الموقف من مصر

رؤية الملك لا تمثّل الشعب

محمد قستي

الإنشقاق العمودي والأفقي في مصر حول الوضع السياسي هناك، تجد نظيره ـ بصورة مخففة ـ في السعودية. فالحكومة وأطرافها ومحازيبها اتخذت موقفاً سياسياً الى جانب العسكر والفلول من أجل الإطاحة بحكم الإخوان وبالديمقراطية، في حين أن بقيّة الجمهور تقف الى جانب الديمقراطية، وترفض حكم العسكر والدموية التي أبدوها في التعامل مع الجمهور، حتى وإن اختلفت مع الإخوان.

لم تثر قضية سياسية خارجية انشقاقاً داخلياً وتنافراً بين الموقف الرسمي والموقف الشعبي بمثل ما أثارته القضية المصرية. لا ارسال المفخخات والإنتحاريين الى العراق، ولا التدخل في اليمن الى حدّ خوض الحرب المباشرة، ولا إرسال الجيوش الى البحرين لحماية آل خليفة، ولا تمويل الدمار في سوريا، ولا مواجهة إيران وحزب الله، أثارت انشقاقاً كبيراً تم التعبير عنه بوضوح. بعكس ما حدث في مصر.

بل يمكن القول أن القضايا المحليّة، وبرغم عمق تأثيرها، لم تحز تلك الأهمية التي كان ينبغي أن تحوزها، كقضية العنف والدموية وقتل المواطنين في المنطقة الشرقية، والمطالبات بالإصلاح، واعتقال الإصلاحيين والناشطين الحقوقيين، وغيرها.. لم تصل القضية في كل هذه الأمور الى تنافر واسع وشعبي مع الرؤية الرسمية.

والسبب، كما قلنا في عدد سابق، فإن (مصر: قضية سعودية) بامتياز. هي قضية حياة أو موت بالنسبة للنظام الذي إن خسر مصر سياسياً فإنه سيبقى وحيداً في الساحة العربية، بلا نفوذ ولا مكانة، ولا أحلاف يعتمد عليها في تمدده او في تأكيد زعامته.

نجاح التجربة المصرية، يعني نجاحاً للديمقراطية، والديمقراطية كفر كما يقول مشايخ النظام. وهذا يعني تمددها الى الداخل السعودي، خاصة بين الفئات الدينية التي كانت الى وقت قريب تمثل حاضنة للنظام. التجربة المصرية هي تجربة إخوانية سلفية، وجدت لها معجبين في الداخل السلفي السعودي ـ رغم أقليته ـ فحفزتهم للنسج على منوالها، او تمنّي تكرارها، الى حدّ كان بالإمكان معه أن تتحوّل مصر الى ملهم سياسي، والى تحوّل المرجعية السلفية من الرياض الى القاهرة، حيث عدد السلفيين أوفر، ومسلحين بتجربة سياسية أرقى ـ فيما لو نجحت. وهذا ما دفع بالأمير نايف بعد أشهر من سقوط مبارك الى عقد مؤتمر (السلفية منهج شرعي، ومطلب وطني) وذلك للدفاع عن السلفية بنكهتها السعودية الوهابية وتأكيد مرجعيتها في الرياض.

السعودية فتحت المعركة على الإخوان في مصر منذ عام 1991، وزادت جرعة التحريض اكثر وأكثر اثناء الثورة على مبارك، وخرج الإعلام السعودي من عقاله (الشرق الاوسط والعربية، وكل الصحف المحلية) حين انتخب رئيساً إخوانيا. وجاءت الفرصة للسعوديين من السماء، بعد تظاهرات 30 يونيو، فدعمت السيسي بالأموال والإعلام والموقف السياسي. وبإزاء ذلك فتحت معركة داخلية على كل النشطاء، خاصة وانها استشعرت القوة، وحفّزها ذلك الرياض لمحاولة اخذ زمام المبادرة في الحروب الإقليمية المتقدمة، كما في سوريا والعراق، وعبر رحلات بندر بن سلطان رئيس الإستخبارات، من باريس الى موسكو.

الخشونة، بل العنف والدموية، هي طابع السياستين الداخلية والخارجية، هذه الأيام.

حين تبرعت السعودية في اليوم الأول لسقوط الإخوان بنحو خمسة مليارات دولار، تحولت منابر التواصل الإجتماعي الى صواريخ على رأس القيادة السعودية حافلة بالتعليقات، خاصة وأن الملك عبدالله قد صرح يومها بضرورة مواجهة العنف والدموية التي نسبها للإخوان حيث لا اشتباكات ولا قتلى ولا أي شيء. وقد فهم من كلامه أنه يقصد أيضاً اولئك (الإخونجية/ حسب التعبير الاعلامي السعودي) في السعودية والخليج. وقد رافق خطاب الملك حملة اعلامية تشتم معارضي النظام في الداخل وتتهمهم بأنهم ملحق لإخوان مصر، في حين أن القضية لم تكن مختزلة بهذا الشكل، فالمعارضة متمددة على كامل الأراضي السعودية، وأشرس المعارضين هم منتجٌ محلّي سلفي جاءت به الوهابية وروجته في كل العالم الإسلامي، وأفظع ما أنتجته هو القاعدة التي يتم مواجهتها في السعودية واليمن، ويتم دعمها في سوريا والعراق!

التردد لدى الإدارة الأميركية في اتخاذ قرار بشأن رؤيتها السياسية تجاه مصر، وتوصيف ما جرى: انقلاباً عسكريا أم ثورة، وكذلك شعور السعودية بأن الإدارة الأميركية المترددة قد فشلت من قبل وأصبحت غير مؤتمنة على المصالح السعودية الخارجية، هو الذي دفعها للذهاب بعيداً في دعم السيسي، رغم ما يبدو أنه تناقض بين الموقفين الأميركي والسعودي. وفي النهاية سلّمت امريكا أو هي في هذا الإتجاه بالرؤية السعودية، شأنها في ذلك شأن الموقف من الثورة البحرينية والثورة اليمنية.

زاد الملك السعودي جرعة الدعم السياسي ضد الإخوان في مصر، فصدر خطاب عنه وصف بالتحريضي (طبعاً تمت قراءته فهو أشبه ببيان) أُرفق بدعم طبي ميداني، وتبعه حملة واسعة في الإعلام الرسمي لتغطية الموقف للحكم في مصر. ذلك أن رهان الرياض هو على عودة الفلول الى الحكم، وهي تنتظر معركة أخرى بعد ضرب الإخوان، لتصفية التحالف بين العسكر وقوى المعارضة الثورية لصالح الفلول.

الملك في خطابه الأخير أراد، وفي حمأة الاعتراض على تفكيك اعتصام الإخوان، والدموية التي جرت بها وأودت بمئات القتلى، أن يغطي النظام في مصر سياسياً. وذلك من خلال حملة سياسية مضادة توازي الحملة التي تشنّ ضد عسكر مصر. ففي وقت تدهورت فيه العلاقات المصرية التركية، وتزايدت تصريحات بريطانيا وامريكا والاتحاد الأوروبي منددة بالمجازر.. جاء خطاب الملك داعياً العرب والمسلمين للوقوف ضد الإخوان ـ وإن لم يسمّهم ـ بحجة زعزعة الأمن، وانتقد من يتدخل في شؤون مصر الداخلية، ورأى أنهم (يوقدون الفتنة) وكأن السعودية لا تتدخل، وأضاف بأن (استقرار مصر يتعرّض لكيد الحاقدين والكارهين في محاولة فاشلة لضرب وحدته واستقراره) مشيراً الى الإخوان، ليختم واضعاً النقاط على الحروف: (ليعلم العالم بأن السعودية ـ حكومة وشعباً ـ تقف اليوم مع مصر ضد الإرهاب والضلال والفتنة، وتجاه كل مَنْ يحاول المساس بشؤون مصر الداخلية وعزمها وقوتها - إن شاء الله - وحقها الشرعي لردع كل عابث أو مضلل لبسطاء الناس من أشقائنا في مصر).

لقد قرأ الجمهور خطاب الملك بشكل صحيح، فعبّر عن رأيه بشكل صاعق أدهش أدوات النظام وإعلامه ومخبروه. اشتعل تويتر فور اعلان الخطاب: (هاشتاق: خطاب الملك عبدالله لا يمثلني). قال الجمهور أن ال سعود ضد الديمقراطية، ومع قوى الثورة المضادة، وبالتالي ليس فقط الموقف من مصر لا يمثل الجمهور، بل أن آل سعود لا يمثلون الشعب نفسه. وراح المغردون يعتذرون الى الشعب المصري من موقف الملك.

لكن المخبرين في تويتر قاموا برد فعل مضاد: لقد وضعوا هاشتاقات معاكسة عديدة تقول بأن: (خطاب الملك عبدالله يمثلني) بل يمثل الشعب السعودي. ما يعكس حدّة الإستقطاب بين الجمهور الذي رأى المواقف السعودية لها امتدادات محلية، وتعزز من الديكتاتورية، حيث تشعر العائلة المالكة أن الربيع العربي قد تذرّر، وأن موجها تغيّر، بجهدها وجهد آخرين. لقد مرّت الموجة دون أن تقدم تنازلات سياسية لشعبها، وها هي تقوم بحملة مضادة ضد كل القوى التي انتعشت في الداخل، كما ضد القوى التي وصلت الى الحكم في الخارج (النهضة والإخوان).

ما تسعى له الرياض حالياً، هو قيادة القاطرة السياسية والمالية، كيف تعبر مصر على جثث الإخوان الى (بر الأمان)!! وإن استغرق ذلك أشهراً أو حتى سنوات. فمصر، حسب تعبير أمير سعودي: إما لنا، وأو ليست لأحد! والحقيقة فإن هذا القول يصدق أيضاً على الموقف السعودي من العراق وسوريا وحتى السودان واليمن.

انها سياسة مغامرة: لنا الصدر دون العالمين أو القبر. لنا القرار في هذه الدول، أو فلتتدمّر على رؤوس المواطنين، عبر دعم القاعدة والإرهابيين. لسان حال الأمراء: لينشغل أعداؤنا بإحصاء قتلاهم، ولن نترك خنادق الطائفية والدم والأحقاد.

هذه السياسة هي ذاتها التي دفعت بالسعودية مؤخراً الى تحويل لبنان الى مزرعة لمفخخات القاعدة والسلفيين الممولين من الرياض ومكاتب مشايخها.

من الواضح جداً أن الضبابية تلف مستقبل المنطقة وجميع دولها تقريباً. لا شيء سوى الدم واضحاً.

لكن في نهاية المطاف يبقى السؤال: هل كسب آل سعود وفكرهم التكفيري المعركة، أم أنهم أجّلوها، أم أن النار قد تلحق بخبائهم قريباً، ويرتدّ سهم دسائسهم الى نحورهم؟

الصفحة السابقة