كلما ضاق النظام بمعارضيه ابتدع مؤامرة!

الحكومة تقبض على (خلية تجسس)!

محمد قستي

أعلنت الحكومة السعودية عن اكتشاف خلية تجسس تعمل لصالح دولة أجنبية، واعتقلت نحو 16 مواطناً اضافة الى لبناني وإيراني على خلفية تلك الخلية.

في بداية الأمر لم تشأ الحكومة تحديد تلك الدولة الأجنبية، وإن كان قد أوعزت لصحافييها ومخبريها في الإنترنت وعلى مواقع التواصل الإجتماعي أن يشيروا اليها ألا وهي: (إيران).

ثم ما لبث أن أعلن المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء منصور التركي بأن الدولة المعنية هي (إيران) التي نفت من جانبها ان يكون لها أية علاقة بالشبكة المزعومة؛ وردّت على الإتهامات ـ حسب الأوساط السعودية ـ بفتح ملف كان مغلقاً لأحد الدبلوماسيين السعوديين في طهران، بتهمة القيادة وهو مخمور، والتسبب في حادث سيارة أدى الى مقتل مواطنة، وبالتالي تمّ منعه من السفر ريثما تنجلي التحقيقات بشأن الحادث.

أدهشت الإعتقالات المواطنين الشيعة بوجه خاص، فقبل ان تعلن الحكومة هويتهم، كانت الألسن تتحدث عن حملة اعتقالات حكومية في مدن عديدة كجدة والرياض ومكة اضافة الى مدن الشرقية. وبمجرد أن تسرّب النبأ عبر رجال المباحث في مواقع التواصل الإجتماعي وكذلك مواقع الإنترنت، ربط المواطنون بين تلك الحملة وبين التهمة التي تنتظرهم.

سرّ الإدهاش هو أن هؤلاء المواطنين المعتقلين من ذوي الكفاءات العلمية، والشخصيات المعتدلة، ولا ربط لهم بالعمل السياسي المعارض من قريب أو بعيد. بين المعتقلين أطباء استشاريون متخصصون وأساتذة جامعة ومصرفيون اضافة الى رجال دين. والمدهش أكثر أن الإيراني المعتقل هو (سنّي) ويمكن اطلاق وصف (رجل دين) عليه، كونه تعلّم في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة التي تخرّج دعاة وهابيين وترسلهم الى كل العالم، وقد نال شهادة الماجستير منها، وهو يواصل دراسته لنيل شهادة الدكتوراة من نفس الجامعة. اما اللبناني فلم يكشف عن هويته عدا القول بأنه رجل أعمال.

منذ اليوم الأول لتسريب خبر (شبكة التجسس) انتهكت حقوق المعتقلين، فلا الإعتقالات كانت نظامية، واعتبرت الإتهامات دلائل قبل المحاكمة، وتم الترويج لذلك في مئات المقالات والتعليقات والتقارير الخبرية. صارت الإتهامات حقيقة وأمراً مسلماً به مادام جاءت من وزارة الداخلية، وقبل ان تقدم هذه الأخيرة أية دليل على ذلك أو يحكم بذلك قضاء مستقل، أو توفر الحقوق الأولى البديهية للمعتقلين كالإتصال بالمحامي او حتى بعوائلهم.

لم تلق الإتهامات الرسمية القبول او تقابل بالتصديق من قبل الشيعة عامة. ولكن ليس هذا هو المهم بالنسبة لوزارة الداخلية ورجال مباحثها. المهم أن تلقى التهم قبولاً وتأييداً لدى الأطراف الإجتماعية الأخرى، وبذا تكون قد تحققت الأهداف، خاصة مع العزف على الوتر الطائفي.

لكن الذي حدث ـ ومن خلال استقراء ردود الفعل على مواقع التواصل الإجتماعي ـ ان الأكثرية تشكك في اتهامات وزارة الداخلية، خاصة وانها جاءت غير مسنودة بأدلة او قرائن، وفي ظرف سياسي محلي صعب تعاني منه العائلة المالكة، ما جعل الأهداف الكامنة وراء حملة (خلية التجسس) تتغيّا الأهداف السياسية بامتياز.

لماذا الإعلان عن خلية التجسس في هذا الوقت؟

انها المرّة الأولى ـ حسب علمنا ـ التي تعلن فيها الحكومة السعودية أنها قبضت على خلية تجسس أجنبية. هي لم تنشر يوماً انها قبضت على خلية تجسس اسرائيلية او أمريكية او روسية أو هندية أو عربية مصرية او سورية او عراقية. لقد مرّت السعودية بفترات عصيبة داخلية وخارجية، ولكنها لم تشر الى قبضها على خلايا تجسس. وحتى في علاقاتها المتوترة في الغالب مع ايران، ورغم العداء المستحكم، والاتهامات المرسلة، لم يقبض على خلية واحدة إلا هذه المرّة، مع ان الداخلية السعودية بل الخطاب السياسي والإعلامي السعودي يشير دائماً ومنذ سنوات الى (أيادي ايرانية خارجية) لا تعبث في السعودية فحسب بل في كل المنطقة العربية!

الحكومة السعودية لم تنظر يوماً الى معارضيها إلا كـ (أدوات خارجية)، و (عملاء) ينفذون أجندة أجنبية. هي لا تريد الإعتراف بأن المعارضة عمل طبيعي ورد منطقي على وضع غير صحيح وعلى سياسات خاطئة. الرسالة التي يريد آل سعود إيصالها الى المواطنين هي ان النظام (طاهر مطهر، لا يأتيه الباطل من بين يديه) وأنه لا يمكن أن يعترض عليه إنسان سويّ، مخلص، ووطني.

وبرغم التنوّع في المشارب السياسية والأيديولوجية على الصعيد الوطني، فإن الحكومة لم توفّر أحداً من هذه التهمة (تهمة العمالة للخارج)!

فالناشطون الحقوقيون كلّهم (بلا استثناء) وجهت لهم تهم (الإتصال بالجهات الأجنبية) مع ما تتضمنه من ايحاءات بـ (العمالة)!

موقعو وثيقة الرؤية الذين قال لهم الملك عبدالله (ولي العهد حينها) بأن: رؤيتكم مشروعي! اعتقلوا ووجهت لهم تهمة الإتصال بالسفارات الأجنبية (ويقصد الأمريكية والغربية)!

ما عُرف بخلية جدّة، كان في مقدمة اتهاماتهم ان لهم اجندات خارجية وتواصل مع أطراف خارجية.

المعارضة الشيعية برمتها في السابق واللاحق لازالت تلاحق افرادها تهم العمالة لإيران وأمريكا والنصارى واليهود وحزب الله وأخيراً سوريا!

حتى السلفيين من أتباع القاعدة كان من ضمن اتهاماتهم انهم عملاء (لإيران) تارة؛ ولمخابرات غربية تارة أخرى!

كأننا هنا بإزاء نظام وطني، لم يتربى في حضن الإنجليز، ولا تتوفر له مظلّة الحماية الأميركية منذ عقود. لكن ال سعود لا يجرأون ان يسمّوا الأمور ـ رسمياً ـ بمسمياتها التي يتمنونها فيقولوا ان المعتقلين عملاء لأميركا وبريطانيا. ولكن لا مانع من تسمية إيران المعادية للغرب.

اذن تهمة العمالة مسألة اعتيادية بالنسبة لنظام اعتاد على وصم خصومه بالعمالة: للأشراف، الأردن، العراق الجمهوري والبعثي، ومصر عبدالناصر، وحتى اليمن الجنوبي.

ما هو جديد في هذه التهمة، أي خلية التجسس المزعومة، ان كل اعضائها هم شيعة. وأنهم لا علاقة لهم بالسياسة، فهم ليسوا محسوبين على المعارضة. وقد جاءت الإتهامات في ظرف اشتعال المحيط النجدي الذي يشكل خلفية النظام الاجتماعية ضد نظام الحكم، ما دعاه ـ وهذا هو التحليل الرائج ـ الى محاولة صرف النظر الى المنطقة الشرقية وشيطنة سكانها الشيعة، بغية استعادة الاصطفاف السلفي مع ال سعود كسابق عهده. لكن كما هو معلوم، فإن كل فئة اجتماعية ومناطقية ومذهبية اكتشفت نظام آل سعود بعد أن جربته بشكل مباشر. كثير من القضايا كان المواطنون يصدقونها باعتبار النظام لا يكذب، ولكن حين اصطدموا به، اكتشفوا حجم الأكاذيب، وطبيعة القضاء الفاسد، والإعتقالات والتعذيب، والأكاذيب التي يبثها في الإعلام، بحيث ان الأكثرية ـ تخميناً ـ ما عادت تصدق مزاعم وزارة الداخلية السعودية.

لإيجاد اصطفاف سلفي مع آل سعود بعد ان اتسع الخرق بينهما، لا بد من شيطنة عدو داخلي مشترك، وليس هناك أكثر اثارة من موضوع الشيعة الذين يجوز اتهامهم بكل شيء.

ولكي يوجد النظام اصطفافاً على الصعيد الوطني لا بد من شيطنة ايران مرة اخرى واستدعاءها للداخل، فالقول بان النظام يتعرّض لخطر خارجي (شيعي أيضاً) قد يستثير البعض، ويخفف من غلواء معارضته لال سعود.

هذه هي الأهداف: تحويل الأنظار من الرياض وبريدة الى القطيف والأحساء؛ وإشغال الرأي العام بخطر خارجي بدلاً من مواصلة الإعتراض على النظام داخلياً!

هذا هو ما فهمه واجهات الشيعة في السعودية، فأصدروا بياناً ضد وزارة الداخلية، وقعه 37 شخصية من بينهم الشيخ حسن الصفار وتوفيق السيف والشيخ عبدالكريم الحبيل، والسيد حسن النمر، والقاضي محمد العبيدان، وآخرون. يقول البيان التالي:

(ما صرح به المتحدث الأمني بوزارة الداخلية من اتهام عدد من المواطنين الشيعة المعروفين بوطنيتهم واستقامتهم بالضلوع في شبكة تجسس، ادعاء مرفوض ومريب. ونعتقد أنه يستهدف استغلال التوتر الطائفي المتفاقم في المنطقة لصرف الأنظار عن المطالب المتصاعدة بالإصلاح السياسي، وإنهاء الاعتقال من دون محاكمة عادلة، الذي يخضع له آلاف المواطنين في الوقت الحاضر. إننا إذ نرفض هذه الإدعاءات، نطالب بتجاوز سياسة اللعب على ورقة الافتراق المذهبي، وندعو لمعالجة مشكلات البلد، والتقدم بخطوات في الإصلاح السياسي، وإقرار المساواة، وحماية حقوق الإنسان، والعمل بجدَ لتعزيز الوحدة الوطنية).

شجع البيان هذا عوائل معتقلين وناشطين آخرين، فوقع نحو 135 شخصاً على بيان آخر بشأن خلية التجسس، نفوا فيه التهم التي تلقيها السلطة جزافاً لأسباب طائفية ولتحقيق أغراض سياسية.

ما حدث أن كل الموقعين منعوا من السفر لأمد غير محدد قد يستغرق سنوات طويلة، ولازال التحقيق معهم في المباحث قائماً، حيث تؤخذ منهم تعهدات بعدم العودة الى مثلها!

واما الشيخ الصفار، الذي كان يُنظر اليه على انه حليف السلطة، فإن الحكومة تعتقد بأنه مهندس بيان الرد على وزارة الداخلية، فقد استدعي الى الرياض بحجة لقاء وزير الداخلية، ولكنه احتجز في فندق تحت الرقابة ومُنع من العودة الى القطيف بغية إذلاله وتخويفه.

هذا الفعل المتشدد يقطع ما تبقّى من حبال بين السلطة والمواطنين الشيعة في الشرق، فإذا كان النظام عاجزاً عن استيعاب من يسميهم هو بـ (العقلاء والمعتدلين).. وإذا كان خطابه غير مقنع لهؤلاء، فكيف يستطيع أن يقنع معارضيه؟

ويرى ناشطون ان ما تتجه اليه الحكومة هو تصعيد الموقف الأمني، واعتماد العنف العاري ضد خصومها، بعد أن خسرت كل الأطياف المعتدلة في دعم مواقفها، وتهدئة الساحة السياسية، وهو أمرٌ نجحت فيه الى ما قبل عامين، أي الى وقت تفجر الأوضاع السياسية والمظاهرات الإحتجاجية وقتل المواطنين بالرصاص.

كلّما خسر النظام أرضاً ابتدع مؤامرة خارجية!

وكلما فشل وطنيّاً صعّد من استخدام ورقة الطائفية!

وكلّما ضعف منطقه قبال منطق معارضيه اتكأ على العنف والحل الأمني أكثر فأكثر!

الصفحة السابقة