دولـة الـتـيـه

التيه ببساطة هو إضاعة الوجهة والمقصد، فحين يتيه إنسان في صحراء يفقد السبيل الصحيح الى الوجهة التي أراد الوصول اليها، ومن تكون هذه حاله تكون قراراته وفق ما يظنه صحيحاً، وقد تؤول به الى الهاوية أو الى المزيد من الابتعاد عن الهدف، وقد ينهكه التعب في لحظة ما فلا يعود قادراً على الاحتفاظ بطاقته فيصبح رهين وهنه أو الصدف التي قد تنقذه أو تودي به الى الهاوية..

الحال نفسه ينطبق على الدول التي تظل طريقها، فلا تكتفي بالضياع على مستوى قادتها ومؤسساتها بل تقود البلاد والعباد الى مصير مجهول، إن لم يكن مصير الهلاك، حيث تتبعثر الجهود في البحث عن الهدف الذي قد لا يكون قريب المنال..فقد يكون حال هذه الدولة كحال بني اسرائيل وتيه طويل المدى بلغ أربعين سنة..

لا يكفي أن تملك الدولة إمكانيات هائلة حتى تكون على هدى أو تسير وفق رؤية واضحة وتخطيط مسبق، فهناك دول استنزفت ثرواتها في مشاريع خاسرة أو حتى رابحة ولكن لغيرها واضطرت في نهاية المطاف أن تنسحب مهزومة وتصبح ثرواتها وبالاً عليها لأن من يتولى عليها ليس بعاقل ولا يملك القدرة على إدارة بيت فكيف بدولة يعيش في كنفها ملايين البشر ويعمل في مؤسساتها مئات الآلاف من الموظفين من مختلف التخصصات..

من ينظر في حال الدولة السعودية اليوم لا يمكن أن يحدد جهة سيرها، فهي تتخبط في سياساتها وتسير في ضوء انفعالات يومية أو دوافع غير موضوعية، وكأنها تدافع عن نفسها في الخارج فيما تتجاهل حاجات الداخل، وكأن هذا الداخل مرتبط بالخارج، فإن انتصرت فيه تمكّنت من ضبط الأوضاع في الداخل..

يعتقد آل سعود بأن إخفاء أسرار أمراض الملك والأمراء الكبار، والصراعات المحتدمة بين الأجنحة، أو حتى العلاقات المتوترة بينهم وبين الدول الاخرى الحليفة والصديقة يمكن أن يوهم المواطنين بأن الدولة تسير في الطريق الصحيح..والحال، أن الرغبة في المعرفة لدى قطاع كبير من الناس، والشباب منهم على وجه الخصوص تجعل من الخداع صعباً، لأن الشباب تجاوزوا مرحلة قبول القرارات المؤجّلة، وأن الاصلاح الشامل والجذري بات شاملاً..

في هذه الأيام، يبدو التيه فاضحاً، فلا حال الملك عبد الله الذي افتعلت حاشيته قصة (الاجازة الخاصة) للهرب من استحقاق السؤال عن مصيره، فيما بدأت الامبراطورية الاعلامية رحلة (تتيه) الشعب عبر استدراجه الى حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وهي حرب سوريا، يشارك فيها النظام وجماعات مسلّحة يموّلها ويسلّحها ثم يلوم خصومه لأنها تتدخل في سوريا، وكأن الأخيرة بلا شعب يقرر مصيره ويحدد شكل نظامه السياسي، فهو كمن يريد أن يستبدل وصاية بوصاية اخرى وليس منح السوريين الاستقلال التام في الاختيار الحر.

لقد مضت الدولة السعودية في تيه طويل المدى، ولكن هذا التيه يختلف عن سوابقه بأنها كانت مقتصرة على مدد زمنية محدودة، إنما التيه اليوم ينم عن ضياع، ذهول، مقامرة واضحة بكل ما يتعلق بالدولة ومؤسساتها وشعبها. بكلمة أخرى، إن التيه الذي نشهده حالياً على حساب الدولة وجوداً واستمراراً، أي أن من يوجّه الدولة في مرحلة التيه يدفع الأمور نحو المزيد من التيه، ومزيد من الضياع، وفي نهاية المطاف قد نصحو في يوم ما على لادولة، ولا كيان، بل على مجرد تشكيلات بدائية متناحرة، ترتد بالجميع الى مرحلة ما قبل الدولة..

كل ما نلحظه في مواقف وسياسات لا يمت الى الدولة بصلة، دع عنك الوطن، لأنها مواقف لا تعمق الانقسام فحسب، بل تؤسس لحروب أهلية داخلية، تارة تتم عبر فتاوى دينية تكفيرية، وتارة عبر تحريض على الكراهية في صحف محلية وإعلام رسمية، وتارة عبر تدابير قمعية ضد ناشطين وحقوقيين يطالبون بصورة سلمية وحضارية عن مطالب هي موضع إجماع الأغلبية الساحقة من الناس..

ان مجرد الهروب من الاستحقاقات الإصلاحية لن يبدّل في وعي الناس، حتى لو اشتغلت مكائن الدولة وامبراطوريتها الاعلامية على افتعال معارك جانبية أو صنع اهتمامات وهمية أو العبث بأولويات الناس، عبر تصخيب المناخ العام بأصوات المتطرفين من السلفيين أو غلمان الداخلية في الإعلام والصحافة الهابطة معنى ومبنى..في واقع الأمر، إن آل سعود يدمرون بأفعالهم هذه أسس الدولة، الهشة في جوهرها، والتي إن عمّت الفوضى فإنها لن تسلم من ارتداداتها العنيفة، فهم يدركون تماماً بأن استدراج المواطنين الى تيه مفتعل عبر تسعير الخطاب الطائفي على خلفية الأزمة السورية التي شارك آل سعود بقوة في صنعها عبر وأد ثورة الشعب السوري ومصادرة دوره وإرادته لجهة إقامة دولة ديمقراطية تمثيلية، فيما أرادت تصفية حساباتها الخاصة مع نظام بشار، ثم أرادت أن تغمر الأجواء العامة اعلامياً ودينياً بمشاركة أقلام مشبوهة ومأجورة ومسعورة في الداخل والخارج، وثلّة من المشايخ والمفتين الجاهزين لتوجيه دفة الدين بحسب ما يريد السلطان، وكل ذلك مدفوع الثمن، فيما الناس تعاني من أزمات في المعيشة، والصحة، والسكن، والتعليم، والخدمات دع عنك معاناة المعتقلين وضحايا انتهاكات حقوق الانسان والحريات العامة..

ما نود التأكيد عليه في هذه السطور القليلة أن آل سعود يسوقون البلاد والعباد الى تيه لا يعلم الا الله مداه ونهايته، ويخشى أن يؤول الى تقويض كل أسس الدولة والاستقرار، فهم لديهم المال الكافي للهرب والعيش في أي بقعة في العالم يشاؤون ولكن الناس التي عجنت بطينة هذه الأرض لا يجوز أن تدع هؤلاء يتلاعبون بمصيرهم..لأن الأرض لهم وليست لآل سعود، ونقطة على السطر!

الصفحة السابقة