الدولة الخاسرة مرّة أخرى

توّهم آل سعود أو هناك من زرع فيهم هذا الوهم، بأنهم دائماً يربحون الرهانات السياسية التي يضعونها، ولأن هناك من استبد به الغرور ممن يدير اليوم السياسة الخارجية السعودية، وقد منحه أسياده فرصة تجريب حظه في ملفات المنطقة كي يصبح (رجل الخوارق) الذي يستطيع ما لا يقوى على القيام به شخص آخر فقد أحاطت به الاوهام الى حد الاختناق..

سؤال يطرح دائماً هذه الأيام وبصورة ملحّة: ماهو سر قوة بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات العامة، الأمين العام للأمن الوطني؟ وخلفية السؤال هي أن الرجل يتحرك وكأنه يمتلك قوة استثنائية، فهو يستطيع أن يهدد الخصوم، ويعقد الصفقات الكبرى مع الكبار، ويتصرف وكأنه ينتمي الى بلد متماسك في داخله، أو أن لديه جيشاً قوياً يمكن أن يحقق الانجازات العسكرية الاستثنائية.

وهناك من حسم القضية بالقول أن الرجل يتصرف باعتبار أن بلاده الحليف المدّلل للولايات المتحدة وأن ثمة غطاءً من جهازها الفاعل السي آي أيه، وهذا يكفي لأن يهب الأمير الشرير قدرة هائلة على التصرّف كما يشاء. نتذكّر أنه في ظهوره الأخير للعلن بعد غياب طويل، جاء بصحبة مدير وكالة المخابرات المركزية الاميركية السي آي أيه ديفيد بترايوس، والتقيا مع الملك عبد الله في جدة، ثم بعد يومين من اللقاء صدر القرار بتعيينه رئيساً للاستخبارات العامة.

منذ ذلك الوقت، بدأ يمسك بملفات المنطقة خصوصاً في بلدان الربيع العربي: مصر، وسوريا الى جانب مهماته القذرة في العراق ولبنان. أوهم الأميركيين وغيرهم بأنه حقق انجازات كبيرة سواء في لبنان باسقاط حكومة ميقاتي، أو في مصر باسقاط حكومة الاخوان، وبعد إمساكه ملف سوريا، اعتقد بأنه بات قوسين أو أدنى من اطاحة نظام بشار الأسد.. ولذلك راح يبشّر ويقايض ويقامر بما يعتبره انجازات سعودية تحققت بفعل خوارقه.

حسناً، ما ظهر مؤخراً في ملف الأزمة السورية وبعد إفشال الروس بالاتفاق مع الأميركان لمخطط الحرب كان دليلاً على فشل ذريع لكل استراتيجات بندر. في حقيقة الأمر، أن الأخير لم يحقق في الملف السوري ما يمكن اعتباره انجازاً، فقد خسر في القصير حلماً كبيراً بحجم لبنان وسوريا.

ولنتوقف هنا عند دلالات المبادرة الروسية وانعكاساتها على الدور السعودي في سوريا..

فمن المعروف أن بندر بن سلطان هو مسؤول الملف السوري بعد نقله من قطر، وكونه الأقرب الى الادارة الأميركية فقد كان من المفترض أن يكون بندر بن سلطان أول من يعلم بنوايا الأميركيين، ومخططاتهم. ولكن الذي تبيّن هو أن السعودية وجدت نفسها كالأطرش في الزفة، فقد تجاهل الرئيس الأميركي باراك أوباما حليفه السعودي الذي كان يدفع ويشجع ويحشد باتجاه الخيار العسكري في سوريا، وإذا بالأميركي يتفاوض في السر من أجل إنجاح طبخة المبادرة المشتركة الروسية الأميركية للحيلولة دون اندلاع حرب شاملة في المنطقة. لابد أن يغضب الأمير بندر حين يعلم بأن طهران، الخصم التقليدي والعنيد للرياض، كانت على دراية بأصول الصفقة الروسية والاميركية وترتيباتها فيما هي تعيش في عالم آخر.

وهنا ينبعث القلق السعودي مجدداً من أن هذه المبادرة أو بالأحرى الصفقة الروسية الاميركية بتوافق مع الايرانيين قد يفتح الباب أمام صفقة اميركية ايرانية، وحينئذ تكون السعودية قد خسرت الرهانات جميعاً. لاشك أن آل سعود كانوا يرقبون جولة سلطان علمان قابوس بن سعيد الى ايران وما حمله معه للقيادة الايرانية وما قد يترتب عليها في ملف العلاقات الايرانية الاميركية. وهذا يكشف المكانة الحقيقية لآل سعود في الاستراتيجية الأميركية، حيث لم يكترث أوباما لرغبات بندر ولا من يعلوه رتبة وحتى الملك طالما أن هذه الرغبات تتعارض مع المصالح الحيوية لواشنطن، وبالتالي إذا ثبت أن هذه المصالح لا يمكن الحفاظ عليها في ظل وجود آل سعود، فلن يتردد الاميركيون في إزالة بندر وأعمامه وإخوته وكل آل سعود من الخارطة.

لا تتوقف الخسارة السعودية عند هذا الحد، فإن المبادرة الروسية الاميركية لا تعني فقط تسوية بخصوص أزمة السلاح الكيميائي، بل ما تعكسه على الميدان قبل المبادرة وبعدها، فقد أصابت معنويات فريق المعارضة السورية الحليف لآل سعود في مقتل، وإن كل ما سوف يعمله بندر وأخوه الأمير سلمان بن سلطان، نائب وزير الدفاع الحالي، هي محاولة لتعويض الخسارة الفادحة التي تكبّدتها المعارضة سياسياً ونفسياً، وسوف تترك تداعياتها على الوضع الميداني.

في حقيقة الأمر، أن المبادرة الروسية الاميركية قوّضت حلماً لدى بندر بتغيير قوانين الاشتباك، لأن العجز الميداني أريد تعويضه بالضربة الأميركية المنتظرة، وهذا ما لم يحصل، وحينئذ فإن فرص تغيير شروط اللعبة باتت ضئيلة إن لم تكن شبه معدومة.

من الواضح، أن السعودية هي الخاسر الأكبر في المبادرة الروسية الاميركية، ولهذا السبب، ربما، امتنع آل سعود عن اصدار بيان يرحب أو حتى يستنكر المبادرة الروسية، خشية إثارة حفيظة الادارة الأميركية، التي باتت على اطلاع كامل حول حقيقة ما جرى في الغوطة الشرقية وفي منطقة جوبر على وجه التحديد.

في النتائج، ليس هناك أرباح تذكر يمكن أن يجنيها بندر بن سلطان من الأزمة السورية، وأن ما خطّط له من أجل كسر تحالف الروسي السوري عن طريق التقديمات المغرية أمام الرئيس الروسي بوتين انقلبت خازوقاً وجّهه الأخير لبندر عبر مبادرة روسية متقنة بتوافق اميركي وايراني.. وقد تمهد المبادرة لتسويات شاملة في ملفات المنطقة قد تأتي على ما تبقى من أوهام بندر وبطولاته الفارغة.

الصفحة السابقة