مفاعيل الربيع الخليجي

هيثم الخياط

بدأت إرهاصات حراك خليجي في البحرين في 14 فبراير 2011 ولا يزال هذا الحراك متواصلاً، ثم انتقل الحراك الى سلطنة عمان في هيئة تظاهرات شعبية بدأت في 26 فبراير 2011 ما لبث أن قمعت بعد فترة وجيزة، ثم اشتعلت شرارة حراك شعبي شرقي المملكة السعودية في مارس 2011 ولا يزال متواصلاً رغم أنه بدا متقطعاً فيما بدأت بوادر حراك شعبي في مناطق أخرى من المملكة السعودية، وتسرّى الحراك الى الكويت التي كانت على موعد مع نشاط أكثر تنظيماً من قبل الـ «بدون» والتنظيمات السياسية الدينية والمدنية المطالبة بعدم إجراء أي تغيير في قانون الانتخاب، الأمر الذي يتسبب في تغييرات جوهرية في الاحجام الانتخابية لشخصيات وتنظيمات سياسية، أما في الامارات العربية المتحدة فقد سبقت التدابير القمعية ضد عدد من الناشطين المحسوبين على التيار الاسلامي المقرّب من الاخوان أي حراك شعبي محتمل..تبقى قطر الدولة الخليجية التي ربما كان القمع الشديد حائلاً دون نجاح أي حراك شعبي، عزّز ذلك غياب تنظيمات أهلية مرخّصة تسمح بمزاولة مهامها كقوة تعبوية شعبية وتنظيم المسيرات.

السؤال المفتاحي يقول بأن ثمة قراءة تفيد بأن الربيع العربي قد تأسّس على استثناءين تاريخيين، لا على واحدٍ منهما:

أوّلهما، نموذج سلطة ما فوق الدولة في البلدان العربيّة، مثل نموذج دول الخليج السياسيّ الريعيّ منذ أوائل السبعينات؛

وثانيهما، «المدّ الديموغرافي الشبابي»، الذي لم يتمكّن النموذج الاستبداديّ تأمين نموذج تنمية لتلبية متطلّباته.

كلا الاستثنائين متوفر في منطقة الخليح فما هي الموانع التي كانت تقف بوجه حصول ربيع خليجي؟ بالطبع لا يمكن الحديث عن منطقة الخليج باعتباره كتلة متجانسة واحدة، فلكل دولة مشهدها السياسي والممجتمعي الخاص بها.

يفتح السؤال الأفق على نحو واسع مستوعباً طائفة من الموضوعات ذات الصلة بمفهوم الدولة عموماً ومفهوم الدولة الخليجية على وجه الخصوص..

وفيما يتّصل بمفاعيل «الاستثنائين التاريخيين»: الدولة الريعية في الخليج، و»المد الديمغرافي الشبابي» كما وردا في السؤال، يمكن الاسهاب قليلاً في الإضاءة على كل استثناء وما نجم عنه من تداعيات ثقافية وسياسية واقتصادية..

الريعية والتنمية السياسية

في صلة الدولة الريعية في الخليج بالتنمية السياسية، بدا واضحاً ضمور شروط التحوّل السياسي في منطقة الخليج مع انطلاق الطفرة النفطية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، والتي أفضت الى رسوخ نموذج الدولة التسلّطية، كما نعتها المفكر الكويتي الراحل خلدون النقيب، والتي تعتمد على نمو رأسمالي ملتحم مع السوق الرأسمالية العالمية دون توفير شروط التنمية المستدامة والفاعلة..وهي ذات الدولة التي قطعت الصلة بالمشروع الوطني والقومي وراهنت في استقرارها واستمرارها على سلسلة اتفاقيات والتزامات اقتصادية وسياسية وأمنية واستراتيجية ودفاعية مرهقة مع القوى الكبرى، فأصبحت السلطة ممثلاً لمصالح الأخيرة وليس لمصالح شعوبها، الأمر الذي عنى أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم غير ذات جدوى، لأن السلطة لم تتأسس وفق هذا المبدأ..وليس في ذلك مورد دهشة، لأن أداء الدولة الريعية في الخليج مؤسس على اعتبار القاطنين فيها «رعايا» وليس «مواطنين»، والفرق بينهما واضح..لم تكن لحظة ذهول حين صرّح ولي العهد السعودي السابق الأمير نايف بأن ولي الأمر أعرف بالمصلحة في اختيار أعضاء مجلس الشورى، مستبعداً أي دور للشعب في الاختيار.

في تكثيف القول حول هذه النقطة: ثمة صلة وثيقة بين التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية، وإن الحديث عن تعويض أحدهما عن الآخر لغو مطلق.

ما يحدث في دول الخليج هو نمو رأسمالي وليس تنمية، وبالتالي فإن التنمية السياسية هي المدخل الموضوعي لإحداث تنمية اقتصادية فعلية، فاليد التي ترتعش، كما يقول الزعيم جمال عبد الناصر، لا تنتج. وفي هذه العبارة ما يشي بحقيقة كبرى أن التنمية صنو للحرية، تماماً كصلة النمو الرأسمالي بالاستبداد.

الديمغرافيا الشبابية

في الإضاءة على دور المد الديمغرافي الشبابي، لا ريب أن قطيعة شبه كاملة حدثت بين نموذج الدولة الريعية الخليجية والأغلبيات السكّانية، أعني الشباب في كل أقطار دول مجلس التعاون الخليجي.

ببساطة لأن ثمة علاقة عكسية بين السكون والحركة، بين الثبات والتغيير، وبين الماضي والمستقبل..فالشباب ليس بوصفهم كمّاً اجتماعياً بل لكونهم مكوّناً ثقافياً وإنسانياً وحضارياً الى جانب اعتبارهم حالة سياسية وقوة اجتماعية واقتصادية..ركون السلطة في الخليج إلى القوانين «الرعوية» التي ترى في الشباب مجرد كتلة بشرية يمكن اختطافها عبر ما بات يعرف بـ «التقديمات الاجتماعية» لغرض احتواء السخط الشبابي حيال سوء الاحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، جعل من الشباب أشدّ إصراراً على كسر «التابوات» الأمنية والثقافية والسياسية وحتى الدينية، فأبدعوا وسائل لم تخطر على بال في إيصال رسالة واضحة بأن «الزمن تغيّر» وإنه «زمان الشباب»، وليس «الكهلة».

موانع الربيع العربي

أما السؤال عن موانع قيام ربيع عربي في الخليج، فالإجابة ببساطة: هي ذات الموانع التي تحول دون قيام دولة وطنية في الخليج. بكلمات أخرى: كل الثورات الشعبية في العالم بحاجة الى بيئة حاضنة لنشأتها ونضجها وانتشارها، ولن تكون هذه البيئة خارج نطاق المؤسسات الأهلية التي تعمل في الفضاء المفتوح الممتد من حائط منزل المواطن الى حائط قصر الحاكم، وهي بالمناسبة ذات البيئة التي تحصّن الديمقراطية وتحميها من الاختطاف أو الاغتيال. في الدولة التسلّطية الخليجية لم يسمح لأي عمل ينطوي على تمظهر جمعي، فالدولة نزعت منذ البداية الى التعامل مع المواطنين أشتاتاً، ويجب أن يأتوا اليها فرادى وليسوا جماعات، وإن المؤسسات القائمة دينية وثقافية وأدبية ورياضية ملتحمة تماماً بالسلطة مباشرة وغير مباشرة..

نعم، بدأت موجة تمرّد على نطاق محدود في عدد من الدول الخليجية لجهة تشكيل «مؤسسات أمر واقع» وكسر الحظر المفروض على تشكيل مؤسسات ولجان أهلية، ولكن يتعرّض أعضاؤها للاعتقال والمحاكمة والتهديد..ولن يتسن لهذه المؤسسات العمل بطريقة مريحة طالما اختارت سبيل التمرّد على تدابير السلطة القمعية..

بالرغم من ذلك، فإن ثمة تغييراً بطيئاً ولكن عميقاً يجري في دول الخليج، ويأخذ أشكالاً متنوّعة، بل يمكن القول بقدر من الاطمئنان بأن لحظة التغيير التاريخي في الخليج قد بدأت بالفعل، وليس هناك فاصلة بعيدة بيننا وبين تحوّل ديمقراطي كبير في هذه المنطقة، بالرغم من: التعتيم الاعلامي المقصود من قبل وسائل الاعلام الغربية دع عنك العربية، وشراسة التدابير القمعية المتواصلة.

الربيع البحريني

تأثير الربيع العربي على الخليج

السؤال الآخر، هل تأثر الحراك السياسي والشعبي في منطقة الخليج العربي بموجات مد الربيع العربي، وهل ثمة مؤشرات لذلك، وماهي ملامح هذا التأثر؟ أم ان الخليج عصي على الثورة؟

والجواب على ذلك هو: ليس ثمة أدنى شك في أن الحراك السياسي والشعبي في الخليج قد خضع تحت تأثير موجات الربيع العربي، وأول ما يؤشّر الى ذلك هو الاستجابة السريعة المعبّر عنها بانطلاق انتفاضات شعبية بأحجام متفاوتة في كل من: سلطنة عمان، والبحرين التي لا تزال الانتفاضة فيها مستمرة، والسعودية التي أخذ فيها الحراك أشكالاً سياسية وحقوقية متعدّدة بالرغم من إصرار النظام على إسباغ صفة مذهبية عليها بسبب خروج التظاهرات في منطقة القطيف ذات الأغلبية الشيعية.

في الامارات لا تزال قضية الناشطين السياسيين والحقوقيين الذين جرى اعتقالهم بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين بهدف تغيير نظام الحكم في الخليج حاضرة بكثافة عالية في الوعي الشعبي الخليحي، وهي اليوم من بين أبرز القضايا المطروحة في الاعلام الخليجي، وكذلك في الكويت التي شهدت تظاهرات من مكوّنات سكانية وقوى سياسية واجتماعية مختلفة بما في ذلك انتفاضة «البدون» للمطالبة بتسوية الملف القانوني لمن لم يحصل على الجنسية الكويتية، إضافة الى مظاهرات المطالبة بإقالة رئيس الوزراء السابق، ومحاسبة الوزراء، واقتحام البرلمان في سابقة لأول مرة في تاريخ العمل البرلماني الكويتي.

وحتى قطر التي تدير ملف عدد من الثورات العربية لمآرب خاصة، شهدت خضّات شعبية تحت عناوين أخرى، ولكن التعتيم الإعلامي يحول دون نقل ما يجري.

في تقديرنا، إن الفصل بين ماهو خاص بالربيع العربي وآخر خاص بالربيع الخليجي قد لا يكون دقيقاً، لأنه يستند على فصل بمضمون اجتماعي اقتصادي، كالقول الذي شاع إبان أزمة الخليج الثانية: دول النفط ودول العوز، والحال أن الخليج تأثّر تلقائياً وفورياً بالربيع العربي، بل هو اليوم المساحة المرشّحة لأن يتغيّر فيها المشهد الشرق الأوسطي في ظل تصاعد وتيرة التجاذب السياسي بين حكومات باتت خارج حركة التاريخ وأجيال تمثّل الكتلة التاريخية الوازنة في أي عملية تغيير قادمة.

يقول احد الباحثين الشباب في المملكة ما نصّه: «في الخليج أيضاً، أنتج الربيع العربي تحركات شبابية بدت متحررة في طرحها من أطر التقليدية السلفية التي مثلت ثقافة مرجعية لمعظمهم، واهتم الشباب بمسائل الديمقراطية وسيادة الأمة والفكر الحقوقي وغيرها مما يعتبر حيوياً ومطلوباً اليوم. ولن يظل هؤلاء الشباب محسوبين على السلفية إن استمروا في نهجهم المغاير، بل ستكون لهم مسميّات مختلفة ومسار مغاير يفكّر وينتج من خارج البنية السلفية»..

هي وجهة نظر دقيقة في حدّها الأولي، ولكن لا نعتقد بأن تحرّكات الشباب مقتصرة على مجرد التحرر من التقليدية السلفية، فلم تكن هي في أي يوم مضى مرجعية لمعظمهم، لأن وجهة النظر هذه تفترض تمثيل التقليدية السلفية للأغلبية السكانية وهذا غير صحيح. وللإنصاف، إن الحراك الشبابي موجّه ضد الاستبداد في أي شكل ارتدى، سلفياً كان أم قومياً أم سنيّاً أم شيعياً، ولأن السلفية التقليدية مثّلت الأيديولوجية المشرعنة للدولة السعودية ودول أخرى في الخليج مثل قطر، فإن الحراك الشبابي صار بحكم الواقع والموضوع مصوّباً ناحية أيديولوجية الدولة، باعتبارها المسؤولة عن انتاج وشرعنة الاستبداد السياسي.

لاشك أن انتعاش الافكار الليبرالية السياسية والاجتماعية على وجه الخصوص وسط جيل الشباب يفضي تلقائياً الى تواري الميول السلفية، ومن الواضح اليوم أن فيضاً من الطروحات الديمقراطية والليبرالية السياسية تروج وسط الشباب، وتؤكّد على حرية الاختيار، وحق المشاركة السياسية، والسيادة الشعبية وتكتسي هذه المبادىء رداءً حقوقياً.

العامل الخارجي في الحراك الخليجي

ويبقى السؤال المتكرر عن العامل الخارجي، فإلى أي مدى يلعب العامل الخارجي (العلاقة مع الولايات المتحدة وإيران، التطورات الاقليمية الاخرى) دوراً في تحجيم او تسريع عملية الانفتاح السياسي والمجتمعي؟

ورغم ما ينطوي عليه السؤال من استبطانات ذات دلالات خاصة، وفي أحيان كثيرة غير بريئة فإن الجواب الصحيح والشافي والشجاع يقول بأن العامل الخارجي في عمليات التغيير السياسي والتحوّل الاجتماعي مفسدة لها، لأنه يقف على النقيض تماماً من مفهوم «الارادة العامة»، فإذا كانت الثورة هي لحظة اكتمال شروط ذاتية وموضوعية للتغيير الاجتماعي، فإن العامل الخارجي يصبح افتئاتاً على الحراك الطبيعي للثورة. ومن وجهة نظر أخرى، حتى لو لعب العامل الخارجي دوراً مساعداً فإن ذلك يعني إضراراً بالثورة وتشويهاً لهويتها، ومشروعيتها، وطهارتها.

ليس من قبيل الجفوة العاطفية أن تتريث الشعوب العربية في دعم ربيعي ليبيا وسوريا بعد أن بات للعامل الخارجي سطوة بلون الدم والخداع.

في ضوء ما سبق، فإذا أردنا رسم خريطة معرفية لعناصر الحركة الاصلاحية في السعودية فمن تمثل وماهي المراحل التي مر بها الحراك السياسي والمجتمعي؟ وماهي آليات وأدوات التغيير التي تبنتها الحركة الاصلاحية؟

وهذا جوابه متشعب وعميق وواسع، لأن من الصعب الحديث عن حركة اصلاحية متماسكة وذات لون سياسي وأيديولوجي واحد، وإنما الكلام يدور حول عمل سياسي تراكمي يعود الى الخمسينيات من القرن الماضي حين انطلقت تشكيلات حزبية قومية ويسارية ذات طابع نخبوي أو مهني واختارت شركة النفط (أرامكو) موضوعاً لنضالها ضد الامبريالية الأميركية والرأسمالية الغربية، وناضلت بوحي من الأفكار التحررية اليسارية والناصرية واصطدمت مع النظام السعودي في مواطن عديدة، وسعى المناضلون حينذاك الى نقل نموذج الانقلابات الثورية الى السعودية عن طريق كبار الرتب العسكرية في الجيش، ولكن تلك المحاولات لم تنجح فكان مصيرهم الإعدام.

في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، تأثّر النضال السياسي في السعودية بموجة الثورة الايرانية سنة 1979، واندلعت انتفاضتان: انتفاضة الحركة بقيادة جهيمان العتيبي في نوفمبر 1979، وانتفاضة المنطقة الشرقية في ديسمبر 1979، وكانت ايذاناً لحركة (أسلمة) سياسية غمرت عقد الثمانينات بأكمله، قبل أن تنشق حركة إصلاحية رفعت مبادىء الديمقراطية وحقوق الانسان والليبرالية المقيّدة ونادت بالمشاركة والتعددية السياسية والحريات الفردية والعامة..

اليوم نشهد خطاباً إصلاحياً يخترق الفضاءات الاجتماعية والسياسية الأخرى، ويلتقي على أساسه طيف من المكوّنات الشعبية المتحدّرة من خلفيات إجتماعية وإيديولوجية متعددة، ويطالبون، بثبات، بالتغيير السياسي وبناء دولة مدنية وبالملكية الدستورية عبر تشكيل الجمعيات الحقوقية مثل جمعية (حسم)، أو نشاطات ثقافية واعلامية كما تظهر في مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر) و(فيسبوك) أو صفحات ومنتديات على شبكة الانترنت تمثّل مجموعات محدّدة ذات طابع أيديولوجي أو سياسي محدد.

وهنا ينشق سؤال آخر، فهل ثمة قائمة مطلبية واحدة أم أن هناك قوائم متعددة، وما هي المطالب وهل هي مطالب مجتمعية او سوسيو اقتصادية تتعلق بالتهميش أم ان هناك لائحة مطلبية أوسع تشمل مطالب سياسية وإلى أي مدى تتلاقي مطالب الحراك في المنطقة الشرقية مع مطالب عموم الوطن وهل ثمة تنسيق ما بينهما.

الحراك في السعودية

جبهة وطنية للتغيير

بقي سؤال الجبهة الوطنية كإطار لعمل تنظيمي شعبي يتوحّد في الخطاب، والتكتيك الاحتجاجي، والتعبئة الجماهيرية باقياً ويمتد على طول تاريخ الدولة السعودية التي عجزت عن أن تتحوّل الى دولة وطنية، أو بالأحرى أن ينتقل الكيان الجيوسياسي الذي إسمه السعودية، من دولة سلطة الى دولة وطن..وقد انعكست هذه الظاهرة على واقع الحراك الشعبي في المملكة، فالتشظي الذي أصاب الدولة انعكس بصورة تلقائية على السكّان الذي بات من الصعوبة بمكان وصفهم بـ (مجتمع) أو (شعب) لأن الخصائص المشتركة بين المكوّنات السكانية شبه معدومة من جهة، وأن الدولة السعودية كانت تسلّطية الى الحد الذي لم تكن تملك آليات الانتقال والدمج الوطني، ما أبقى على الخصائص التقليدية، أو بمعنى آخر بقيت الهويات الفرعية فاعلة وإن ضمورها في بعض الأحيان ليس عن ضعف ولكن كإجراء إحترازي كيما لا تتعرض للقمع من قبل الدولة.

اليوم في كل أرجاء الخليج ثمة حراك شعبي متفاوت المستويات في حضوره، في وتيرته، وفي عنفوانه، ولكنّه كفيل بأن ينبىء عن مشهد الخليج في المستقبل، حيث أن منسوب الوعي السياسي قد بلغ حدّاً لا يجوز معه تجاهل مفاعيله، ولا تداعياته على الأرض، وأن إصرار الدول طيلة العقود الماضية على وضع العراقيل المانعة لنشوء تنظيمات مدنية تعين على استيعاب فائض النشاط والحماس لدى الشباب لجهة إحداث الانتقال المطلوب في المجتمع والدولة، يتم التعويض عنه من خلال تجمّعات شعبية في الواقع الافتراضي تفضي الى تجسيدات عملية على الأرض تؤدي ذات الوظيفة التي عليها التنظيمات الأهلية.

صحيح أن الحكومات الخليجية لا تزال تملك قدرة القمع ولكن لم تعد بعد الآن تملك قدرة الحسم، فذاك بات من الماضي، وصحيح أن التعبير عن المطالب الشعبية قد يخفت ولكّنه لا يموت.

وفي واقع الأمر هناك مستويان في المطالب:

مستوى عام، يعبّر عنه الجميع بقائمة مطالب مشتركة مثل الدستور، والفصل بين السلطات، وتوزيع الثورة، والشراكة السياسية، والشفافية والمحاسبة، وتطبيق عادل لمبدأ المواطنة، وتحقيق المساواة، ورسم سياسات فاعلة لمعالجة الفقر والبطالة..الخ.

وهناك مستوى خاص، تعبّر عنه بعض المكوّنات السكانية بسبب الحيف الخاص الذي طالها بسبب انتمائها الاثني أو المذهبي أو المناطقي. ولابد من إلفات الانتباه هنا الى أن النظم السياسية الخليجية تميل بقوة الى التعامل مع هذا المستوى من المطالب لسببين رئيسين:

الأول: إبقاء المطالب في حدودها السيواقتصادية، والنأي بعيداً عن المطالب السياسية.

الثاني: ترسيخ عوامل الانقسام السكاني، حيث يتم التعامل مع قبائل ومذاهب ومناطق لا صلة بينها ولاقواسم مشتركة تجمعها. وليتخيّل المرء لو أن هؤلاء جميعاً توحّدوا على قائمة أهداف ذات طابع سياسي ووطني، كيف سيكون حال النظام الحاكم..؟

لقد برزت في الآونة الأخيرة أشكالاً أوليّة لجماعات وطنية عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق، ويرجع الفضل في نشأتها الى ثقافة العولمة في بعدها الاتصالي، وتهافت التوجيه الإعلامي والثقافي الرسمي.. وعلى مثل هذه الجماعات يمكن التعويل في إحداث التغييرات الكبرى المأمولة.

وهنا من الضروري التوقّف عند الحراك الشعبي في البحرين كونه الأظهر خليجياً، والذي يستحق قدراً من الإهتمام الاعلامي والشعبي، كما يتطلب تقييماً دقيقاً، خصوصاً وأن البحرين كانت الدولة الأكثر تأثراً بالتطورات السياسية خارج منطقة الخليج.

يعتبر الحراك الشعبي في البحرين التمظهر الأبرز لفشل نموذج الدولة غير الوطنية، وهو رد فعل طبيعي على الاختلال الكبير في العلاقة بين الحاكم والمحكوم..هي الدولة الوحيدة في الخليج المرشحة لحركة احتجاجات شعبية كل عشر سنوات، والسبب في ذلك أن الدولة تريد السير على خلاف منطق وقوانين الأشياء في الدنيا، فلا هي تريد اعتماد مبدأ الأغلبية، ولا مبدأ الشراكة، ولا مبدأ المناصفة، بل ولا حتى مبدأ المثالثة (ثلث لآل خليفة، وثلث للشيعة، وثلث للسنة)..على الضد، تقوم السلطة بعملية تفتيت ممنهج لكل مقومات العلاقة السويّة والمستقرة بين المكوّنات السكانية في هذا البلد. بل إن السياسات الرسمية في التمييز الطائفي وأسلوب العقاب الجماعي ضد كل المشاركين في المسيرات السلمية بكل أصنافهم بما يشمل المعلّمين، والاطباء، والطلاّب، وموظفي القطاعين العام والخاص، وحتى الفلاحين والكسبة والحرفيين، يحيل البحرين الى دولة بوليسبة تماماً.

اليوم، لم يعد هناك إمكانية للكسر: لا النظام قادر على وقف مسيرة الاحتجاجات الشعبية بالرغم من تطويق العاصمة، المنامة، لجهة إبقائها بعيداً عن الحراك الشعبي، ولا المعارضة في ضوء استراتيجيتها السلمية الحالية قادرة على تغيير نظام الحكم دع عنك إسقاطه..ولا مناص، إذاً، من حوار فعّال وشامل يؤسس لدولة وطنية حقيقية تقوم على إرادة السكّان الاصليين وليس المستوردين من الخارج لأسباب سياسية، أو ما يعرف بـ (التجنيس السياسي) والذي لا صلة له بقوانين التجنيس في العالم، فضلاً عن المنافع المرجوّة من ورائه سوى المنفعة السياسية.

الحوار وحده السبيل اليوم لتسوية شاملة وتاريخية تتطلب ارادة صادقة، وتتطلب استبعاد وجوه قديمة كانت وراء اندلاع الازمة وخصوصاً رئيس الوزراء الحالي، وتقديم مقاربات جادة لكل الملفات وصولاً الى إرساء أسس دولة ديمقراطية تحقق العدل والتنمية الشاملة.

مستقبل الحراك في الخليج

والسؤال يبقى ما هو مستقبل الحراك الشعبي في الخليج؟

لا بد من إقرار حقيقة: أن الانظمة السياسية في الخليج باتت خارج التاريخ ولايمكن التعويل عليها لجهة تلبية الاحتياجات الأساسية لشعوبها، فقد بلغ الفساد الاداري والمالي مستوى لا يمكن معه تحمّل بقاء هذه الكيانات على حالها، لأن ما هو مرتقب ومطلوب منها الكثير، فالتطوّر الاجتماعي في الخليج تجاوز الحاجات الماديّة، وباتت هناك استحقاقات تاريخية لا يمكن الهروب منها أو التحايل عليها، فالمجتمعات الخليجية الموجودة حالياً خضعت لعملية تغيير إنقلابية بسبب التعليم الحديث، والعولمة الاتصالية، والانفتاح الثقافي، والنمو الرأسمالي بكل ما ينطوي عليه من تبدّلات في منظومة القيم والحاجات.

بكلام آخر، أن المجتمعات في الخليج اليوم هي غير التي كانت عليه قبل عشرين عام، فالفجوة بين الأجيال بات واسعة جداً، وأن توقعات الجيل الجديد تختلف جوهرياً وربما جذرياً عما كان لدى الأجيال السابقة، وأن الرهان على بقاء هذا الجيل خاضعاً تحت سلطة الدولة أو أي سلطة أخرى إجتماعية أو فكرية أو أيديولوجية كمن يراهن على عودة العالم الى الوراء عقوداً خلت.

الخليج اليوم يتحوّل شعبياً، ولابد أن يتحوّل سياسياً كيما يتحقق الإنسجام، وإن إصرار الحكومات الخليجية على السير بنفس النسق البيروقراطي الذي ساد منذ نشأة المشيخات الخليجية قبل نحو قرن، نكون أمام معضلة تاريخية، وأن المواجهة بين الشعوب والحكومات سوف تكون حتمية، لأن قوانين السير لدى الطرفين تتجّه الى هذه النتيجة..

التعويل على أن الزمن كفيل بأن يعيد الأمور الى نصابها، وأن الشعوب سوف تنهك وتتعب وتتنازل عن مطالبها هو تعويل على شكل خداع الذات، لأن الانفجارات الشعبية المفاجئة حين تقع لا يمكن السيطرة عليها، وهذا ما حدث في بلدان الربيع العربي، فالاحتقانات والتراكمات لا تخبر عن نفسها قبل أن تتسيل في مسيرات شعبية غاضبة..وحين تندلع لا يصبح هناك إمكانية لما يفترضه بعض الحكّام بإمكانية الضرب من حديد أو حتى الاستيعاب الناعم، فتلك مرحلة لا يسمع فيها سوى صوت الناس، لا الحكّام..

جرت العادة على أن يرخى الحبل في حال انفجر الموجة الاحتجاجية، ريثما تهدأ ثم تقتطف الرؤوس الحامية والمحرّكة للشارع، ولكن ما يجري في أكثر من بلد خليجي وخصوصاً في البحرين والمملكة السعودية أن ثمة حالة دراغونية، فكلما قطع رأس نشأ بديل آخر عنه، حتى بات الحسم مستحيلاً..إن إصرار الأجهزة القمعية الخليجية على موقف واحد بأنها قادرة على الحسم بقوة السلاح هو ما يديم الأزمات، بل هو ما يزيد الشارع إلتهاباً وتصميماً على المواجهة مهما كلّف الأمر، ومهما بلغت التضحيات قتلاً واعتقالاً ونفياً ومنعاً وخلافه..تدابير ليست كافية اليوم لمنع حركة التاريخ..

وأخيراً، وتلخيصاً لما سبق ذكره فإن الخليج يتحوّل ومن الحماقة لدى حكّام الخليج وللغرب عموماً، وللولايات المتحدة على وجه الخصوص المراهنة على بقاء القشرة الخارجية المضلّلة لأن ما سوف يتغير في الخليج أكبر مما قد يتخيّله أحد، لأن منطق التاريخ وقوانين التغيير تفيد بأن من غير الممكن أن تتغيّر الشعوب وتبقي الحكومات في حال الثبات.

الصفحة السابقة