة، هي بمثابة تدشين لنشاط سياسي للداعية العودة بعد طول صمت. قد لا يكون العنوان معبّراً بالضرورة عن واقع ما أراد العودة قوله. فهو عنوان بارد بامتياز. وهو وإن كان خطاباً في ظاهره للجمهور السعودي المغرّد والقارئ بشكل عام، فإنه موجّه أيضاً لرؤوس الحكم من آل سعود.

لماذا أراده العودة مفتوحاً؟ علنياً؟ في حين أن المفتي وهيئة كبار العلماء يصرّون على (النصيحة السريّة لولي الأمر)؟ يشرح العودة الأمر بصورة اعتذارية في مقدمة مقالته، فيبين جملة من الأسباب التي دفعته لكتابة (خطاب مفتوح) واضح غير مبهم. يقول عن النصيحة العلنية ان منطلقه هو (النصيحة) ولكن (بالأسلوب الذي أراه مؤثراً ونافعاً)، فالنصيحة السريّة لم تجد نفعاً (وقد كتبت كثيراً رسائل خاصة ولم أجد أثرها). بمعنى آخر: فإن العودة يؤمن بالنصيحة لآل سعود سرّاً، تماماً مثلما يقول المفتي وزمرة هيئة كبار العلماء، ولكنه يقرّ هنا بأن هذه الطريقة غير نافعة من واقع التجربة الخاصة، فضلاً عن التجربة العامة. وعليه لا تلوموني ان تحولت النصيحة العلنية الى (فضيحة) لآل سعود، كما يقول بعض المشايخ والوعاظ السلطويين. اللوم يقع في فشل المناصحة السريّة على آل سعود أنفسهم، فهم الذين لم يستمعوا لأحد.

الشيخان العودة والقرضاوي

هذه المكاشفة الأولى تؤصّل لحق النصيحة العلنية ـ إن فشلت السريّة. وهي في واقع الأمر ترد على خطاب السلطة ووعاظها الذين ينتقدون ويعاقبون بسوط السلطان كل من يبدي رأياً أو نقداً أو صراخاً من شدة الألم علنياً، بعد أن تقطّعت الأسباب بالوسائل الأخرى التي ثبت منذ عقود عدم جدواها. هذه النتيجة مهمة اليوم لأولئك السلفيين الذين يقومون بالتظاهر والإعتصام وحتى الإضراب والذين يتهمهم النظام ليس فقط بخرق الخطوط الأمنية الحمراء، بل والخطوط الشرعية وفق مذهب الوهابية. تكمن الأهمية في حقيقة ما يقوله أهالي وعوائل المعتقلين السلفيين تحديداً، من أن كل وسائلهم السابقة لم تجد نفعاً مع النظام. لا الرسائل ولا الواسطات، ولا ما يسمى بالأبواب المفتوحة حلّت مشكلة المعتقلين واستعادة بعض من حقوقهم المهدرة، وهو الأمر الذي دفعهم ـ كما يصرحون دوماً ـ الى الإحتجاج العلني.

ما يقوله العودة هو: (إذا أغلقت الأبواب فالمضطر قد يركب الصعب ويغفل عن المصالح والمفاسد، وإلى أين يذهب بعد توقيف من قصدوا الأبواب المفتوحة؟). بمعنى آخر: إن فشل نصح النظام سرّاً وعدم استجابته لحل الأمور من تحت الطاولة، يجبره هو كما يجبر غيره ـ وليكون عملهم مؤثراً ـ على اقتحام التابوهات الحكومية الأمنية، وتابوهات المفتي وهيئة كبار العلماء التي تحرم النقد العلني فضلاً عن التظاهر. حين تسدّ أبواب التظلّم والتشكي بالسرّ، تفتح بالعلن. وحين يطالب المواطنون بحقوقهم المدنية والسياسية فلا يجدون سوى القمع، يتركون العرائض الى الشوارع متظاهرين سلماً. وحين يقمعون في الشوارع وتهان كرامتهم، ويعتدى على نسائهم، ويطلق النار على شبابهم فيتساقطون شهداء في ربيع العمر.. سيأتي يوم فيه ويرفعون السلاح، كما حذّر سلمان العودة.

مقدمة خطاب اعتذارية/ تبريرية

مقدمة خطاب الشيخ سلمان العودة تبريرية اعتذارية، او هكذا يفهم منها. هو حاول ابتداءً الإجابة على تساؤلات: لماذا هو خطاب مفتوح؟ وماذا تستهدف من ذلك؟ وبأي مبرر تريد اقتحام الفضاء السياسي العام بعد أن كنت تلوذ بالصمت؟ ولماذا الآن؟ وهل تريد اسقاط النظام السياسي؟ وما هي فلسفة تدخلك في الموضوع السياسي الذي هو حكر على (الخاصة/ آل سعود) في (دولة الخاصة/ الدولة النجدية). فهم الشيوخ، والمثل يقول: الشيوخ أبخص؟

مبررات العودة كثيرة وصحيحة ومتفهمة، ولا يهمنا منطق النظام الذي يعاقب الاصلاحيين: لماذا تتدخل في السياسة؟! لكن العودة اراد أن يبعث رسائل اطمئنان وإقناع لآل سعود، وإن جاءت فيما بعد رسائل تحذير لهم من انفلات الوضع. في مقدمة تبريرات الشيخ سلمان ما جاء في أول جملة من خطابه حيث يقول: (صديقك من صدقك) فهو لا يعتبر نفسه عدواً للنظام، ولكن النظام يرى فيه شخصاً عدواً، ولذلك أكمل العودة، بأنه حتى لو اعتبرتموني عدواً فكلامي مفيد لكم، ذلك أن (العاقل يثمن الكلمة الصادقة أياً كان مصدرها). ليتبع ذلك بالقول أن حديثه إنما (هو حديث عن وطن نشترك في حبه والخوف على مستقبله). أي أن الوطن لا يتلخص في آل سعود ونظامهم السياسي، والمواطنون جميعاً بمن فيهم هو ـ أي العودة ـ معني بما يجري فيه وله، بدون أن يزايد أحد على هذا الأمر.

ينتقل العودة بعد ذلك الى المبرر الديني (النصيحة) للحاكم، وبين لم هو أعلنها بدل ان يخفيها. وكأنه يوجّه رسالة هنا لآل سعود وللمشايخ من هيئة كبار العلماء، لذلك أتبع ذلك رداً على سؤال لهم متوقع: (عليك يا سلمان السمع والطاعة) يعني يجب أن تسكت عن آل سعود وأخطائهم، وهذا واجب ديني. لكن الشيخ سلمان يرد: (النص الذي أوجب السمع والطاعة بالمعروف في العسر واليسر، هو الذي أوجب قول كلمة الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم). كأن العودة يقول: نسمع ونطيع في المعروف، ولكن نقول الحق وننتقد. وبهذا تستقيم المعادلة، لا أن نأخذ شطر الخضوع للظالم، دون أن نصفعه بكلمة الحق.

ويستمر الشيخ سلمان في إبداء تبريراته في اقتحام التابو السياسي فيقرر أن ما يكتبه غرضه (تخفيف الإحتقان) و (فتح أفق للتدارك والإصلاح) ـ فأنا ـ (لم أفقد الأمل بعد) من إمكانية تحقيق ذلك. هنا يبدي العودة استعداده للمشاركة من أجل اصلاح الوضع السياسي وغيره، رغم الإحتقان الشديد في الشارع ضد نظام الحكم. كما أنه يؤكد أن قراءته للوضع المحلي ابتداءً تشير الى أنه سيّئ، فليست الأمور على أحسن الأحوال كما يقول مطبّلو السلطة ووعاظها. الوضع سيء جداً، بل مرعب، ويمكن ان يتطور الأمر الى تقسيم البلاد والحرب الأهلية، ما يستدعي منه أن يحاول القيام بعمل يؤدي الى (الحفاظ على المكتسبات، والتي منها الوحدة الجغرافية، يحفزنا إلى المناشدة بالإصلاح، فالبديل هو الفوضى والتشرذم والاحتراب). وحتى لا يخرج أحد من جهلة النظام ويسأل: من طلب منك يا شيخ سلمان أن تتدخل في شأن (لا يعنيك) وأكبر منك؟ ومثل هذه العبارات ترد دائماً من أفواه الأمراء. هنا يرد العودة ويقول بأن له الحق في ذلك، بل وكل مسلم أيضاً. فـ (هذا بلد قام على تحكيم الشريعة، وفيه المقدسات التي تهوي إليها الأفئدة، وأمنه وصلاحه هدف للمسلمين جميعاً).

المواطنون يائسون وعلى أبواب ثورة

ولي العهد يقول ان المواطنين (يعيشون في بحبوحة) وخالد الفيصل يقول أنهم (يعيشون عصراً ذهبياً) وأن السعودية سبقت الربيع العربي بـ 82 عاماً. والطبالون للنظام يقولون (حنّا بخير)! وكل الأمور على ما يرام؛ في حين أن الملك يقول للمواطنين (الخير واجد) واصبروا فالقادم أفضل من الحاضر! وكأن السماء ستمطر عليهم ذهباً وفضّة! ومسؤولو الداخلية والوزراء والإعلام يطنطنون بأن الوضع ممتاز و(حنّا أحسن من غيرنا). فقر وبطالة وسوء خدمات في التعليم والصحة والمواصلات وغيرها، وفوق ذلك ظلم وقهر واستبداد سياسي، وفساد قضائي وغيره يضرب أطناب الحياة العامة. ليست المشكلة أن الوضع الحالي مزر بصورة لا يمكن نفيها إلا من أفواه مجانين السلطة السعودية، بل المشكل الأكبر هو أن الوضع يميل الى الإنحدار، من حفرة الى دحديرة ـ كما يقال، أو من سيء الى أسوأ.

من أسئلة الثورة الى تطبيقاتها؟

الشيخ سلمان العودة يذهب الى توصيف مشاعر المواطنين، ويركز على حقوقهم المصادرة: السياسية والمدنية والإجتماعية. هو في خطابه المفتوح يقرّ حقيقة أن هناك (مشاعر سلبية متراكمة منذ زمن ليس بالقصير، وقد استوحيت كلامي من كثيرين من فئات مجتمعية ومناطقية عديدة) وكأنه يريد أن يؤكدها بأكثر مما يريد أن ينقلها لآل سعود، الذين لا يريدون ان يفهموا أو يستمعوا، أو أنهم يعلمون بها ولكنهم لا يلقون لها بالاً. ثم يأتي العودة الى نسف مفهوم (الخصوصية السعودية) المزعومة، والتي هدفها تأكيد كذبة: اننا غير، شعبنا غير، حكومتنا غير الآخرين. ما يجري على العالم من سنن لا ينطبق على الوضع في السعودية. العودة عكس ذلك يقول: (الناس هنا مثل الناس في العالم، لهم أشواق ومطالب وحقوق، ولن يسكتوا إلى الأبد على مصادرتها كلياً أو جزئياً). هو يقرّ هنا مصادرة الحقوق من قبل الطغمة الحاكمة، ولكنه خشي المساءلة، فوضع لها حدّا (جزئياً أو كلياً). كلياً مثل الحقوق السياسية. وجزئياً ـ على الأقل ـ حقوقهم في العيش الكريم في بلد يصدر عشرة ملايين برميل يومياً، ويتوافر له من (الدخل اليومي) من النفط وحده ما يزيد على المليار ومائة مليون دولار فقط!

في وضع مزرٍ كهذا يقدّم الشيخ العودة قراءة نفسية اجتماعية للشعب (المُسَعْوَدْ) مبطّنة بتحذيرات واضحة لرموز النظام:

1/ توقعوا من الشعب ما لا يمكنكم توقعه. كل شيء ممكن أن يصدر منه. فـ (حين يفقد الإنسان الأمل.. عليك أن تتوقع منه أي شيء). فقد يلجأ للثورة، والعنف، والتخريب والشغب والإنتحار، ويقدم التضحيات حيث لا يوجد شيء يخسره. وحسب العودة: (من الخطر أن يضيق على الناس حتى لا يكون لديهم شيء يخسرونه).

2/ المواطنون قلقون من الوضع القائم بكل تفاصيله: (الناس قلقون من المستقبل ولديهم تساؤلات لا يعرفون إجابتها.. وها هي هجرة الأموال وربما رجال الأعمال تتزايد). والقلق على الحاضر والمستقبل عامل محوري من عوامل الثورة كما هو معلوم. لذا فإن المواطنين بدأوا لا يخشون بطش النظام، وبالتالي فإن اعتماد القمع والردع تصبح عديمة الفائدة، ولا يمكنها أن توقف المواطنين عند حد: (إذا زال الإحساس بالخوف من الناس فتوقع منهم كل شيء). ويشير العودة الى مواطن القلق، فـ (ثمّ مواطنون خائفون من الفوضى والانفلات، ويحتاجون إلى من يهدئ مخاوفهم بمشروع واقعي إصلاحي، يكونون شركاء فيه. لا أحد من العقلاء يتمنى أن تتحول الشرارة إلى نار تحرق بلده، ولا أن يكون العنف أداة التعبير. الثورات إن قمعت تتحول إلى عمل مسلح، وإن تجوهلت تتسع وتمتد، والحل في قرارات حكيمة وفي وقتها تسبق أي شرارة عنف).

هل المواطنون على أبواب ثورة؟ هل يمثل هذا التحذير مبالغة؟

كلاّ. العودة قريب من الناس ويلامس أوضاعهم، على الأقل في محيطه النجدي الإجتماعي. فإذا كان المحيط الاجتماعي للعائلة المالكة قد وصل الى هذا التشنّج، وسبق له حمل السلاح وممارسة التفجير، فكيف هو الحال بالمناطق المهملة في الشرق والغرب والشمال والجنوب؟ إنها تنتظر اللحظة المناسبة لتثور، فهي أكثر احباطاً من غيرها.

3/ السخط والتذمّر والغضب ارتفع منسوبها بين المواطنين (وإذا ارتفعت وتيرة الغضب فلن يرضيهم شيء). فلا سياسة الرشوة المالية (مثل حافز) ولا القليل التافه الذي ينثر عليهم كلاماً مع كل ميزانية، ولا انتخابات عبثية تافهة كالانتخابات البلدية يمكن أن ترضيهم، ولا تعيين بعض النسوة في مجلس الشورى يمكن أن يقلب الغضب الى رضا. لا شيء سوى التغيير الهيكلي الإستراتيجي في بنية الدولة والنظام السياسي يمكن أن يكون جائزة ذلك الغضب. ملّ المواطنون من مسألة التدرج في الإصلاح (الذي هو متوقف وليس متدرجاً). وملّوا من مزاعم التطوير وهم يقارنون انفسهم بمواطني دول الجوار. السخط يؤدي الى الغضب، والغضب يشعل الثورة، والقليل المتأخر لا يفيد في تهدئة المواطنين.

4/ في حال بقيت القيادات الاجتماعية والدينية المعتدلة صامتة، ولم تتحرك لتلافي الأمر، فإن الشارع لا يتوقف، وينتج قيادته الميدانية، ويشمل بسخطه الموالين لآل سعود، كما هم القاعدين ـ المعتدلين. ولا شك ان الشيخ سلمان قد شمله الكثيرون ضمن قائمة (القاعدين) بحيث فقدوا أملهم في تحركه. وهو أي العودة يقرّ هنا حقيقة وضعه، بقدر ما هي حقيقة سياسية/ اجتماعية: (مع تصاعد الغضب، تفقد الرموز الشرعية والسياسة والاجتماعية قيمتها، وتصبح القيادة بيد الشارع). كما أنه ينفي عن نفسه الإبتعاد عن قضايا الناس، ويحاول استعادتهم اليه: (أدافع عن السجناء، وكثير منهم غير راضٍ عني، وبعض من خرجوا يهاجمونني.. ومن واجبي الدفاع عنهم.. الحقوق ليست مقصورة على من يتفقون معنا).

وفي حال كهذه، لا يكون أمام السلطة السياسية من وسائل تواصل مع الجمهور، ويصبح الجدار الفاصل واضحاً: إما مع الشارع، وإما مع النظام. هنا تنتهي لغة الكلام والتهدئة والتفاوض، ولا يوجد سوى لغة التصعيد والخطاب الراديكالي والمطالب الجذرية التي تستهدف جذور النظام السياسي. ولذا (يكون دعاة التهدئة محل التهمة بالخيانة أو الضعف، ويقود المشهد الأكثر اندفاعاً ومفاصلة مع الأوضاع القائمة). هذه الحال صارت واقعاً اليوم، في أجزاء عديدة من البلاد، بما فيها المنطقة الشرقية، رغم اختلاف المذهب، وبما فيها شرائح كبيرة من الشارع النجدي/ السلفي، الذي خلّف وراءه الصامتين، وطعن فيهم.

الوضع صعب للغاية، وإن لم يعترف آل سعود بذلك. وان واصلوا بغباء مشوار القمع كحل لمشاكل سياسية واجتماعية حقيقية لا يزيد فيها القمع إلا اشتعالاً. نعم. وكما قال العودة: (في الأفق غبار ودخان، ومن حقّنا أن نقلق مما وراءه، والقبضة الأمنية ستزيد الطين بلّة وتقطع الطريق على محاولات الإصلاح).

الإعتقالات التعسفية صاعق التفجير

حاول الشيخ العودة ان يحصر موضوعات خطابه المفتوح في قضايا المعتقلين. وليس كل المعتقلين السياسيين أو الأمنيين في المملكة، فأفق الشيخ ضيّق، وهو لم يشأ أن يشمل في حديثه معتقلي الشيعة في الشرقية أو غيرها. لكنه أشار الى معتقلين إصلاحيين كما معتقلي جدة وجماعة حسم (الحامد والقحطاني والرشودي وغيرهم)، وطالب باطلاق سراحهم: (من الإجراءات الضرورية الإفراج عن معتقلي حسم وإصلاحيي جدة، وحفظ حقوقهم حفاظاً على اللحمة الاجتماعية وتكريساً للحقوق والتماساً لرحمة الله)! ورحمة الله واسعة شاملة لكل البشر، بعيداً عن الأديان والمذاهب والمناطق والقبائل.

لم يشأ العودة الغوص في موضوع الاصلاح السياسي وإن أشار اليه عرضاً. مثلاً قوله: (من أسباب الاحتقان: الفساد المالي والإداري - البطالة - السكن - الفقر - ضعف الصحة والتعليم - غياب أفق الإصلاح السياسي). لم يركّز العودة على جذر المشكلة، بقدر ما فصّل في تقرير أعراضها. واختار من أعراض المشكلة السياسية الاجتماعية الأمنية: موضوع المعتقلين، باعتباره الصّاعق الذي يمكن أن يفجر الوضع برمّته. وقد سبق للعودة أن أشار الى ذلك في تغريداته بتويتر، وشبّه الأمر بكرة الثلج التي تكبر، وحذّر من خطرها. هذه المرة فصّل في الموضوع، وأقرّ ما هو معلوم للقاصي والداني. لكن ان تأتي التوصيفات والتقريرات بإسمه، فإنها تلقى مصداقية لدى الجمهور.

يقرّ العودة ابتداءً بأن (حقوق المواطن مشروعة وليس ممنوحة)، ويشير الى أن هاجس آل سعود المتصاعد أمنياً، أدّى الى إخضاع معظم أنشطة الدولة للرؤية الأمنية؛ وقد ترافق ذلك مع (حشد كل المشتبه بهم داخل السجون).

كل شيء يمكن توقعه في السعودية؟

وقبل أن يشير العودة الى تداعيات الإعتقالات وطبيعتها التي تنتهك حقوق المواطنين خلاف الشرع، يؤكد حقيقة أن (الإسراف في استخدام العقوبة يفقدها هيبتها). أي أن الإسراف في القمع، يجعله أمراً غير رادع، تماماً مثل الإسراف في الإعدامات والقتل. فالردع إنما يتأتّى بالقليل، أما إذا اصبح شاملاً واسعاً للشرائح، تضعف قيمته، ولا يحقق هدفه. والعودة هنا حين يتحدث عن فقدان هيبة العقوبة، فإنما يتحدث من واقع تجربته الخاصة في المعتقل، فالعودة يقر بأن (أخوف ما يكون السجن قبل تجربته!). اما بعد التجربة فيسهل الأمر.

في موضوع تجاوزات النظام بحق السجناء، يشير الشيخ العودة الى (أن هيمنة جهاز المباحث على عمليات التجسس والإعتقال والمحاكمة حرمت المعتقلين من حقوق كثيرة)، وأن (معاملة السجناء ليست وفق أنظمة واضحة ولا مؤسسات، بل هي عملية فردية، وتعتمد على تقرير رجل المباحث)، وحذر من أن الإساءة للسجناء مقامرة بمستقبل الوطن كله، مؤكداً حقيقة أن (هناك حالات إنسانية وصحية صعبة يتم تجاهلها لفترات طويلة حتى تتفاقم وتتعقد ويستعصي حلها، ولعل هذا ما حفز بعض النساء على التحرك). واضاف: (اطلعت على أوضاع سجناء فيها ظلم، وحالات موت وإعاقة جسدية أو نفسية وعرقلة افراج وتجاوز لأحكام القضاء لم نسمع بياناً لحقيقتها).

ولاحظ العودة أن عاقبة الإعتقالات الواسعة كانت: (زرع الأحقاد، والرغبة في الثأر، وانتشار الفكر المحارب بشكل أوسع داخل السجون). كما ادّى ذلك الى (تمزيق النسيج الاجتماعي وإحداث قطيعة) وأزمة. ولفت الإنتباه الى أن الاعتقالات تشعل الغضب والألم في محيط المعتقل الإجتماعي كأهله وأصدقائه وجيرانه. بمعنى أن معارضة النظام تتوسع بالإعتقالات. ولهذا فإن (العديد من أفراد الأسرة الحاكمة ليسوا موافقين على سياسة السجون).

وانتقد العودة العائلة المالكة التي تقوم بـ (ابتزاز المواطنين بقضية: شهداء الواجب).. ويقصد بذلك من قتل أثناء المصادمات مع القاعدة، واعتبر ذلك الإبتزاز: (متاجرة بدماء الرجال الأبطال.. كلنا مع شهداء الواجب ومع إطلاق الأبرياء أيضا). كما انتقد الشيخ سلمان العودة طريقة المعالجة الإعلامية للنظام، فرآها لا تتمتع بالمصداقية وكاذبة، فـ (الأداء الإعلامي قائم على الحجب والتدخل الأمني، وكأنه لم يعلم بوجود الشبكات الاجتماعية، والكامرات المحمولة التي توثق الأحداث فوراً). والناطقون الرسميون باسم الداخلية إنما (يعبرون عن بؤس، وينتمون إلى زمن مضى، وليس في كلامهم جاذبية ولا إقناع ولا تأثير). وانتقد العودة رجال المباحث المجندين في (تويتر) واعتبرهم (جيشاً أمنياً) يرمون ـ هم وقنوات شبه حكومية (كل ناصح بأنه: محرّض، وكل داع إلى الإصلاح السياسي بأنه: طامع، بينما الوعي يكبر وينمو!). وبذا أصبح جهاز الأمن هو الخصم والحكم ومن غير الممكن أن تكون الجهة الأمنية (مصدراً للمعلومات عنهم) بعد أن فقد الناس الثقة بها.

الحل للخروج من الأزمة

يعتقد العودة بأن هناك فرصة وإمكانية لتجنّب الأسوأ، فالأزمة فتحت باب فرصة لإصلاح الوضع إن أراد النظام. لكن (الفرصة إذا أُهدرت فقد لا تعود، والشيء إذا تأخر عن إبّانه فقد جدواه، والوقت سيف لك أو عليك). تأخّر النظام في معالجة قضايا المعتقلين فجّر مشاكل وضاعفها. وعدم القيام باصلاحات سياسية أصاب المواطنين باليأس وأشاع الفساد وعطّل أجهزة الدولة. لكن للنظام رأي آخر: إن تنازله في موضوع المعتقلين قد يحطّ من سمعته، وقد يجرّيء الناس عليه. العودة يقول بأن (الاستجابة لمطالب الناس المشروعة ليست ضعفاً). وأن الإستمرار في الحل الأمني مقامرة: (استمرار الحالة القائمة مستحيل). ومهما تكن المرارة في العلاج، فإن من الضروري القيام به. الشيخ العودة يتمنّى قرارات راديكالية مفاجأة من حكام عجزة مستبدين، تدهش المواطن الذي لا يتوقعها: (أسمعونا بعد انتظار طويل ما يوحي بأن عهداً جديداً قد بدأ، عالجوا يأسنا بأخبار إيجابية صادمة وغير متوقعة). لكننا في بلد محافظ سياسياً، لا يتوقع من حكامه أن يأخذوا بقول ناصح. هم يسيرون على هدي أسلافهم ونظرائهم من الطغاة الذين شهدوا تساقطهم. لذا يحذر العودة من عدم سماع قول الناصحين: (أعيذكم بالله أن تكونوا ممن قال فيهم: (وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له)، وهم الذين أصمّوا آذانهم عن كل ناصح).

ملخص رأي العودة في حل قضايا المعتقلين هو: إغلاق الملف الأمني عاجلاً إلا من تورط وصدر ضده حكم شرعي قطعي؛ والتحقيق في التجاوزات بحق السجناء، ومعاقبة المسيئين ووضع آليات تمنع عدم تكرارها؛ والتعويض عن المعتقلين الأبرياء والإعتذار لهم بشجاعة، وإعادة حقوقهم كاملة اليهم كيما يمارسوا حياتهم الكريمة تساعدهم على تجاوز ماضي الإعتقال الأليم.

بالطبع فإن ما يطلبه العودة كبير، وهو يعلم أن كل الأجهزة متواطئة في المنكر، ولا يمكن ان يتحقق ما يطلبه بدون اصلاح المنظومة السياسية والقضائية والتنفيذية وإيجاد سلطة تشريعية حقيقية منتخبة. نعم انتقد العودة بلطف القضاء والإجراءات القضائية وتدخل ال سعود في شؤونه؛ كما انتقد ربط التحقيق والإدعاء بوزارة الداخلية، وغيرها.

ماذا بعد؟

هل سيستفيد النظام من النصح؟ أم يكون الحال كسابقه: الشيوخ أبخص، والنتيجة: (ولكن لا تحبون الناصحين)؟

لا يبدو ان النظام سينتصح بكلام العودة، فرعونة الأمراء عالية بحيث لا تسمح لهم تقدير النصيحة، خاصة ان جاءت من شخص ينظر اليه في افضل الأحوال أنه من خارج السيستم، وذو ولاء ناقص!

وحتى لو اقتنع الأمراء بأن النصيحة في محلّها، فإن من المشكوك أن تكون لديهم الشجاعة اولاً، والقدرة ثانياً على الإصلاح. لقد وصل الحكم الى أرذل العمر، فلا هو قادر على اتخاذ قرارات صعبة، ولا هو قادر على تنفيذها وتحمّل عملية جراحية قد تقضي عليه! العودة يعتقد ان الوقت لم يفت. والأرجح ان الوقت شارف على الفوات ان لم يكن قد فات فعلاً. نحن في عام الانفلات. أزمة تجرّ أخرى، ومحاولة اشهار عضلات تكشف عن جسد نحيل مصاب بالأنيميا. وأمامنا شعب متذمر ساخط لا يقبل بالقليل، والنظام لا يستطيع ان يقدم الكثير مما يريده ويتمناه. المصائب اذا جاءت فإنها تأتي دفعة واحدة في سلسلة لا متناهية. سيقال لآل سعود يوماً ما بأنكم لم تنتصحوا ولم تقدّروا الوضع. أما الآن، فشأنهم شأن طغاة آخرين الزهو بالقوة التي بيدهم وباحتقار قوة الشعب، وأنهم يستطيعون تركيع طلاب الاصلاح. هم الآن في مرحلة (في غيّهم يعمهون).

لكن.. ماذا عن مصير الشيخ العودة نفسه؟ هل سيزج به في السجن؟ هل يكون مصيره مثل مصير كل دعاة الإصلاح في الشرق والغرب والوسط والجنوب والشمال. من معتقلي جدة الى معتقلي حسم، الى معتقلي الشيعة؟ هذا هو سلوك النظام الطبيعي. لكن لا يرجح أن يصاب العودة بأذى، اللهم إلا التحقيق والتهديد. والسبب: إن شعبية العودة في الداخل والخارج توفر له غطاء حماية. اللهم إلاّ اذا تكرّر منه صدور هكذا تعليقات وخطابات مفتوحة أو مغلقة.

لكن مآل الخطاب المفتوح للعودة سيؤسس لسقف سياسي هو أدنى من سقف الحامد والقحطاني وحسم، ودون سقف الشيعة في الشرق. ولكنه مع ذلك سقف مرتفع بالنسبة لمشايخ كانوا مترددين بين الدعوة لإصلاح النظام، والخشية من بطشه، وحتى دعمه ربما مقابل حركة تغيير لم تخرج من أكمام المشايخ، والتي يبدو أنها اكتسبت زخماً للتو بخطاب العودة. ربما يرفع مشايخ كثيرون سقف خطابهم بعد خطاب العودة، اللهم إلا إذا تراجع الأخير تحت الضغط الرسمي، وهو غير متوقع.

الصفحة السابقة