الدولة الوهابية

قرأت في صفحة (مشيخة الاسلام في بلاد الشام الشريف) على موقع (فيسبوك) ما نصّه: )الجهل بأحكام الشرع عُذرٌ مُحِلٌّ من العقوبة للخاطئين من المسلمين وبلاد الشام الشريف، بعد نصف قرن من حكم الزنادقة النصيرية تنطبق عليها هذه القاعدة الشرعية، فالعلم فيها ليس مبذولاً لمن شاء، بل على العكس كان العلم محظوراً محارباً والعلماء محاربون مكبوتون ولذلك انتشر الجهل بأكثر أحكام الشرع بين العامة ولم يبق لهم سوى بعض النتف من أحكام الصلاة والعبادات دون المعاملات. ولذلك لا يجوز قطعاً إعدام أي أسير مسلم سنّي (من ليس سنّيّاً ليس مسلماً) مهما كان جرمه إلا بعد التأكّد من: تعمده مناصرة النصيرية بعد علمه بـ «عظيم كفرهم وبردّة مناصرهم». ويجب أن يستتاب على يد علماء مؤهّلين، ولا يكفي استتابته على يد من ليسوا بمؤهلين، فإن تاب لا يجوز إرجاعه لأهله، ويجب أن يجبر على الجهاد ضد النصيرية.. خلافاً لأسرى النصيريين والشيعة فلا يجوز تأخير إعدامهم لأي سبب سوى استنطاقهم).

قبل التعليق على ما ورد في هذا المقطع، لابد من كشف اللبس عن كل ما قد يقال من كلام يؤول في نهاية المطاف الى تضليل العامة. إن حق الشعب السوري في الخلاص من النظام الاستبدادي القمعي القائم شرعي بكل مقاييس السماء والأرض، وهو يحتفظ بحقّه الأصيل في إقامة دولة القانون التي تكفل لكل مكوّنات الشعب بصرف النظر عن دينه وعرقه وطائفته حق الاعتقاد، والتمثيل في الحكومة، ومزاولة حرية التعبير والاجتماع والاتحاد، وإزالة كل ما يمكن أن يؤدي الى احتكار السلطة والعدوان على الآخر بأي صورة كانت، أو التشجيع على الكراهية الدينية. بتكثيف شديد: إن نظام الحكم المنشود في سوريا المستقبل يجب أن يكون ديمقراطياً، تعددياً، تمثيلياً، لا سلطة فيه لأحد على أحد الا بما قرره القانون، وتوافق عليه الشعب السوري.

الآن، ما يكشف عنه النص الوارد أعلاه أن ثمة فئة تضمر شرّاً بشريحة كبيرة من الشعب السوري، عبر استغلال أدوات الدولة لتحقيق غايات طائفية دنيئة لا صلة لها لا بواقع الشعب ولا بتاريخه. في حقيقة الأمر، ما يفصح عنه هذا النص، أن ثمة حلماً لدى جماعات وهابية وقاعدية بإقامة دولة وهابية ترغم المسلمين السنّة على الامتثال لأوامرها، وتعتمد مبدأ تصفية الآخر الخصم، العلوي والشيعي!

هذه الجماعة التي تطلق على نفسها (مشيخة الاسلام في بلاد الشام الشريف) من بين أسماء أخرى مثل (تنسيقية أهل السنة والجماعة في بلاد الشام) و(جماعة الدعوة والإرشاد في بلاد الشام)، ماهي الا أسماء قهرية تبطن نيّة مصادرة إرادة الشعب السوري، وفرض نموذج إكراهي عليه. بكلمة، إعادة انتاج الاستبداد في صورة دولة دينية، أي إحلال الاستبداد الديني محل الاستبداد العلماني.

ما تبشّر به هذه الجماعات الوهابية الارهابية قد يكون أسوأ من كل نماذج الحكومات الدينية بعد الربيع العربي من تونس ومصر واخيراً ليبيا، لأن من يقود مشروع القتال في سوريا اليوم هم جماعة قاعدية، جبهة النصرة، الوهابية معتقداً، والتي تحدّث قادتها في وقت مبكر عن مشروع إقامة الإمارة الاسلامية.

إن الرهان على مثل هذه الجماعات الارهابية لإطاحة النظام السوري وإقامة البديل الديني، يعني أن لاشيء تغيّر، وأن الاستبداد سوف يكون العقاب الذي يلاحق الشعب السوري في الاحوال كلها.

في حقيقة الأمر، أن النظام السعودي الذي يتصدّر الأطراف الداعمة للمسلّحين في سوريا يتناغم مع الجماعة القاعدية، لأنها بالتأكيد لا تأمل في رؤية بديل ديمقراطي يمكن أن يتشكل في سوريا، فهو والنظام في دمشق متّفقان على نبذ الديمقراطية، وإن غاية ما يطمح إليه ال سعود هو إسقاط بشار، ولا يهم من يكون البديل حتى لو كان الشيطان.

لا ريب، أن الجماعة الوهابية مهما بلغ عددها لا تمثّل سوى نسبة ضئيلة من الشعب السوري، ولا يجوز قانوناً ولا أخلاقاً أن تفرض عليه نموذجها، لمجرد أن لديها مدّعيات وهمية بأنها تملك الحقيقة المطلقة. بل إن مضمون المقطع أعلاه ينمّ عن غرور متضخم لدى القائمين على المشيخة، حين ينسبون الجهل بالاسلام الى الشعب السوري. وبعيداً عن الموقف من النظام السوري الشمولي المستبد والفاسد، فإن المدارس الدينية والعلم الشرعي لم يكن محظوراً ومحارباً، بل كان نظام بشار ذكياً الى حد أنه سعى الى عدم الاصطدام بالمؤسسات الدينية، حتى بالنسبة للسلفيين الذين تكاثروا في السنوات في الأخيرة في العاصمة دمشق وريفها، وكذلك محافظات درعا وحمص وحماه ودير الزور وغيرها.

المشكلة في سوريا ليست كما تتحدث عنها هذه (المشيخة)، بل هي تدور حول الاستبداد السياسي، وإن الحل ليس في تصدير قافلة من المشايخ الوهابيين لتعلّم السوريين العلم الشرعي، فليس هذا ما يحتاجه السوريون، بل الحاجة اليوم تتأكّد في إقامة نظام ديمقراطي يحفظ كرامة السوريين، ويخلصهم من جحيم القتل والعنف والدم وهدر الكرامة، ويمنحهم الحرية في اختيار شكل الحكم، وتقرير مصيرهم بأنفسهم، دون تدخّل من أحد مهما كانت الدعاوي التي يحملها.

ثمة كذبة يراد تمريرها في هيئة حقيقة، بأن القادمين من وراء الحدود جاءوا لإخراج السوريين من الظلمات الى النور، وأنهم جاءوا مبشرين ومنذرين، لتصحيح إسلام السنّة، من غير المتعاونين مع النظام القائم، ونحر العلويين والشيعة. هذه ببساطة الرسالة التي حملها هؤلاء بعد شهور من اندلاع الثورة السورية، وإن كارثة الكوارث تقع حين يفسح في المجال لمثل هكذا جماعات معتوهة بأن تقود سفينة مستقبل سوريا..التي نريدها للجميع: ديمقراطية، تعدّدية، متسامحة.

الصفحة السابقة