قصور نظرية الريع عن تفسير النموذج السعودي

الريعية في السعودية لا تصنع استقلالاً

فريد أيهم

كتاب (أمراء، وسماسرة، وبيروقراطيون: النفط والدولة في المملكة العربية السعودية) من تأليف ستيفان هيرتوغ، صدر بالانجليزية في العام 2011، ويمثّل إضافة نوعية للأبحاث الاكاديمية في مجال تحليل التحوّلات الاقتصادية الليبرالية ودورها في تغيير طبيعة الهياكل الاقتصادية والسياسية في دولة ريعية تعتمد بدرجة أساسية على النفط.

يقول هيرتوغ بأن خطّة بحثه تبدّلت كثيراً كلما غاص في خبايا تاريخ التحولات الاقتصادية والسياسية في المملكة السعودية، وعوضاً عن التغيير المومأ إليه، (وجدت استمرارية تاريخية تضرب بجذورها في الطريقة التي تُمارس بها السياسة وتُدار بها علاقة العمل بالدولة في السعودية، ووجدت أيضاً أن العديد من أوجه الاستمرارية لا تتطابق مع نظرية «لعنة الموارد» للدول الريعية). وربما شكّل هذا الكشف المبكر حافزاً إضافياً على المزيد من البحث.

تنبّه هيرتوغ الى أن السعودية عانت منذ تأسيس الدولة الحديثة في الخمسينات من صراع مع العمالة الزائدة والفساد، رغم وجود شركات ذات مواصفات عالمية أو تعمل وفق قواعد عمل نموذجية مثل شركة (أرامكو) والى حد ما شركة (سابك) وهما مؤسستان تعملان باستقلالية نسبية عن باقي مؤسسات الدولة منذ عقود، بالرغم من وجود تحفظ على مفردة (استقلالية) خصوصاً بعد اعتماد مبدأ السعودة مع شركة أرامكو في مطلع الثمانينات والذي غيّر كثيراً من بنيّتها الادارية..وعلى أية حال، فقد لفت هيرتوغ الى أن سجل السعودية غير متوازن في التسعينيات والالفينية..

لحظ هيرتوغ في عمليات الخصخصة التي اتبعتها الحكومة بأنها حققت نجاحاً ناقصاً، فهي في الوقت الذي أوجدت سوقاً رأسمالياً حديثاً ومرناً، فإنها في سياسة العمالة أو في البيئة البيروقراطية للاستثمار الأجنبي لم تكن بنفس القدر من النجاح.

ونتيجة لذلك تعرّضت الدولة السعودية الريعية الى التفكك، وعوضاً عن التنظير حول هذا ككيان متجانس، تمّ النظر إلى العوامل الفردية وتاريخها السياسي. متى ولماذا تُستعمل أموال النفط لرعاية وبناء الاقطاعيات البيروقراطية، ومتى ولماذا يتم استعمالها لأغراض التنمية؟ سؤال يبدو كبيراً وعلى درجة عالية من الأهمية والخطورة، ويتطلب سبراً عميقاً. ولذلك، يقول هيرتوغ بأنه قام بالكثير من الأبحاث الأرشيفية والتاريخية، لأنه شعر بأن المعلومات المتوفرة حول تكوين الدولة السعودية الحديثة لم تكن كافية. وأن الكثير من التاريخ الشعبي، رغم كثرته لا يلغي حقيقة أن أغلب المتوفر من أدبيات العلوم الاجتماعية يوفر صورة كاريكاتورية للفساد واللاكفاءة البيروقراطية، وفي بعض تقدم حالات غير محتملة من الكفاءة في عصر ما قبل النفط، غير صحيحة في أجزاء مهمة منها.

في الجزء التاريخي من الكتاب، يقدّم هيرتوغ بحثاً اجتماعياً عن كيفية تأثير قرارات الأمراء بخصوص توزيع عوائد النفط المتزايدة بسرعة في تشكيل مؤسسات الدولة بأشكال مختلفة تماماً، وكيف أن هذه الموارد شكّلت علاقات القوة والنفوذ بين هذه المؤسسات وبعضها البعض، وبينها وبين العوامل الرئيسة في المجتمع.

وبحسب الهدف الذي يروم هيرتوغ الوصول اليه فإنه في هذا البحث يستعرض الاسباب التي جعلت المجتمع في المملكة على ما هو عليه الآن، من جهة أن السياسات البيروقراطية، وأسلوب صنع القرار، وعلاقات قطاع الأعمال بالدولة، يتم تفسيرها بتفصيل أكثر من خلال مجموعة من الحالات التي تم دراستها حول إصلاح الاستثمار الخارجي، وسعودة سوق العمل، والدخول في منظمة التجارة العالمية.

الكتاب هو محاولة فهم السعودية كما هي بشكل صحيح. ففي نهاية الأمر، فإنها ليست دولة ريعية في جوهرها فقط، ولكنها ربما أهم دولة في الشرق الأوسط كله، كما يقول هيرتوغ.

تحدث عن المرحلة الليبرالية ما بعد العام 2003، وهي أتاحت له القيام ببحث ميداني وأرشيفي الى جانب الزيارات المتعدّدة التي قام بها الى المملكة طيلة فترة إعداد البحث. وهذا ما وفّر له فرصة الإطلاّع على البيروقراطية السعودية من الداخل لفترة طويلة، وقد أعطاه ذلك تصورات اثنوغرافية مفيدة حول موضوع البحث، إضافة الى طائفة مقابلات أجراها وكذلك العمل الأرشيفي في السعودية وبريطانيا والولايات المتحدة.

أما عن طبيعة الموضوعات والقضايا التي تناولها البحث، فيدرجها هيرتوغ تحت عنوان (لعنة الموارد)، وتاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية للدولة السعودية وتأثيره على المجتمع المحلي، وصولاً الى نقاشات أوسع عن العلاقات بين الدولة والمجتمع، والادارة العامة في الدول النامية، منتقداً مفاهيم محددة مثل كفاءة الدولة واستقلاليتها.

من بين المفاهيم التي ينتقدها الباحث، هي استقلالية الدولة في الدول الريعية، فهو يرى بأن هذه الاستقلالية تتضاءل، ويشرح ذلك بأن النخبة الحاكمة عادة ما تتمتع بطرق ملتوية تتمكن من خلالها من استغلال أموال النفط في المراحل الأولى من التنمية، ولكن سرعان ما تبدأ بالتقيد بالتزامات التوزيع، مما يقلص بشكل كبير من قدرتها على المناورة، وخصوصا في النظم الشمولية.

ويسهب هيرتوغ في شرح الحالة بقدر كبير من الجدل وبالعودة الى التاريخ السعودي، ويرى بأن الاستقلال الكبير للنخبة الملكية الحاكمة في المراحل الأولى في المملكة العربية السعودية أعطى عدداً من الأمراء نفوذاً لا حدود له على تشكيل الدولة. وترجع الكثير من الخصوصيات والصور المكررة من البيروقراطية السعودية الفاقدة للحيوية إلى تحالفات الأمراء والمشاكل التي حدثت قبل نصف قرن من الزمان، وهي نتائج أصبحت تقريباً غير ممكنة التقويم بعد أن كبر حجم الدولة والمنتفعين منها.

ما يثير الاستغراب، حسب هيرتوغ، في وضع الدولة السعودية في وقتنا الحالي ليس كفاءتها أو انعدام هذه الكفاءة، ولكن بالأحرى درجة التشظي الضخمة للمؤسسات التي تشكل الدولة، كل حسب تاريخها الخاص ومجموع المتعاملين معها من المجتمع. ويستعرض الباحث التحوّلات التي تعرّضت لها كثير من الأجهزة والمؤسسات الدولتية.

يضم جهاز الدولة السعودية منظمات مختلفة: فمن قضاء إسلامي يعيش في كثير من نواحيه في القرن السابع الميلادي، إلى شركات تملكها الدولة وتتمتع بقدر عالٍ من الحداثة والعلمانية مثل أرامكو، والتي تبقى جزئياً بمنأى عن العائلة السعودية، إلى جهاز أمن غير قابل للاختراق تحت إشراف أميري مباشر وتتبعه مدنه ومدارسه وجامعاته ومستشفياته الخاصة.

لقد بدأ بناء هذه الاقطاعيات المتوازية منذ الخمسينات مع بدء تدفق أموال النفط، وتعمّق هذا البناء في السبعينات مع الطفرة النفطية حين بدأت النخبة الحاكمة بخلق مؤسسات جديدة لكل سياسة جديدة أو مشكلة تعترضها. وفي حين أن بعض أجزاء الدولة يمكن اعتبارها ذات كفاءة بمقاييس البيروقراطية الحديثة، فإن هناك قدراً محدوداً من التواصل بين العوامل التي تشكل الدولة نفسها.

عدم تجانس الدولة السعودية يجعل، كما يرى الباحث هيرتوغ، بعض الإصلاحات أصعب من غيرها، حتى ضمن الأجهزة الإدارية الكفوءة. يقلص كل من التشظي الحكومي وانتشار المحسوبية عبر العمالة الزائدة في القطاع العام من إمكانية الإصلاح في العديد من المؤسسات، ويؤثر سلباً على الإصلاح في المستويات الدنيا من البيروقراطية، في حين أن الإصلاحات التي يمكن أن تستمر في مؤسسات متفرقة وبنجاح كبير، خصوصاً إذا كان التطبيق مفوضاً لجزر منعزلة من البيروقراطية الكفوءة.

هيرتوغ يتطلع نحو شريحة خاصة من القرّاء، من المهتمين وصنّاع القرار في الشرق الأوسط وفي القوى الدولية، ويؤكّد على أن المادة البحثية الميدانية التي يقدّمها في الكتاب يفترض أن تكون مهمة لأي شخص لديه اهتمام بالنقاش حول «لعنة الموارد» في الاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط. ويعتقد بأن الكتابة مفهومة بشكل كافٍ لتكون مهمة لأي شخص يتعامل مع مواضيع خاصة بالسعودية ودول الخليج بصفة عملية، ولتكن بصفة عمل، أو دبلوماسية، أو صحافة، أو تبنٍ لقضايا معينة، أو ببساطة كمقيم محلي في تلك الدول.

يحاول هيرتوغ أن يكون على مسافة احترازية كيما يضمن حيادية بحثه العلمي، ويستحضر النقاش الدائر حول السعودية وانحصاره بين فكرتي التقليل من الذات والدعاية المساندة للسعودية، الأمر الذي يترك تأثيره المباشر على النظر بعدالة وموضوعية للواقع المعقد والتنوع الكبير في النظام السعودي. يحاول الباحث أن يضيف بعداً جديداً للنقاش ولفهم السعودية، وكذلك للمحددات التي تحكم عمله، والطرق التي تم بموجبها خلق التنوع الاجتماعي والتكنوقراطي في النظام والذي تهيمن عليه الصورة السعودية والإسلامية من الخارج.

هيرتوغ ينفي عن كتابه الصفة السياسية، وإن كان لا يستبعدها بتاتاً، فهو يناقش الأساليب التي يمكن بموجبها أن يؤثر توزيع الريع سلباً في التنمية الاقتصادية ويعرقل السياسة. ويعتقد بأن فهم هذه القيود يجب أن يكون الخطوة الأولى تجاه أية إصلاحات ذات مغزى، وبالخصوص للقطاع العام وأسواق العمل. هو يرى، وله الحرية في ذلك، إن التحديات التي يواجهها البلد مستقلة عن شكل النظام السياسي.

هيرتوغ يعتقد جازماً بأن ثمّة تشويهاً للسجل السعودي وهو لا يتّسق بسهولة مع الطرق المقبولة لتفسير الاقتصاد السياسي للمملكة، ويقصد على وجه الخصوص نظريات «الدولة الريعية»، والتي كانت السعودية المثل الدائم لها، والتي رسمت لها صورة أوسع مما يجب. ويرى بأن هذه النظرية لم تكن كافية كأداة فهم للواقع الاقتصادي السعودي، ففي الوقت الذي وفرت فيه هذه النظريات فرصة جيدة للتفكير بخصوص مشاكل عامة خاصة بالتنمية النفطية، فإنها كانت أقل فائدة في تفسير درجة النجاح أو الفشل، وهو أكثر الألغاز إثارة في نظام معقد مثل السعودية.

فالنظريات الريعية تتوقع أن دخل النفط سيسمح للدول أن تتصرف بشكل مستقل عن مطالب المجتمع، وأن المدخول النفطي سيقوّي من الدولة على حساب المجتمع، وعلى حساب السلطة التنظيمية الضعيفة لمؤسسات الدولة وانتشار الاعتماد على الريع، وهذا كله صحيح في السعودية إلى حد ما. ورغم ذلك، فلا شيء من هذه التوقعات يفسر تعقيدات آليات صنع القرار في السعودية أو التباين في النتائج.

اكتشف هيرتوغ من خلال دراسة الحالة السعودية بأن ثمة ضعفاً في نظرية الريع، على أساس أن الأدبيات في هذه النظرية تتوقع أن الدول الغنية والاقتصاديات سوف تتمتع بمواصفات معينة، وهي في الغالب صحيحة في ما تذهب إليه من تكهنات، فإن التفاصيل حول كيفية ظهور تلك النتائج وأين تظهر عادة ما تكون مختصرة وعمومية الوصف. ويفتقر الكثير من النقاشات حول الدولة الريعية إلى التحليل العملي للآليات المسببة في كل المستويات ما عدا المستوى العام.

ما هو جدير بالدراسة في نظرية الريع هو الكشف عن اللغز وراء النتائج الاصلاحية غير المتجانسة والتي تظهر الآثار الريعية في بعض الأحيان واختفاءها في أحيان أخرى. وهي الفكرة الجوهرية للكتاب، أو التحدي الكبير الذي واجه الباحث منذ البداية، فهو يجادل بأن النفط كان مهماً جداً في تشكيل الدولة السعودية، ونظام السلطة فيها، وأساليب صناعة القرار، ولكنه لم يكن مهماً دوماً بالشكل المتوقع وبالوسائل التي يمكننا أن نفهمها فقط في حالة إذا فهمنا الطرق التي أثر عن طريقها النفط في تشكيل السلطة ضمن المملكة عبر الزمن.

وكي يواجه التحدي ويثبت هذه الفرضية، قام هيرتوغ لجهة استكشاف الطرق التي أثر المدخول النفطي من خلالها على السياسة السعودية، واختار إستراتيجية تحتاج إلى أكثر من عام من البحث الميداني والأرشيفي وعبر ثلاث قارات: متابعة سوسيولوجية توزيع الريع في المملكة.

وأثار هيرتوغ طائفة من الأسئلة المركزية حول أهمية المدخول النفطي وشكله، وكيف يتم التصرّف فيه، وكيف يتصرف الناس حين يبنون دولة ريعية ويتفاوضون حول السياسات المتبعة ضمنها، ومن الذي يستفيد من مدخول الدولة وكيف، وما هي أنواع العلاقات السلطوية التي يتم تشكيلها في هذه العملية. وكيما يتعامل مع هذه الموضوعات كان لزاماً عليه دراسة شبكات اجتماعية صلبة في جوهر الدولة السعودية وحولها. تعمل النظريات الريعية عادة عن طريق التجميع الدقيق لمفاهيم مثل «الدولة»، و»المجتمع»، أو»الأعمال».

يتابع الباحث مسيرة بناء الدولة النفطية في الخمسينات، ويرقب المسار الاعتيادي من مدخول خارجي ريعي من خلال التفاعل بين الريع والبناء الاجتماعي، إلى نتاج السياسات في الألفية الثالثة كما تم تأطيرها ضمن هذه الهياكل.

ومن أول النتائج التي توصل إليها هو أن قرارات النخبة لها أهمية قصوى في تشكيل الدولة، خصوصاً في المراحل الأولى في بناء الدولة. فلا يوجد هناك آلية تلقائية تقوم بإنتاج الفساد، والسعي وراء الريع، وبيروقراطية ضعيفة. فبينما قامت العائلة المالكة السعودية في حالات كثيرة باستعمال سلطتها المالية لبناء محسوبيات شخصية أو لتوظيف جيوش فعلية من المنتفعين البيروقراطيين الذين لا عمل فعلياً لهم، وبطريقة أخرى فقد استعملوا هذه الموارد مع آخرين لبناء إدارات كفؤة عن طريق شراء خبرات عالمية وتقديم عروض جذابة للمواطنين الطموحين.

وإذا كانت هناك نتيجة ما، فإن أجزاء كبيرة من المدخول النفطي قد وسعت من لائحة الخيارات المؤسسية المتوفرة للنخبة مما أنتج جهازاً حكوميا غاية في التباين بين أجزائه.

ويواصل في شرح النتيجة التي توصل اليها بأن جهاز الدولة لعب دورا قيادياً ساحقاً لغيره في السياسة الداخلية، حيث كانت السياسة السعودية مركزية بشكل كبير بيد النخبة، التي أضعف رعايتها للآخرين من استقلالية المجموعات الاجتماعية.

على الضد، فإن طبيعة النمو الاقتصادي المتقطع للدولة وعصب النظام الذي يتمحور حول العائلة المالكة قد أدى إلى عدم انسجام كبير وتشظ للجماعات الاجتماعية، وبدرجة أساسية لمؤسسات الدولة في المستويات الدنيا من الهيكل السياسي. فبينما كانت القرارات السياسية تتخذ من أعلى الهرم نزولاً لأسفله وتهيمن عليها سلطات عليا، فإن النظام تمكن وفي وقت قصير من أن يمنح المتعاملين معه في المجتمع، جماعات كانوا أم أفراداً، التزامات مالية واسعة.

وبمرور الوقت، فإن هذا السخاء الأبوي أصبح غير قابل للتغيير مما قلص من استقلالية القيادة في التصرف بحرية في عوائد النفط وهي آلية توضح الأهمية القصوى لقرارات التوزيع التي تم اتخاذها في منعطفات تاريخية سابقة.

وإن مجموعات المنتفعين من الدولة الريعية، والذين تراكمت أعدادهم عبر الزمن، كانت لهم فائدة واضحة في تهدئة المجتمع سياسياً ولكن وجودهم غير القابل للتزحزح في الدوائر البيروقراطية وحولها يجعل عملية الإصلاح والإدارة اليومية لشؤون الدولة أكثر صعوبة.

بعد فترة من التطورات السريعة والتغيرات التي أملاها التوسع في الدولة، فإن الدولة السعودية برزت وبشكل غير متوقع كدولة متشظية وككيان ضخم وجامد، رغم وجود بعض الأجزاء الحيوية وعالية الكفاءة فيها.

ولتفسير السبب الذي يجعل بعض الإصلاحات ممكنة في السعودية في الوقت الحاضر وبعضها الآخر غير ممكن، يرى هيرتوغ بأن ثمة حاجة لتفكيك الدولة. أي الحاجة لفهم هياكلها وعلاقاتها بالمجتمع على المستوى المتوسط لمنظمات محددة وجماعات اجتماعية، إضافة إلى فهم الأفراد المنتفعين من الدولة على المستوى الفردي.

ويرى هيرتوغ بأن التحليل العميق للنموذج السعودي يوفر أساساً أعمق للنقاش الدائر حول الدولة الريعية، إنه، بمعنى آخر، يضيف دقة للتأكيد على أن الدولة الريعية مستقلة عن المجتمع. ويشدّد هيرتوغ على أن مدخول النفط أعطى النخبة الحاكمة مساحة واسعة للمناورة. هذا الاستقلال يمكن أن يتقلص بمرور الزمن، ولكن، يمكن رؤية أن القيود التي تربط الدولة بالمجتمع تتزايد وهي تأخذ على عاتقها مسؤوليات التوزيع الفردي للثروة والتي لا يمكن الرجوع عنها.

ومع ذلك، فإن الدخل النفطي العالي يبدو مغرياً للنخبة السياسية لتضيف منظمات أخرى لجهاز الدولة لمواجهة المشاكل السياسية والإدارية، مما ينتج عنه تشظي الدولة نفسها. هذه هي النتيجة غير الموثقة حتى الآن لتأثير المدخول الريعي الذي يبدو حاصلاً في الدول الريعية أيضاً.

واعتماداً على الكيفية التر تقرر بها القيادات استعمال المدخول المكتشف حديثاً في عملية بناء الدولة، فإن هذه البيروقراطيات قد تظهر وقد لا تظهر. وإذا ظهرت، فإن الآلية المعتادة هي استعمال التوظيف البيروقراطي كمورد لضمان الولاء والذي يقوض المحفزات الفردية في النظام البيروقراطي.

وفي حالات أخرى، فإن المنتفعين الثيوقراطيين، والذين تم انتقاؤهم بعناية من قبل آل سعود قاموا ببناء «جزر من الكفاءة» في خضم جهاز الدولة السعودية تتمتع بأنظمة توظيف وحوافز مستقلة عن بعضها، وتصدر في بعض الأحيان تعليمات صريحة بتجاوز البيروقراطية في باقي جهاز الدولة.

وبخلاف الاعتقاد السائد حول دور النظام الضرائبي في الدولة، فإن وجود أو غياب هذا النظام على المستوى الوطني له أثر ضئيل على سلطات الدولة التنظيمية.

إن السعي وراء الربح والفساد الذي تتنبأ به الأدبيات يحدث بالفعل في السعودية، حيث يتضاعف حجم بعض المؤسسات وكأنها مصالح ومحسوبيات خاصة لبعض اللاعبين المؤثرين في النظام.

يتفاوت حجم الفساد كثيراً بين مؤسسة وأخرى، ومع ذلك فإن هذا لا يعد السبب الرئيس للنتائج المتواضعة للسياسات الرسمية، بل إنه يتصل أكثر بتشظي الدولة وبزخم المنتفعين داخل بيروقراطية الدولة.

في الختام فإن الكتاب يوفر مادة بحثية استثنائية في دراسة النموذج الريعي واعتماده كآلية لفهم السعودية، وما توصّل اليه هيرتوغ يمثل اكتشافات جديرة بالتأمل لأنها تعتبر غير مسبوقة ومخالفة لنتائج سابقة حول النظرية الريعية وعلاقتها بمفهوم الاستقلالية، استقلالية الدولة عن المجتمع وكذلك بناء الدولة..

الصفحة السابقة