بيعة السيف الأملح والرمح:

ذكرى البيعة: بدعة جديدة لكذبة قديمة!

محمد قستي

الإحتفال بـ (ذكرى البيعة) أو بـ (تجديد البيعة) بدعة جديدة من بدع الملك عبدالله، لم يفعلها أحد من قبله من الملوك السعوديين. نعم كانت تجري بعض الإحتفالات بمناسبة مرور عشر او عشرين سنة أو ما أشبه، ولكنها لم تكن ابداً بشكل دوري سنوي.

ترى هل فهم الملك الحالي قيمة الإعلام بأكثر مما كان يفهمه أسلافه؟ أم أن هناك مشكلة ما يراد التغطية والتعمية عليها؟

يصرّ الحكام السعوديون على أن حكمهم شرعي اولاً، بمعنى أنهم جاءوا الى الحكم وفق الشرع، وأنهم يطبقون أمر الله وشرعه ثانياً، وأنهم في أشخاصهم مؤمنون مواظبون في سلوكهم وفق متطلبات الشرع ثالثاً.. ما يجعل حكمهم اسلامياً شرعياً بكل معنى الكلمة!

هذه العناصر الثلاثة يشكك فيها ـ أو على الأقل في أحدها ـ القريب والبعيد، المواطن العادي والمثقف من النخبة، والمتديّن أياً كان مذهبه وغير المتدين. الإختلاف ليس في تقرير حقيقة أن عنصراً ما ـ على الأقل ـ من هذه العناصر الثلاثة غائب، وإنما الإختلاف في كيفية التعاطي مع النظام القائم وفق ما يقوم به من خروقات. فهل يجب الخروج عليه أم لا؟ وهل يكون الخروج عليه بالكلمة أم بالسلاح؟ هذا هو موطن الإختلاف.

لكن لا يستطيع أن يزعم أحد أن سلوك آل سعود في اشخاصهم هو سلوك من يؤمن بالدين ويلتزم بأحكامه: لا يمكن ان تكون سرقة الحكام من الأمراء للمال العام، ولا ممارسة أنواع من العهر في الداخل والخارج، ولا في تركهم لفرائض الدين من صلاة وصيام وغيرها، لا يمكن ان تكون هذه سلوكيات حاكم مسلم.

لا يمكن أن تكون سياسات النظام في الداخل فيما يتعلق بتطبيق العدالة، وفي منح المواطنين حقوقهم تجري وفق الشرع؛ ولا يمكن تبرير عمالتهم للغرب، ورهنهم للبلاد، واستحداث انظمة وقوانين مخالفة للشرع، والموافقة على إيجاد قواعد للغرب يضرب بها بلاد المسلمين، بحيث يمكن القول انهم يطبقون شرع الله في احكامه وقوانينه: لا في الحكم ولا في الممارسة.

ويبقى موضوع أن آل سعود جاؤوا برضا الناس، حيث يصرّون على أن لهم (بيعة) في أعناق المواطنين. بيعة تعني ما عناه الفقهاء: (صفقة اليد وثمرة القلب).

لكن.. من منحهم من المواطنين صفقة اليد وثمرة القلب؟

من اختارهم من المواطنين؟

الحكم السعودي هو حكم متغلّب. اي أنه حكم جاء بالقوة والسلاح، وهو باق بالقوة والسلاح (السيف الأملح كما يقول الأمراء).

الأمراء يقولون أن الحكم حقّ لهم لأنهم أخذوه (بذراعهم!)، وأن من يريد أن يكون له صوت او رأي يشارك في الحكم، فإن عليه أولا ـ كما قال ولي العهد الحالي سلمان في حفل بجدّة ـ أن يأخذ ذلك بالسيف!

وعليه.. كيف يجتمع (حكم المتغلّب) مع (حكم البيعة) المزعومة؟

حكم المتغلّب لا يحتاج الى (بيعة) ولا الى (شورى) واختيار.. اللهم إلا إذا كانت (البيعة) كمفردة أريد بها التغطية على حكم جبري ملكي وراثي عضوض لا علاقة له بحكم الإسلام؟!

يقولون (بيعة).. فمن الذي أخذ رأي عامّة الشعب فيمن يجب أن يحكمه؟

كم عدد المواطنين الذين بايعوا؟

وهل الذين بايعوا يمثلون الناس باختيارهم حتى يمكن تسميتهم أنهم (أهل الحلّ والعقد)؟

وكيف يكون الأمراء الذين يقررون من هو الملك، أهل حلّ وعقد؟

وكيف يعتبر عشرات من المشايخ (يدينون للحاكم بمواقعهم ورفاهيتهم) وهم من مذهب واحد، يمثلون التنوّع والتعدّد في المجتمع؟

يزعمون أن (الأمراء والعلماء) هم من ينوب عن المواطنين في (البيعة).. وهم يمثلون أهل الحل والعقد. أما طريقة البيعة فتفضح كل هذا، إذ يختار الأمراء الملك من بينهم، ثم يطلبون من مشايخ المذهب الرسمي المبايعة؛ وبعدها يطلبون من كل أمير منطقة من العائلة المالكة أن يستدعي بعض الواجهات، ليبايعوا في مقرّ الإمارة.

ما علاقة كل هذا بالشورى في الإسلام؟ وبالبيعة في الإسلام؟ وكيف يحاجّون المواطن: بأن في عنقه بيعة للملك؟ فمتى بايع المواطن أصلاً، أو حتى طُلب منه البيعة؟ وكيف تكون البيعة نفسها بدون وجود خيار أمام المبايعين؟

إن الحكم السعودي في جوهرة حكم تسلّطي، حكم متغلّب، حكم وراثي، حكم جاء بغير الشورى ورأي الأمة وانتخابها. انه حكمٌ لا يريد أن يسمع رأي المواطنين، ولم يأت باختيارهم.. ومع هذا يقولون أن الحكم السعودي جاء وفق الشورى والبيعة الشرعية!

لقد طعن الكثيرون في هذه البيعة النشاز، وتحدثوا علناً عنها، ورفضوا محاكمة من يعترض على الحكم على أساس انه (خارج عن البيعة).. وكان آخر من تحدّث الدكتور عبدالله الحامد الذي صرح بالتالي وهو خارج للتوّ من المحكمة:

(قلنا أن وزير الداخلية السابق، الذي هو ولي العهد أنه فاسق، لا تجوز مبايعته؛ وقلنا أن الدولة وقبل ان تحاكم المتهمين بتهمة الخروج على الحكم، أن تستوفي شروط البيعة الشرعية التي أخلت بها). وأضاف الحامد: (أنا أطالب باستيفاء شروط البيعة، فهل الذي يطالب بذلك يتهم بأنهم خارجي؟ من الشخص الذي خرج على شروط البيعة؟... أين هي البيعة الشرعية)؟ وتابع: (هيئة كبار العلماء غير مفوضة شعبياً وهي موظفة؟ من الذي وصفهم بكبار العلماء؟ انها هيئة غير منتخبة، فكيف تجاسرت على اختزال سلطة الأمة بها؟... وكيف يتصورون أنفسهم بديلاً عن سلطة الشعب؟).

وأكمل الحامد: (سأطرح بعض النقاط التي تثبت ان البيعة الشرعية في واد، وأن الحكم السعودي في واد آخر، ليس هناك شيء اسمه بيعة. هناك حكم تمييز عنصري. انهم يطبقون قانون أنهم اذا سرق فيهم الشريف تركوه واذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد.... هل هذا يدل على ان الحكم قائم على البيعة الشرعية. ثم ان النظام السياسي السعودي يتنكر لسلطة الأمة على الولاة، ومبدأ ان الرعية هي ولية أمر أمرائها، وأنها هي الحفيظة على الدولة والشريعة). وواصل: (انتهك النظام السعودي مبدأ عدم جواز اتخاذ العنف وسيلة للحفاظ على السلطة أو الوصول اليها. فأين هي البيعة الشرعية يا هيئة كبار العلماء؟!). ثم (إن النظام السياسي السعودي لا يؤمن بسلطة الأمة، ورفض اقرار مشروع فعال للجمعيات الأهلية يقرّ بكونها أداة سلطة شعبية؛ ولم ينتج النظام ضوابط لنزاهة القضاء وعدالته تحمي حقوق المواطنين بل اصبح القضاء من أجهزة سرقة أموال الناس وكرامتهم وحرياتهم. فكيف يكون النظام قائماً على الكتاب والسنة وهو يجرم المعارضة السياسية، فلا أحزاب سياسية ولا تداول للسلطة ولا رقابة ولا محاسبة شعبية، ورموزه يعلنون دائماً: "اخذناها بالسيف الأملح" فما هي المشروعية وما هي البيعة على الكتاب والسنّة؟ هذه البيعة على السيف والرمح!).

واختتم الحامد حديثه: (النظام السعودي تتجسد فيه ملامح نظام التمييز العنصري فجميع قراراته وأنظمته يصدرها الأمراء، وهو اخطبوط اداري، فوق حصر مناصب الدولة في أفراده، ينتشر الأمراء في كافة مرافق الدولة، ويتفردون بالثروة والسلطة معاً، تفرّداً عائلياً قبلياً. لقد استولى اكثر من مائة امير على مناصب الحكومة الكبرى؛ وهو في نظام ادارته نظام ديناصوري، فما علاقة ذلك بحكم الكتاب والسنة والبيعة الشرعية).

إذا كان وضع نظام الحكم السعودي بهكذا توصيف، فلماذا يصرّ على إلصاق نفسه بمفهوم (البيعة) و (الشورى) وبالإسلام عامة؟

باختصار: لأن حكام آل سعود، وطالما كان همّهم الاستحواذ على السلطة وإبقائها بأيديهم أطول فترة ممكنة بدون ان يكون هناك دور للشعب او ممثليه، لا يستطيعون أن يشرعنوا أنفسهم انتخابياً. ولأن يافطة الدين ومزاعم تطبيقه يمكن تضليل الناس بها، خاصة اذا ما وجد مشايخ يدينون للحاكم ويصدرون الفتاوى له حسب الطلب. لكن: وكما أثبتت التجارب، فإن الإسلام سيف ذو حدّين، ويصعب تضليل الناس الى الأبد. اليوم قد تستخدم الدين في التضليل والإستبداد، ولكن في الغد ينقلب ويبيح الخروج عليك إن وجد رجال دين ربانيون لا يخافون لومة لائم؛ وهؤلاء رغم قلتهم لا تعدمهم الأمة في أي عصر.

الدين ليس مطيّة سهلة كما يتصوّر آل سعود. وما يمنع كثير من المواطنين من القيام عليهم، والثورة بوجههم، ليس اقتناعهم بأن الحكم السعودي (اسلامي) وأن ملوك آل سعود (حكام يطبقون الشريعة). كلا: ما يمنعهم هو أن النظام قمعي تسلّطي دموي يستخدم السجون والمعتقلات والرصاص في مواجهة معارضيه. لكن القمع ايضاً عمره قصير، كما تثبت التجارب المعاصرة والتاريخية.

ويبقى السؤال: لماذا هذه الإحتفالات السنوية بوصول الملك عبدالله الى العرش؟

باختصار: إن احتفاليات ذكرى البيعة او الزعم بتجديدها، إنما هي مناسبة اعلامية، لا علاقة لها بما أنجزه الملك عبدالله سياسيا واقتصادياً وخدمياً. فالملك الذي توفرت له امكانيات غير مسبوقة في تاريخ السعودية، لم يغير خلال ثمانية أعوام شيئاً يستحق الذكر. لا توجد علامة فارقة في أدائه السياسي والاقتصادي والخدمي. لم يحل حتى مشكلة واحدة في أي صعيد اتجهنا. لا الاصلاح السياسي، ولا الإصلاح الديني، ولا الإصلاح القضائي، ولا اصلاح التعليم، ولا البطالة، ولا تحسين الخدمات، ولا اشاعة الألفة والروح الوطنية.. نجح فيها الملك. وفي السياسة الخارجية، شهده عهد أعظم الإنتكاسات والخسائر، في لبنان وفلسطين وافغانستان والعراق وخسر النظام سوريا ومصر والجزائر والسودان، وغيرها. نفوذ السعودية الخارجي تقلص في عهده الى أدنى الحدود. وفي عهده شهدت المعارضة الشعبية أقصى حدود قوتها منذ تأسس الكيان السعودي قبل نحو قرن.

المناسبة الإحتفائية السنوية هذه، انما هي حملة اعلامية تستهدف المواطن المسحوق سياسياً والمقموع من وزارة الداخلية، والمشغول عن هكذا احتفالات بلقمة العيش. هي تجديد اعلامي لا تجديد في البيعة!

ربما بسبب الفشل الكبير والتخلف الذي شهده عهد الملك عبدالله (الذي هو بالمناسبة غير قادر على أداء مهامه) جاءت الحاجة الى الإعلام والاحتفاليات الكاذبة، التي قد تتحول الى خداع ذاتي، بدل تضليل المواطنين.

الصفحة السابقة