قطر لم تعد منافساً للسعودية.. والأخيرة ليست وريثاً لها!

محمد السباعي

بالنسبة للكثير من المراقبين يبدو المشهد في التنافس القطري السعودي، وكأن قطر قد سلّمت المفاتيح والعهدة الى المتعهد السعودي الجديد، لتدخل الدولتان مرحلتين من التحول السياسي.

فهل يبدو المشهد هكذا بوضوح، خاصة بعد سقوط حكم الإخوان الحليف لقطر؟

هل يبدو الوريث السعودي قد استعاد عافيته وفعاليته وهو يتسلّم مفاتيح المعارضة السورية بتنصيب الجربا، وبانزواء الطاقم الإخواني؟

لماذا تتنازل قطر عن نفوذها الذي بنته خلال السنوات الماضية لصالح السعودية هكذا بسهولة؟

وكيف ستدير الرياض ملفات المنطقة في المرحلة القادمة، وبأية عقلية؟

أسئلة عديدة تفتحها تطورات الملفات المتفجّرة في المنطقة، والتحولات الجارية في منطقة الخليج نفسها.

قطر لم تعد منافساً

في غياب الدول الكبيرة، وجدت قطر فرصة لتظهر نفسها كدولة متميزة لم تكن معروفة على خريطة العالم!

وُجدت منذ ما يقرب من عقدين قيادة جديدة للعائلة المالكة القطرية، حيث طرد الإبنُ الأبَ، وبدا وكأن القيادة الشابة (بالمقاييس الخليجية) لديها طموح بأن تلعب دوراً لم تكن تفكّر فيه يوماً.

كان صراع السعودية مع قطر حول منطقة الخفوس، وما جرى من تصادم عسكري، ثم محاولات السعودية إعادة الأب خليفة آل ثاني الى الحكم عبر انقلاب عسكري يشترك فيه عناصر من قبيلة آل مرة الموالية لآل سعود، ثم ما جرى من خلاف بين قطر والبحرين على جزر فشت الديبل وغيرها، وانحياز السعودية لجانب البحرين.. كان ذلك كله البداية التي دفعت الدوحة ليس فقط لمناطحة ال سعود، بل ولاكتشاف ذاتها وامكاناتها من خلال ذلك الصراع.

في حمّى الصراع ـ وربما الدفاع عن النفس ـ رأت قطر أن يكون لديها جريدة تنافس الإعلام السعودي، ثم وجدت نفسها أمام إرث محطة البي بي سي العربية الفاشلة الأولى الممولة من السعودية، فافتتحت قطر بطاقمها قناة الجزيرة، لتصبح أفضل وسيلة إعلام ناجحة في الصراع السياسي، بمعنى كأداة في السياسة الخارجية القطرية التي بدأت هي الأخرى تلعب لعبة الكبار، وفق تحالفات لم تكن تدركها من قبل مع الاسرائيليين والأمريكيين والإيرانيين وحتى السودانيين واليمنيين، لإغاظة السعودية من جهة، ولتزهو بنفسها وهي تلعب لعبة الكبار!

وفي السياق نفسه، كانت قطر قد بدأت للتو طفرة اقتصادية من خلال مردودات الغاز، الى جانب مدخولات النفط، حيث تطور دخل الفرد في قطر صاروخياً الى الأعلى، حتى أصبح الأعلى عالمياً. وكان هناك فائض مالي شجّعها على استخدامه وتوظيفه في تحقيق الأهداف العليا للسياسة الخارجية القطرية.

في فترة ما يمكن تسميته النهوض القطري، والتي بدأت منذ منتصف التسعينيات الميلادية الماضية، كانت السعودية تعيش خمولاً غير مسبوق. بل هو انكفاء على الذات منذ غزو العراق للكويت بداية التسعينيات الميلادية الماضية، حيث انشغلت الرياض بمشاكلها المالية الخاصة، ومشاكلها الداخلية السياسية الأخرى، في ظل تفكك الإجماع العربي، وعدم حرص السعودية على الريادة فيه، او كان في ظنّها ان أحداً لا يستطيع ان يشغل الفراغ الذي ستتركه.

السعودية منذ بداية التسعينيات، احتفظت ـ اضافة الى خمولها الخارجي ـ ببعض الملفات القليلة، وتركت معظم الملفات التي كانت بسببها زعيمة للعالمين العربي والاسلامي. نسيت الصومال وفلسطين وافغانستان والأقليات الاسلامية في شرق العالم وغربه، ولم تعد تهتم بدور القاضي في الصراعات البينية العربية، ولا دعم الدول المحتاجة عربياً واسلاميا وهي الطريقة المثلى التي كانت تخضع بها رؤوس دول عديدة.

الشيء الذي أمسكت به هو العلاقة المتميزة مع أمريكا ومع مصر مبارك، وكان واضحاً انها قد فرطت بسوريا حافظ الأسد وبالجزائر وبالطبع بعراق صدام حسين. وبدون الدول القوية الثلاث هذه لا تستطيع السعودية ان تكون زعيمة العالم العربي، فضلاً عن أن الزعامة لها متطلبات يجب توفيرها ومن بينها: حلحلة المشاكل العربية والإسلامية والدفاع عن القضايا المصيرية. بدون ذلك، لا يمكن للسعودية ان يستمر نفوذها، وكذلك حين تغير السعودية سياستها المالية حيث بدأت بحجب الأموال والأعطيات: فلماذا تخضع لها الدول الأخرى اذن؟ وزد على ذلك: تخلّت السعودية منذ ذلك الحين عن لعب دور الوسيط السياسي، وصارت طرفاً في عدد من المشاكل.

كل هذا جعل من السعودية الغائب الأكبر في العالم العربي. في الحقيقة ليست هي وحدها، بل معها مصر والجزائر والعراق والى حد ما سوريا، ولكل دولة سبباً.

ذلك الفراغ المهول أفسح المجال لدول صغيرة ان تلعب دوراً مثل قطر، وحتى الأردن لفترة ما.. اما المستفيد الأكبر من ذلك الفراغ فكانت إيران واسرائيل ولاحقاً تركيا.

السعودية في التسعينيات وحتى بعد دخولها الألفية الجديدة كانت شبه مشلولة، أسوة بشلل ملكها (المجلوط).

كانت محتارة أمام الظاهرة القطرية المشاكسة هي وقناتها.

تسليم الإرث الفاشل

وكانت الرياض غير قادرة على تأديب قطر الصغيرة، بعد ان فتحت الأخيرة الأبواب امام الأميركيين كي يقيموا قواعد لديهم في العديد والسيدية مثلما في الرياض والظهران!

وقطر بدأت تقيم علاقات ـ وأحياناً متميزة ـ مع الدول التي تكرهها السعودية: اليمن، السودان، ايران، وحتى مع القذافي والعراق الصدامي، فضلاً عن العلاقات الخاصة والعائلية مع عائلة الأسد.

كل ما كان بعض مثقفي النظام السعودي يقولونه بسخرية وألم في آن، هو: ان تجربة قطر تشابه تجربة الكويت!. فالأخيرة كان يعتبرها الملك فيصل ساخراً من الدول العظمى الست! الى أن جاء الغزو فأعادها الى حجمها الطبيعي، ورحم الله امرئاً عرف قدر نفسه.

مشاكسة قطر بدأت تضغط على الرياض، وكان صعود نجم قناة الجزيرة، قد أطلق سخرية كبيرة ضد الاعلام السعودي، في ظل تشكل رأي عام عبر هذا الوافد الجديد الذي اسمه الانترنت ومنتديات النت، وفي وقت كانت السعودية قد بدأت تعاني مما تعتقده جور المقارنة بينها وبين دبي، وبين اداء مسؤوليها ومسؤولي دبي.

لكن المشكلة ليست في القناة، فالدور السعودي لا يزعجه قناة فحسب، وإلا فالرياض قد أسست لنفسها فيما بعد قناة منافسة بل قنوات عديدة (العربية واخواتها). 

المشكلة تكمن في ان الجسد السياسي والدبلوماسي السعودي مترهل وبلا رؤية مستقبلية البتة. وهو كذلك الى هذا اليوم، كما نعتقد. هناك عمى استراتيجي لدى الرياض، ولاتزال في ذلك العمى ضائعة.

قطر وسّعت من استثماراتها السياسية، مع اسرائيل، مع القاعدة؛ جمعت في حركة ابداعية الخصمين اللدودين: السلفيين والإخوان؛ واستضافت الصلح في السودان، وحاولت وراثة النفوذ السعودي في اليمن وكادت أن تنجح، وتحركت على الطالبان التي هي صناعة سعودية، وورثت البعثيين العراقيين لتقيم حرباً طائفية تحت الحزام. وأخيراً كان الإستثمار الأكبر للجزيرة وللمال والنفوذ والخبرة القطرية في احداث الربيع العربي، فأسقطت او ساهمت في إسقاط نظامين او ثلاثة: في تونس ومصر وليبيا!

هنا بلغت قطر الذروة. ذروة التمدد، ذروة النفوذ والتألّق!.

وعلى قاعدة ان كل شيء اذا ما تمّ يبدأ بالنقصان. بدأت قطر بالتناقص، فتحوّلت الى جزء من مشاكل دول الربيع العربي التي نجحت في اسقاط انظمتها. صار هناك من يتهمها بانها جزء من المشكلة كما في ليبيا؛ وفي مصر لم تكتف قطر إلا بتسويد خيارها السياسي الإخواني، وجر الشيخ القرضاوي الى ساحة التحرير إماماً، والى معارك خارج الحدود الى سوريا ايضاً. بمعنى اخر: اصبحت قطر سبّة في الآونة الأخيرة، وبلغ الوضع غايته.

فالجزيرة استهلكت سياسياً ومهنياً، وصارت تعبر عن حزب، والنظام السياسي القطري استهلك جهده في سوريا حيث توقفت انتصارات الثلاثي الاخواني القطري التركي. في اليمن مبادرة السعودية هي التي تمشي عرجاء، واستعادت السعودية رجالها بمال أكثر مما تمنحه قطر!. ليبيا في الطريق الى التحول الى حرب نصف أهلية. تونس ليست مستقرة كثيرا. أما مصر فهناك ثورة على الإخوان وبالضرورة على قطر رغم كل ما بذلته الأخيرة.

وصل الدور القطري نهايته.

وهكذا كانت استقالة امير قطر، وحمد بن جاسم الرجل الثاني، واستكملت الحلقة بكلام يقال عن طرد الشيخ القرضاوي الى مصر؛ وحتى اقالة عبدالباري عطوان من موقعه في صحيفة القدس العربي، وتنازل او انكسار قطر في رهانها على قيادة الإخوان المسلمين في الائتلاف السوري المعارض لصالح السعودية ومرشحها لأول مرة الجربا. وربما في الطريق هزائم أخرى.

الضربة الماحقة كانت في سقوط حكم الإخوان في مصر، وانفلاش التحالف السلفي الإخواني، وضياع آمال تسويد الإخوان على مستوى العالم العربي بغطاء امريكي.. الضربة لم تكن لقطر وحدها، وانما لحليفة قطر وهي تركيا. وكلتا الدولتين تنافسان السعودية وتقضمان من نفوذها، تماماً كما تفعلان مع مصر نفسها.

السعودية ليست وريثاً

انهيار الإخوان انهيار لنفوذ قطر

من لديه مشروع واضح، وهمّة واضحة، وقدراً من الإمكانات المادية والمعنوية يستطيع النجاح.

السعودية لا مشروع ولا همّة لديها، والمال الذي تمتلكه لا يصنع مشروعاً ولو بعد قرن.

هناك دول كثيرة لديها مال ولكنه لم يتمظهر على شكل نفوذ سياسي.

نعم المال السعودي يمكن ان يخرّب على آخرين من أصحاب المشاريع السياسية، لكنه لا يصنع مشروعاً سعودياً.

هذه الملاحظة يجب التذكير بها ابتداءً. لأن السعودية خلال العقدين الماضيين لم تثبت فقط عجزاً وهرماً وضياعاً وعمى استراتيجياً.. بل انها عمدت الى تخريب مشاريع الآخرين حين فقدت البوصلة والهمة.

ما حدث ويحدث في العراق مجرد تخريب، ليس للسعودية دورٌ فيه او مشروع يُبنى عليه. في الحقيقة اضاعت معظم حلفائها.

في سوريا فرّطت الرياض بحليف قوي حقاً، لطالما نصح الإميركيون الإحتفاظ به، لكن الرياض العمياء لم تفعل، وجلّ ما فعلته الرياض المساهمة في تدمير البلد، دونما أفق، وغياب الأفق يعني غياب المشروع اصلاً.

الآن، وبعد ثورات الربيع العربي لم تتغير خارطة النفوذ السياسي كثيراً، رغم تغير عدد من الأنظمة.

فمصر لازال دورها السياسي الإقليمي معطلاً. بالنظر الى ظروفها السياسية والأمنية المعروفة، ذلك ان عدم الإستقرار السياسي لا يمكن ان يستقيم معه دور مستقل حيوي وفاعل لمصر في العالم العربي.

سوريا والعراق لازالتا مهمشتين بعوامل الطائفية السياسية العربية.

الجزائر والسودان مشغولتان بمشاكلهما الداخلية.

ومثلهما تونس واليمن وغيرها.

من يستطيع اذن ان يلملم شتات هذا العالم العربي، او ينال حصّة الأسد فيه بقواه الذاتية؟

باختصار: لا أحد.

السعودية لا تستطيع وإن أرادت، وهي لا تريد.

اذا كانت قطر بحجمها الصغير قد اصبحت لاعباً كبيراً في غياب الكبار، فما عسى السعودية ان ترث من قطر، ان كانت الأولى محكومة بعقليات ديناصورية وأجساد هرمة وبمشاعر انتقام؟

بانسحاب قطر سيزيد عدد الكراسي الشاغرة وهي عديدة. السعودية لا تستطيع ان تملأها لا كلها، ولا حتى كرسيها الخاص بها.

هناك من رأى ان السعودية سترث نفوذ قطر سياسياً.

حسنٌ.. أين سترثها؟

كل ما تركته قطر دمار وقضايا فاشلة تشبه الشركات الفاشلة التي قد تستهلك الأموال ولكن لا أمل بإنجاحها؟

ماذا تريد الرياض من سوريا: هل اسقاط الأسد، ام تدمير سوريا، ام تخريب الملعب على الإيرانيين؟

ماذا تريد الرياض من مصر: هل اسقاط الإخوان يكفي؟ ام من اللازم ان تعود الفلول ـ قوى الثورة المضادة ـ الى صدارة الحكم؟

هل تريد ان تلعب الرياض واعلامها ـ كالعربية ـ الدور المناقض للجزيرة بحيث تأخذ موقع الثورة على الثورة سواء في تونس او غيرها، أم ان الرياض لها رأي مختلف في كيفية صناعة مناخ عربي جديد مثمر؟

الرياض لا تعلم ما تريد، واذا علمت لا تستطيع ان تحققه، وزيادة على ذلك فإن الرياض يجب ان تتغير حتى تستطيع أن تُغيّر الوضع ما حولها.

لو فكرت السعودية ان ترث قطر فماذا سترث في مصر وليبيا وتونس وسوريا وحتى العراق؟

انها أحمال فشلت الأكتاف الشابة لال ثاني في حملها (مقارنة مع اعمار امراء آل سعود)؛ فكيف بأكتاف هرمة لا تعرف دواماً يزيد عن الساعتين في اليوم؟ 

يطيب للسعودية ان تبدو وكأنها قد انتصرت على قطر في مصر وسوريا واليمن، وهي بلا شك سجلت نقاطاً عديدة.. لكن الخشية ان يكتشف السعوديون متأخرين بأن القطري انسحب من الملعب ولم يكمل معركته الخاسرة، وسلّم الراية المكسورة لآل سعود حتى يبوأوا بإثمها!

الصفحة السابقة