السعودية والاستغلال الطائفي للثورة السورية

محمد قستي

من يراقب المقالات المنشورة في الصحف السعودية في الداخل والخارج يشعر بأن ثمة سعاراً طائفياً قد أصاب النظام السعودي..

وما يبعث على الغثيان أن كتّاب آل سعود ومن كل الطوائف والأديان يتقنون ذات اللغة، فقد تجد العلماني من خلفية مسيحية مثل حازم صاغية يكتب بطلاقة غير مسبوقة عن الوحدة الاسلامية، كما لو أنّه حريص على وحدة الأمة وأن معارك القصير جاءت لتقوّض دعائم الوحدة، وأشد المشاهد بشاعة حين يتم توظيف الغرائزية الطائفية لدى الجمهور العام، كرفع علم كتب عليه يا حسين على مسجد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكأن الحسين وعمر رضي الله عنهما خصمان أو ينتميان لدينين متنافرين، ولكّنها الطائفية التي لا دين لها التي يشارك فيها من هبّ ودب، أو من لا عهد له بدين، أو بالحسين وعمر..

هيجان طائفي يجتاح الصحف السعودية في الداخل والخارج، وهناك من يكتب في المذهبية إنتقاماً في السياسة، وبالعكس..

تلفت بدرية البشر الى كتابات منفلتة تنشر في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، لا فرق في ذلك بين رجل الشارع والاكاديمي. وتنقل البدر ما نصّه: نشر أستاذ جامعي يدرّس في كبرى جامعات بلادنا باسمه الصريح: (إن علينا إن نذكّر أطفالنا بأن الشيعة والنصيريين الكفار هم من فعل هذا بأهلنا في القصير، وسأبصق في وجه كل من يعظني بالتسامح).

التشديد على الهوية المذهبية لمن يختلف آل سعود معهم في سوريا، كما تفصح عشرات المقالات، ليس سوى بيان واضح بأن هذا النظام طائفي بامتياز. ولكن على طريقة (رمتني بدائها وانسلّت) فإن قذفها خصومها بالطائفية، سواء ايران أو حزب الله أو النظامين العراقي والسوري، فإن عشرات المقالات المنشورة في (الحياة) و(الشرق الأوسط) تفضح دعاويها.

وهنا نتوقّف عند ما نشرته صحيفة (المدينة) في 7 يونيو الماضي، حيث بدا تأييد الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، لبيان المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ الذي أصدره تعليقاً على ما صرّح به الشيخ القرضاوي بخصوص تعليقه على تدخّل حزب الله في الحرب الدائرة في سوريا، بدا واضحاً في استهدافه الطائفي، فهو انتقل من السياسة الى المذهب، وقال الفوزان: (إنني أؤيد ما قاله سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ في الشيعة الرافضة، خصوصاً حزب اللات). فقد بدا عنوان (حزب الله) غائماً ومسوّغاً للنيل من المختلف مذهبياً، وقال ما نصّه (وقد عرفت عدواتهم للإسلام والمسلمين من قديم، وفي هذه الأيام ظهرت عداوتهم أكثر في حربهم لأهل السنة في سوريا، وإجلائهم منها، وتشريدهم وتخريب ديارهم، كما فعل القرامطة منهم بالمسلمين سابقاً مما سجّله التاريخ، فهم الآن يعيدون الكرّة مع أهل السنة سوريا.. هذا هو تاريخهم الأسود تجاه الاسلام والمسلمين منذ نشأوا). وحتى يقطع أي شك في أنه يتحدّث عن حزب الله، تحدّث بصراحة عن المذهب الشيعي وعن الشيعة عموماً وقال: (إنهم وإن تظاهروا بالإسلام وطلبوا التقارب مع أهل السنة، فإنما ذلك من باب الخداع من أجل الإعتراف بمذهبهم الباطل، حتى يتمكّنوا من الكيد للإسلام والمسلمين، ثم يوقعون بالمسلمين كما فعل أسلافهم..) ويسترسل (وقد عرف عن الشيعة وقوفهم الدائم مع الكفار ضد المسلمين كما في حروب التتار والصليبيين)..

موقف الفوزان ليس جديداً، وصدر عنه أسوأ من ذلك بحق مذاهب إسلامية عديدة، بل هو صاحب فتوى تكفير غالبية المسلمين كما جاء في كتابه (التوحيد)، والمخصص للصف الأول ثانوي، والصادر عن وزارة التربية والتعليم لسنة 1424هـ الموافق 1999، حيث وصف الأشاعرة (وهم أغلبية المسلمين من أهل السنّة) والماتريدية بالشرك، وقال عن المشركين الأوائل: (فهؤلاء المشركون هم سلف الجهمية والمعتزلة والأشاعرة).

الفوزان، وبقية علماء الوهابية، لا يقدّمون أنفسهم كممثلين عن تصور آخر للإسلام، وإنما بهكذا مواقف يحتكرون تفسير الإسلام، وأن سواهم على باطل.. وإن إخفاء الموقف من المسلمين السنّة غير الوهابيين أو تأجيل الاعلان عنه يبطن حقيقة الإنتهازية الوهابية، ويعبّر أيضاً عن الاستغلال الطائفي للثورة السورية لجهة استدراج المسلمين في معركة آل سعود مع خصومهم، وما هذه الشيطنة للمختلف سياسياً او مذهبياً سوى جزء من معركة يقودها الاعلام السعودي الطائفي.

نعود ونقول بأن هذا الرأي ليس جديداً على الفوزان، ولا غيره من علماء المذهب الوهابي الرسمي، ولكن الجديد القديم أن تنشر الفتوى في صحيفة محلية بعد غياب لهذا النوع من الفتاوى الصريحة والمتطرّفة سنوات طويلة. فتكفير الشيعة بهذا الوضوح والتساهل لا تجده في أي إعلام عربي أو إسلامي، ولكّن تجده فقط في إعلام آل سعود. وإذ لا يفتأ هذا الاعلام يروّج لمشاريع (الحوار) على أشكاله: حوار الحضارات، والأديان، والأوطان، والمذاهب، حتى خلنا أن منشأ الحوار سعودي بامتياز، وإذا به يتقيّأ طائفية رعناء.

من يتأمل في بيان مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ والذي نشرته وكالة الانباء السعودية في 6 حزيران الجاري والداعم لموقف الشيخ يوسف القرضاوي، المقيم في قطر، من موضوع التقريب بين المذاهب لابد أن يتوقف عند عبارات لافتة، منها قول المفتي عن موقف القرضاوي بأنه (يذكّر بمواقف كبار العلماء عبر التاريخ في رجوعهم الى الحق متى ما استبانوا الموقف الرشيد)، مشيراً الى (تأييده ورجوعه الى موقف كبار علماء المملكة).

لقد تعامل المفتي مع الشيخ القرضاوي بوصفه (تائباً)، بقوله (رجوعه الى الحق)، وثبّت في الوقت نفسه مرجعية علماء الوهابية، وعدّ ذلك انتصاراً ليس على الشيخ القرضاوي فحسب، بل على كل دعاة التقريب بين المذاهب، وكأنّه يسوّغ من جهة أخرى شن حرب طائفية بين السنة والشيعة، لا تبقي ولا تذر، وهو ما يحاول آل سعود فعله في حال لم تأت النتائج في سوريا بحسب ما يريدون.

ولابد من كلمة للتاريخ، قبل أن يشوّهه الطائفيون، ففي سوريا ثورة على الاستبداد، ولكن غدر بها في الشهور الأولى، وجيء بغلمان بندر بن سلطان ليقاتلوا ليس من أجل الحرية والديمقراطية، وإنما من أجل أهداف على النقيض من تطلعات الشعب السوري بكل طوائفه.. أهدافٌ عناوينها (الإمارة الوهابية)، وإخضاع سوريا إلى لعبة محاور جديدة.

جرى استغلال الثورة السورية من قبل الاعلام السعودي والقطري، وجرى توظيف كل أشكال القباحة والدناءة في عالم الصحافة الماجنة لخدمة مشروع لا صلة له بالديمقراطية والحرية والكرامة..

ليست (الجزيرة) بأحسن حالاً من (العربية)، ولا (الحياة) بأرقى لهجة من (الشرق الأوسط) ولا عشرات الصحف السعودية ومن لفّ لفها خليجياً وعربياً، والجميع يتحدّث بلسان طائفي فصيح.

وجهة واحدة لكل هذه الصحف: استغلال العنوان السياسي للتصويب على المذهبي، ومنه الى غيره. تفتتح المعركة ضد (حزب الله) وتدخّله في معركة القصير، ثم ما تلبث أن تجد نفسك في القرن السابع الهجري وأحاديث ممجوجة وبلهاء عما شجر بين الصحابة، ويتخللها عبقريات الفوزان والعمر وباقي شلة الطائفيين الجدد حول المؤامرة التاريخية للشيعة على الإسلام والمسلمين، والاكتشافات المبكّرة التي كانوا قد توصّلوا إليها قبل الخلق أجمعين حول المخططات الشيعية ضد الأمة المسكينة، ثم يتسلل كل من لا طمع له سوى بالمال، فيقدّم أقبح ما لديه من معجم مفردات بذيئة كيما يحوز على رضا هذا الأمير وذاك المدير. فقد اختلط على هؤلاء عبارتا (اذكرني عند الأمير) بـ (اذكرني عند ربك)، وباتت الفتنة فرصة لحصد المغانم.

ليس دفاعاً عن حزب الله، وإن الإنصاف يستوجب إدانة تدخّل كل الجماعات المسلّحة في سوريا، سواء كان حزب الله أو القاعدة أو المقاتلين الأجانب من كل أصقاع الدنيا، والأهم تدخل الدول الاقليمية والدولية وأن يفسح في المجال أمام الشعب السوري كيما يقرر مصيره بنفسه وأن يختار شكل النظام السياسي الذي يرتضيه، وأن يقيم دولة تمثّل كل مكوّناته وتحقق تطلعاته.

والانصاف يستوجب أيضاً تسخيف مقولات فريقين: فريق الطائفيين الذي لا ينظر الى حزب الله الا بعين طائفية ويرى فيه بأنه ممثلاً عن الشيعة عموماً، ويكون التعامل معهم في الإعلام تحريضاً وكراهية، وفي القتال لابد من الفتك بكل من يقع في قبضة المقاتلين منهم، ولا فرق في ذلك بين المقاتل والمسالم، ولا المرأة أو الطفل، وقد عرضت مواقع مشاهد انتقامية لقتل أبرياء في قرى سورية تقطنها عوائل شيعية، إنتقاماً من حزب الله بعد معارك القصير.. والفريق الآخر هم المدرجون على قوائم (البايرول) السعودي والقطري الذي يعملون بـ (القطعة) أو بـ (الجملة)، فهؤلاء متسكّعون على أبواب الأمراء وشيوخ النفط، ويقبضون ثمن أتعابهم آخر النهار، فتراهم يجوبون والبلدان لتسويق مواقفهم هنا وهناك.

ما يعنينا ليس من يمارس دور (المرتزقة)، لأن هؤلاء لا دين لهم ولا هوية، بل هم على استعداد لنقل البندقية من كتف الى كتف، وما يقولونه في الليل قد يبدلونه في النهار بحسب كمية المال المدفوع، وإن كان هؤلاء وبسبب طول المدة التي أمضوها في عالم الصحافة فإنهم يقدّمون خدمات يعجز عن تقديم مثلها الطائفيون لأن أقلامهم جوفاء بمضمون مفجع.

لماذا يتم استحضار شيعية حزب الله في كل صغيرة وكبيرة في معارك سوريا، بل وفي الحرب المفتوحة عليه، عفواً على الشيعة في العالم، حتى بات الأمر واضحاً أن المعني في هذه الحرب ليس الحزب بل الشيعة، والمذهب الشيعي، بحيث أجاز البعض لنفسه النيل ودون أدنى رادع من أبناء هذه الطائفة، وهي أحد المكوّنات السكانية في المملكة.. مع أن لا الشيعة نصّبوا حزب الله ممثلاً عنهم ولا الأخير إدّعى ذلك، فلماذا هذه الحرب المذهبية وتحميل ربع مليار على الأقل مسؤولية ما يقوم به حزب لا يتجاوز عدد أفراده في أحسن الحالات نصف مليون.

لماذا في كل الخصومات بين القوى السياسية والدول، كل الدول، تبقى في حيز السياسة ولا تتجاوزه، إلا في خصومات آل سعود وحلفائهم في العالم تصبح ذات طابع مذهبي واستئصالي؟ ألا يعني ذلك أن النظام السعودي في جوهره طائفي، وأن المشايخ المتحلّقين حوله هم طائفيون بامتياز، وإلا كيف نفسر كلام المفتي عن الشيعة في سياق حديثه عن مشاركة حزب الله في معارك القصير، رغم أنه ليس الطرف الوحيد الضالع في هذه المعارك، فقد جاءت كل أمم الأرض الى هذه البقعة، بمن فيهم الاسرائيليون.

كنّا نعرف القنوات الطائفية برجالها وخطابها، وكانت محصورة في (صفا) و(فدك)، و(وصال) و(أهل البيت)، ولكن اليوم باتت الطائفية سمة عامة لإمبراطورية إعلامية يموّلها ويقودها آل سعود. فالمقولة التي كانت تقال في أي من هذه الشاشات تجدها في مقالة مدير تحرير صحيفة أو مدير قناة فضائية أو كاتب في مجلة وجميعها يحمل البصمة السعودية!

المؤشرات تفيد بأن الحرب الطائفية المسعورة مستمرة وتتغذى على مجريات الميدان في سوريا، ولكن هذه الحرب لن تستثني أحداً، فهي قد قوّضت كيانية الدول الضالعة فيها، ولم يعد التعاطي معها يتم بوصفها كيانات محايدة بل أطراف شديدة الانحياز، وأن بلوغ السعار الطائفي نقطة الصدام يعني أن مصير الكيانات الخليجية على المحك.ذ

الصفحة السابقة