باحثون يترقّبون تغييراً فريداً

دوافع الحراك الشعبي في السعودية

عبدالحميد قدس

الحراك الشعبي الذي بدأت ارهاصاته قبل الحادي عشر من آذار (مارس) 2011 لم يكن مجرد حادثة عرضية في تاريخ المملكة السعودية، بل كان فعلاً ذاتياً وموضوعياً يستمد مبرر وقوعه من عوامل/دوافع عديدة وأهمها:

العامل الاقتصادي

منذ العام 1983 بدأت مداخيل النفط بالإنهيار الأمر الذي جعل قدرة الدولة على ضخ المال في الحياة العامة ضعيفة للغاية، خصوصاً في بلد يعتمد فيه على الاقتصاد الريعي، حيث يعيش الأفراد على ما توفّره الدولة من معونات إجتماعية ومصادر دعم مادية. لقد بدت الدولة عاجزة منذاك على تلبية الحد الادنى من شروط الرعاية، وشهدت موازنة الدولة السنوية عجزاً تراكمياً ومزمناَ فيما وصل الدين العام الداخلي حتى العام 2002 الى 720 مليار ريال سعودي (نحو 200 مليار دولار أميركي)..

انعكس انهيار اسعار النفط، وتراكم العجز السنوي، وتزايد الدين العام في مشكلات اقتصادية واجتماعية خطيرة للغاية، حيث بدأت ظاهرة البطالة تفرض نفسها تدريجاً. وقد أثار إصرار الدولة على عدم تقديم إحصاءات رسمية حول أعداد العاطلين عن العمل من الجنسين جدلاً واسعاً كونه يبطن خللاً عميقاً في رسم سياسات اقتصادية واضحة لمعالجة أزمة البطالة. وفيما تمسكّت الحكومة السعودية بنسبة تدنو عن 10% وهو المعدل العالمي والذي يعتبر الحد المقبول لنسبة العاطلين والتي لا تضعها في مستوى الأزمة، فإن احصاءات لاحقة من مؤسسات اقتصادية عالمية وتالياً وزراء في الحكومة كشفت عن أعداد كبيرة ومخيفة، حيث تحدثت مجلة (الايكونوميست) في عددها الصادر في 3 مارس 2012 بعنوان (الخروج من منطقة الراحة) أن الارقام الرسمية للبطالة تصل الى 10.6% ولكن التقديرات غير الرسمية تشير الى أن البطالة بين الشباب فى سن العشرينيات تصل الى 35% ، علما بأن 60% من السكان تقل اعمارهم عن 21 عاماً. ونبّهت المجلة الى ضرورة التحرّك الفاعل الذي يتجاوز الخطط والوعود الكبرى التى تعلنها الحكومة. وكانت الحكومة السعودية أعلنت فى يناير من العام 2012 عن خطة لتوفير 3 ملايين فرصة عمل جديدة خلال السنوات الثلاث المقبلة، بالاضافة الى 3 ملايين فرصة أخرى بحلول عام 2030. وعلّقت المجلة على هذه الخطط بأن هذه المهمة شاقة جداً، حتى لدولة لديها قاعدة صناعية كبرى، وهو ما لا تملكه السعودية. فقد اصبح ايجاد الوظائف فى السعودية معقداً بسبب فشل قوانين العمل السابقة.

وفيما يعلن مركز الاحصاء والمعلومات السعودي بأن نسبة البطالة 12.1% في العام 2012، كشف وزير العمل عادل فقيه عن حقيقة صادمة حيث ذك بأن هناك مليوني عاطل عن العمل منهم 85% من النساء (الشرق، 18 ديسمبر 2012). وفي حقيقة الأمر، أن نسبة البطالة سوف تبقى قضية ضبابية لأنها كبيرة ولا تريد الحكومة الاقرار بها، لما يترتب عليها من التزامات اقتصادية وتعديل جوهري للخطط الاقتصادية وسياسات العمل.

يضاف الى البطالة مشكلة الفقر التي باتت حاضرة بكثافة في الحياة اليومية للمجتمع، وقد قام ثلاثة من المنتجين الشباب بإعداد فيلم وثائقي عن الفقر في المملكة ونشر على اليوتيوب، وتعرّضوا للاعتقال في أكتوبر من العام 2011. أن يعرض مواطن إبنه للبيع على موقع (فيسبوك) يعتبر خبراً مريباً، ولكن بعد إقدام بوعزيزي على إحراق نفسه في 2010 والذي أشعل ثورة شعبية أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، فإن عدداً من المواطنين في المملكة السعودية أقدموا على إحراق أنفسهم خلال الأعوام الثلاثة الاخيرة كرد فعل على الأوضاع المعيشية المتردية. يضاف الى ذلك، فإن هناك أكثر من حالتي انتحار يومياً تقع في المملكة السعودية للسبب نفسه. ووفق احصاءات رسمية للعام 2012 فإن عدد حالات الانتحار بلغت 787 حالة سنوياً.

وبالرغم من نفي المسؤولين في الحكومة السعودية وجود فقراء بأعداد كبيرة، فإن المستفيدين من (الضمان الاجتماعي) يتجاوز عددهم 600 ألف أسرة وفي إحصائية أخرى 880 ألف أسرة، وهو ما يجعل عدد الفقراء بحساب أولي يصل الى أكثر من مليوني ونصف المليون شخص (حيث تم حساب 3 أفراد للأسرة الواحدة). وقد نشرت صحيفة (الشرق) في 7 إبريل 2009 بأن 22% من سكان السعودية فقراء وذلك بناء على إحصائيات التقرير السنوي لوزارة الشؤون الاجتماعية السعودية رغم الإعلان عن إنشاء إستراتيجية وطنية لمكافحة الفقر قبل عشر سنوات. تقرير الوزارة تحدّث، بحسب الصحيفة، عن وجود 3 ملايين سعودي تحت خط الفقر.

يضاف الى ذلك أزمة السكّن التي تحوّلت قبل شهور قليلة الى مادة جدل واسعة بين المسؤولين والمراقبين والمواطنين. وقد نقلت صحيفة (الرياض) في عددها بتاريخ 28 يونيو 2007 عن أيمن طارق جمال، العضو المنتدب والرئيس التنفيذي لشركة مُلاك، أن السعودية تعتبر أقل دولة خليجية لديها نسبة تملك مساكن حيث يمتلكون ما نسبته 22%، بينما نسبة تملك مواطني دولة الإمارات تبلغ 91%، وفي الكويت 86%. وأضاف أن 40% من المتقاعدين السعوديين لا يملكون منزلاً إنما يسكنون بالإيجار.

هيئة فاسدة لا تستطيع مكافحة الفساد

كلام جمال بقي مهملاً حينذاك ولم يتمّ التعليق عليه من قبل المسؤولين والصحافة المحلية رغم ما تثيره النسب المذكورة من أسئلة جديّة حول سياسات الاسكان وبرامج الاقراض العقاري التي ثبت أنها لم تسهم في حل مشكلة الاسكان بل تحوّلت الى أحد مظاهر أزمة الدولة نفسها. المثير في الأمر، أن وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي محمد الجاسر زعم بأن نسبة تملّك السعوديين للمساكن بلغت 61% العام 2007 (جريدة الرياض 28 مايو 2012) وقد أثبت مستشارون وخبراء اقتصاديون وعقاريون عدم صحّة هذه النسبة بل اعتبروها مجرد كلام إعلامي لا يستند الى دليل علمي أو أرقام حقيقية تبيّن حجم القروض العقارية وكلفة بناء الوحدة السكانية يضاف الى ذلك حجم الزيادة السكانية والأكلاف الحقيقية لبناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية للوصول الى النسبة التي يقترحها الوزير.

كل ما سبق يبقى ناقصاً حين يغفل المراقب والباحث ملف الفساد المالي في المملكة السعودية والذي بدونه لا يكتمل نصاب تحليل وقراءة العامل الاقتصادي كمحرّض على الاحتجاج الشعبي والحراك السياسي. وغالباً ما ينسب الفساد في هذا البلد الى جهات مجهولة، وفي أحسن الافتراضات ينسبونه الى جهة لا يمكن الوصول اليها، أو ينقطع السبيل في التحقيق معها لأنها نافذة، حسب فحوى كلام رئيس هيئة مكافحة الفساد محمد الشريف.

مشكلة الفساد ليست فقط في النظام الاداري المتخلّف ولا في البيروقراطية المتكلسة التي عفى عليها الزمن، ولا المواطن الذي ترغمه ظروفه المعيشية القاسية على الانخراط في لعبة الفساد، ليس ذلك فقط، فتلك عوارض لظاهرة فساد أكبر تديره العائلة المالكة وتسيطر عليه الطبقة العليا فيها وهي التي تمسك بزمام الأمور. فسرقة النفط وبيعه في الأسواق السوداء، وتشبيك الأراضي، ومصادرة الممتلكات العامة والخاصة في المدن الكبيرة بما في ذلك المدن المقدّسة، والسيطرة على البر والبحر بعد دفنه حتى باتت 80% من شواطىء البحار المحيطة بالمملكة مملوكة للأمراء، فيما تبلغ الرشاوى والعمولات على الصفقات العسكرية والمدنية أرقاماً فلكية وخيالية ليس آخرها صفقة اليمامة التي أبرمت مع الحكومة البريطانية في عهد مارغريت ثاتشر العام 1985 بقيمة تتجاوز 60 مليار دولار، وحصد منها الامير بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات العامة الحالي ملياري دولار كعمولة، دون حصص إخوته وأبناء عمه الملك فهد..

وكانت قناة (إم بي سي) قد نشرت في 17 نوفمبر 2012 بأن الفساد في السعودية يأكل من حق المواطن ودخله السنوي بمقدار الثلثين، بحسب مجلس الغرف السعودية. محمد الشريف، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد قال قبل عام بأن حجم الفساد غير معروف، الأمر الذي أثار تعليقات ساخرة حيث علّق أحدهم على تصريح الشريف بأن عدم معرفة حجم الفساد دليل على ضخامته واستحالة السيطرة عليه.

وفي 29 يناير الماضي ذكرت صحيفة (الجارديان) اللندنية عن دراسة دولية لم يسبق لها مثيل عن وزارات الدفاع الوطني والقوات المسلحة بأن السعودية من بين دول أخرى مثل قطر وعمان لا تقوم بأي إجراء يذكر لمكافحة الفساد في تجارة الأسلحة.

وكانت مصادر اقتصادية ذكرت قبل عامين بأن حجم الفساد المالي في المملكة السعودية بلغ نحو 3 تريليون ريال سعودي أي ما يعادل (800 مليار دولار). وقال اقتصاديون لصحيفة (الوطن) السعودية في 12 فبراير 2007 بأن (للفساد الإداري صوراً عديدة لا يمكن حصرها في قالب واحد، إلا أن أبرزها الواسطة، والرشا، وسرقة المال العام من ميزانية القطاع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة).

وعن حجم الفساد المالي في السعودية أكد رئيس لجنة المحامين في الغرفة التجارية الصناعية في الرياض ماجد قاروب: (أن حجم الخسائر كبيرة، وتقدر بنحو 3 تريليونات ريال)، مؤكداً أنه (لو عمل تخطيط للقوانين والمحاكم والإجراءات لما خرجت هذه الأموال التي تعتبر فسادا ناجما عن سوء التخطيط). أما أستاذ القانون في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة عمري الخولي، فقال: (هناك خسائر تقدر بمليارات الريالات نتيجة الفساد، ولا يستطيع أحد معرفتها ؛لأنها سرية ولا يفصح عنها).

وفي التفصيل، نشرت صحيفة (الوطن) السعودية في 14 آيار (مايو) 2012 بأن هيئة مكافحة الفساد تواجه تعثر مشاريع هندسية تتجاوز قيمتها تريليون ريال.

وثمة كلام كثير في الخفاء يدور حول ثروات الأمراء، حيث نشرت تقارير عن أحجام خيالية لثروات الأمراء بدءاً من الملك فهد الذي مات عن ثروة قدّرت بنحو 400 مليار ريال، أي ما يربو عن مائة مليار دولار، فيما بلغت ثروة الأمير سلطان، ولي العهد ووزير الدفاع السابق 720 مليار ريال، بحسب شبكة سي إن ان، أي ما يعادل 200 مليار دولار، أما الأمير مشعل بن عبد العزيز، رئيس هيئة البيعة، فقد قدّرت ثروته بتريليون ومائتي مليار ريال، أي نحو 320 مليار دولار. وثمة سريّة مقصودة تحيط بثروات الملك عبد الله، والأمير نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية الأسابق، والأمير سلمان، وزير الدفاع وولي العهد الحالي. فيما تتحدث تقارير متعددة ومحايدة عن ثروات مليارية لعدد من الأمراء من أبناء الطبقة الحاكمة من الأمراء أي أبناء الملك فهد، والملك عبد الله، والأمراء سلطان، ونايف، وسلمان.

التواصل الاجتماعي في مواجهة الإستبداد السياسي

العامل السياسي

منذ الاعلان عن الدولة السعودية الثالثة العام 1932 لم يحدث أي تطوير في نظام الحكم، الذي تميّز باحتكار السلطة من قبل العائلة المالكة، وغياب المشاركة الشعبية، وتالياً كان الاقصاء السياسي هو السمة العامة الذي حكمت الدولة السعودية حيث ولّد الاغتراب السياسي شعوراً عاماً بأن هذه الدولة تحوّلت الى جهاز ضخم ضد مصالح الشعب.

ثمة خلل خطير في نسب التمثيل المناطقي في الجهاز البيروقراطي للدولة. فإضافة الى سيطرة آل سعود على المناصب السيادية وعلى كل المحافظات، فإن تمثيل المناطق في الجهاز الحكومي قائم على قاعدة الولاء للعائلة المالكة، وقد ذكر محمد الصنيتان في كتابه (النخب السعودية، دراسة في التحوّلات والإخفاقات) بأن منطقة نجد تسيطر على 78% من المناصب الوزارية، فيما يتمثّل الحجاز بنسبة 17%، وتتقاسم بقية المناطق نسبة 5%.

تنبّهت العائلة المالكة بعد حرب الخليج الثانية الى ضعف المشاعر الوطنية لدى الأغلبية الساحقة من السكّان الأصليين في هذا البلد، ولذلك بدأت في العام 1996 برنامج الثقافة الوطنية، الذي كان يهدف بحسب جوزيف نيفو (1998) (تعزيز موقع الحكومة ومشروعيتها)، ولكن هذا البرنامج لم يحقق نجاحاً يذكر، ببساطة لأن العقلية التي تقف وراء إعداد البرنامج تجاهلت حقيقة أن مقاربة الثقافة الوطنية ليست بإعادة إنتاج السلطة وترسيخها، بل من خلال استيعاب المكوّنات السكانية التي جرى تهميشها وإقصائها على مدى عقود داخل دائرة السلطة. ولذلك، لحظنا كيف أن بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 حلّت لعنة على النظام السعودي وعلى المؤسستين السياسية والدينية على السواء وبدأت المطالبات الاحتجاجية تتصاعد بضرورة تغيير المناهج الدينية، وإجراء إصلاحات جوهرية في نظام الحكم. في تلك الفترة طرحت مسألة الولاء للدولة، أو بالأحرى للسلطة السعودية، ما دفع الملك عبد الله، ولي العهد حينذاك، الى التبرّم من ضعف ولاء الطلاّب لوطنهم.

لم تتنبّه العائلة المالكة حينذاك الى الحاجة الى برنامج إندماج وطني فاعل، عبر إقرار وتعزيز مبدأ المشاركة الشعبية وتوسعة قاعدة التمثيل الشعبي في صنع القرار السياسي، في سبيل احتواء الازمات السياسية والامنية التي ارتطمت بالبلاد بعد الحادي عشر من سبتمبر. ما حدث على وجه التحديد هو إعادة طلاء وجه السلطة المشوّه عبر إجراء تغييرات شكلية مثل تأسيس مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، حيث عقد جولات عدّة من اللقاء الوطني لجهة معالجة مشكلة السلطة مع الخارج، ولم تسفر تلك اللقاءات عن قرارات عملية أو برامج ادماج وطني، أو مؤسسات حقيقية تعيد بناء الدولة على قاعدة شراكة وطنية، أو بلورة فكرة دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، ويحصل كل المكوّنات السكانية على حقوق متكافئة في التمثيل السياسي.

بقيت أزمة الحكم قائمة، حيث تحتكر العائلة المالكة كل المراكز السيادية وتدير البلاد بطريقة خاصة حيث يقرر الملك وعدد قليل جداً من الأمراء شؤون البلاد، ويقررون موازنة الوزارات، وطريقة معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وكل من يطالب بالشراكة أو تغيير في نظام الحكم وشكله على طريقة جمعية الحقوق المدنية والسياسية التي طالبت بالملكية الدستورية انتهى مصير قادتها الى وراء القضبان، وكذلك رموز عريضة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) التي رفعت لولي العهد حينذاك، الملك الحالي، في يناير 2003، وآلت بعدد منهم الى المعتقل بقرار من الأمير نايف، وزير الداخلية الأسبق، فيما لاذ الملك بالصمت.

العامل السياسي اليوم يعتبر محرّضاً فعالاً على الاحتجاج الشعبي، حيث المطالبات بضرورة تغيير نظام الحكم، وتطوير آليات للمشاركة الشعبية واقرار دستور جديد فاعل يحدد صلاحيات الملك والأمراء وينظم عملية تداول السلطة، وعمل الاحزاب والجمعيات السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني، ويضع قوانين صارمة لمحاربة الفساد المالي والإداري، وينظم عملية إنفاق الثروة الوطنية على مشاريع التنمية بما يؤول الى معالجة مشكلات الفقر والبطالة وأزمة السكن والخدمات العامة..

ثورة طبقة وسطى ام ثورة جياع؟

العامل الثقافي/ الاتصالي

لا شك أن منسوب الوعي لدى الغالبية العظمى من سكّان المملكة السعودية قد تضاعف في العقد الأخير بفعل الثراء الاتصالي، وكان انكسار حلقة التوجيه الثقافي والتربوي الرسمي عبر الانفتاح الثقافي الذي بدأ أول مرة مع الفضائيات ثم الانترنت وصولاً الى وسائل الاتصال الاجتماعي سواء على النت أم على أجهزة الهواتف النقّالة، حيث بات الشعب في أغلبه صانعاً للحدث بعد أن كان مجرد مستقبل، وهو اليوم قادر على التأثير في السياسات والقرارات الرسمية عبر حملات منظمة يقوم بها عبر مواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً (فيسبوك) و(تويتر). وقد نجحت حملات شعبية في هذين الموقعين في تعطيل مفعول الانتخابات البلدية السابقة التي ثبت فشلها نتيجة دعوات المقاطعة عبر الفيسبوك، فيما أوقفت الحملات قرارات حكومية معينة. وبات الشعب قادراً على مواجهة توجّهات الحكومة وخططها عبر حملات منظمة على مواقع الاتصال الاجتماعي ما دفع بجريدة (نيويورك تايمز) لأن تقول بأن ثورة السعوديين تتم عبر تويتر (20 أكتوبر 2012).

نشير هنا الى تقرير صدر شهر آذار (مارس) الماضي عن مركز Global Web Index للأبحاث عن تصدر المملكة السعودية لقائمة أكثر الدول استخداماً لتويتر في العالم، حيث يقول التقرير أن 51% من مستخدمي الانترنت في السعودية يمتلكون حسابات لهم في تويتر، مما يعني أن النسبة تضم أكثر من نصف مستخدمي الانترنت في السعودية. وقال التقرير أن السعودية هي الدولة الأسرع نمواً عالمياً في تويتر، فقد زاد عدد مستخدمي تويتر من السعوديين بنسبة 56% في العام 2012، لتصبح نسبة مستخدمي الشبكة حالياً 51% من اجمالي المستخدمين السعوديين للانترنت، وتشير التقارير إلى أن أحد عوامل نجاح السعودية في الوصول إلى هذه النسبة هو ارتفاع مستويات ثقافة الانترنت في السعودية؛ فهناك أكثر من 60% من السعوديين يستعملون الانترنت عبر هواتفهم الذكية.

وقد ذكر تقرير آخر صدر عن كلية دبي للإدارة الحكومية يوضح أن 29% من التغريدات الصادرة من منطقة الشرق الأوسط مصدرها السعودية، وتشير احصائيات إلى أن السعودية تملك أكبر تعداد سكاني في المنطقة العربية متصل بالإنترنت، حيث يبلغ عدد مستخدمي الانترنت فيها حوالي 8.493.252 مستخدم، أكثرهم من فئة الشباب.

وبحسب أحصاءات صدرت في يناير 2013 عن موقع (سوشيل كلينيك) فإن عدد مستخدمي الفيسبوك بلغ نحو 6 ملايين فيما بلغ عدد مستخدمي تويتر 3 ملايين شخص، وبواقع 50 مليون تغريدة شهرياً، فيما تتم مشاهدة 90 مليون فيديو يومياً في السعودية وهي أعلى نسبة على مستوى العالم.

دلالات ما سبق تبدو واضحة أن الغالبية الساحقة من المجتمع في هذا البلد والمؤلّفة من الشباب لم تعد تخضع تحت تأثير مصادر التوجيه الرسمي، بل هي اليوم تتلقى ثقافة أخرى وتتفاعل مع تطورات تجري خارج الحدود، وتعيش قطيعة نفسية وفكرية مع السلطة بكل أشكالها. والأهم من ذلك كله، أن انفتاح الغالبية السكانية على وسائل الاتصال الاجتماعي وما يدور فيها من تفاعلات ثقافية وسياسية تشكّل مادة تحريض على إحداث تغيير في الواقع، ولذلك تحوّلت مواقع فيسبوك وتويتر الى ما يشبه مضمار إحماء لحركة تغيير شعبية واسعة النطاق، الأمر الذي دفع بالحكومة للتفكير في حجب مواقع التواصل الاجتماعي لصعوبة مراقبتها، أو بما يتطلب عملاً من هذا القبيل جهوداً كبيرة جداً.

العامل الاقليمي

لعبت التحوّلات السياسية الكبرى وغير المسبوقة التي شهدها الشرق الأوسط منذ نهاية العام 2010 دوراً رئيساً في اطلاق الحراك الشعبي في المملكة. فقد كان السيناريو المقترح في ضوء تساقط أنظمة شمولية في شمال أفريقيا بدأت بتونس وانتقلت الى مصر وليبيا في الغرب ثم هبّت رياحها سريعاً الى الشرق واجتاحت اليمن والبحرين وسوريا وحرّكت قطاعات شعبية في الأردن والسعودية وعمان والكويت والامارات..

لعبة الدومينو التي فرضت نفسها على المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط وضعت المملكة السعودية في مركز اهتمام المراقبين لمجريات الربيع العربي، حيث كانت التوقّعات بعد سقوط نظام حسني مبارك في فبراير 2011 تتمحور حول إمكانية انتقال الثورة الى السعودية..

وبعد مرور أكثر من عامين على الربيع العربي لا تزال أنظار المراقبين مصوّبة ناحية المملكة السعودية التي تشهد احتجاجات شعبية متنقلة، وأن ما يجري فيها ينذر بتحوّلات كبيرة ليس في هذا البلد فحسب، بل في المنطقة والعالم بأسره. وبالرغم من الاهمال المقصود من قبل حكومات غربية (أميركية وأوروبية) لما يحدث في المملكة السعودية من مظاهر احتجاج في مناطق متفرقة، حتى مع سقوط قتلى واعتقالات بالعشرات وأحكام جائرة ضد الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان، إلا أن استمرار الاحتجاجات يشي بحقيقة كون الحراك الشعبي يكتسب قوته من مصادر ذاتية بدرجة أساسية، وإن غياب العامل الخارجي يمنحه صدقية ومشروعية شعبية بخلاف ثورات أخرى تنخرط فيها قوى دولية كما حصل في ليبيا وسوريا.



الصفحة السابقة