الدولة القياسيّة

انهمرت الأرقام القياسية على المملكة كالسيل العرم، فلا يكاد يعلن عن رقم قياسي تحرزه الأخيرة حتى يليه آخر، وكأن ثمة إتفاقاً بين تكتل من المؤسسات الدولية المعنية بتقديم أرقام قياسية في وقت واحد..

ولكن مهلاً، فالرقم القياسي لا يعني بالضرورة انجازاً، فهو في بعض الاحيان يتحوّل الى ورم. بمعنى آخر، أن الهوسُ بحيازةِ الأرقامِ القياسية قد لا يضمرُ خيراً في أحيان كثيرة، خصوصاً حين تأتي متضاربةً مع أرقامٍ نشرت قبل ذلك بفترة قصيرة، ما لم تتدخل السماءُ في إحداث تغيير دراماتيكي أو خارقٍ فوق بشري كيما يجعل التصديقَ به ممكناً..

وبات من المعلوم بالضرورة، أن حكومةُ المملكة السعودية دأبت على اختراق عدد من المنظمات الدولية المعنية سواء بقياس وضع اقتصادي أو اجتماعي أو استطلاعات الرأي العام من أجل تحسين صورتَها على مستوى العالم..

ما يلفت الانتباهَ مؤخراً، أن منظماتٍ عاليةٍ الثقة قدّمت معطياتٍ رقميةٍ حول المملكة بطريقةٍ تسيءَ الى مصداقية هذه المنظمات وفي أحسنِ الافتراضات أن المعطياتِ الجديدةِ جاءت مواربةً، ويُشَمُ منها رائحةُ النفط..

فمثلاً، كانت المملكةُ مصنّفةً في أدنى السلم في مجال المستوى المعيشي للمواطنين، وقد تُفاجَىء بصعودِ المملكةِ في القائمةِ برغم من أن لا جديدَ لافتٍ في الأوضاعِ المعيشية للمواطنين..

مجلةُ (فوربس) المعنيّةُ بشؤون القادة والاثرياء في العالم، كانت قد واجهت أزمةً مع المملكة بسبب نشرها لمعطيات حول الثروة المالية للملك عبد الله، وتمَّ منعُ العدد من دخول الاسواق السعودية، ولكن المجلةَ سلكت دربَ السلامة بتغييرِ معاييرها في تقييمِ القادة، وكان واضحاً أن المعاييرَ جاءت متخالفةً مع معاييرِ سابقة..ولكن تكفينا الحكمةُ العربيةُ: تحدّث السيفُ فاسكت أيها القلمُ.

على سبيل المثال، كشف تقرير معهد بحوث كريدي سويس السنوي الرابع للثروات على مستوى العالم 2013، نمو إجمالي الثروات العائلية حول العالم بـ 4.9 بالمائة بالقيمة الحالية للدولار بين منتصف عام 2012 ومنتصف عام 2013، ليصل إلى 241 تريليون دولار، على الرغم من التحديات المتواصلة التي تفرضها البيئة الاقتصادية. وعلى صعيد إجمالي الثروة، في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أشار التقرير إلى أن الثروات العائلية في السعودية احتلت المركز الأول بما يقدّر بـ 600 مليار دولار، تلتها مباشرة الإمارات بنحو نصف تريليون دولار. واحتلت مصر المركز الثالث بنحو 400 مليار دولار.

وذكر تقرير اقتصادي في بداية أكتوبر الماضي، أن الإنفاق العسكري السعودي خلال العام 2012 كان الأعلى على مستوى العالم مقارنة بحجم اقتصادها، حيث بلغ 56.7 مليار دولار. وكان التعليق الأشهر في هذا الصدد أن حجم الانفاق العسكري لا يعني استقلال قرارها العسكري أو اعتمادها على قدارتها الذاتية وجيشها الوطني كما هو حال تركيا وايران وحتى اسرائيل، بل على العكس تشتري هذه الاسلحة بأكلاف عالية ولكن حين تقع الحرب يتولى الأجنبي الأميركي والأوربي مهمة الدفاع عن العرش!

وهناك أرقام قياسية ولكن مخزية. خذ إليك على سبيل المثال: المملكة الأعلى عالمياً في الوفيات الناجمة عن حوادث السيارات. ولابد أن تضاف اليها معلومة أخرى وهي أن طرق المملكة هي الأكثر خطورة على مستوى العالم..

رقم قياسي آخر، أن المملكة هي الثالث عالمياً في التحرّش بالنساء. وهذا يكشف عن فشل دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحفاظ على القيم الأخلاقية وبناء مجتمع الفضيلة. فقد ثبت أن دور الهيئة إن كان متعلقاً بالضبط الاجتماعي فهو لا محالة فاشل، وإن كان لأمر آخر يتعلق بضبط السلطة السياسية عن طريق الدين، فهذه على وجه الدقة الحفرة التي وقعت فيها الهيئة. ولا غرابة تأكيد الأمراء، بمن فيهم من عرف بمجونه وانحرافه الاخلاقي، على دور الهيئة، لأنه مصمّم لأغراض سياسية..

ينضاف الى ما سبق، المعطيات الصادمة الواردة في دراسة أجراها معهد غالوب الدولي حول نسب الإلحاد في العالم بعنوان (مؤشر عام حول الدين والإلحاد) وتمّت الدراسة في عام 2012 وشملت 40 دولة، وقامت صحيفة (واشنطن بوست) بنشر نتائج الدراسة في يونيو الماضي، حيث كانت المفاجئة أن المملكة كانت الأعلى نسبة في موضوع الإلحاد على مستوى العالم الإسلامي، وأن نسبة الملحدين فيها تضاهي نظيرها في بلد أوروبي متقدم مثل بلجيكا. وقد رد مراقبون دواعي الإلحاد في السعودية الى تطبيق الإسلام بطريقة متشدّدة.

أن تحرز المرتبة الأولى لايعني دائماً إنجازاً، فقد يكون فضيحة، وفي دولة يزعم مشايخها بأنها الوحيدة التي تطبق الشريعة الإسلامية، أو أنها الدولة الدينية الوحيدة على مستوى العالم، فإن تصدّرها أعلى نسب التحرّش للنساء، وأعلى نسبة إلحاد على مستوى العالم الاسلامي ينطوي على دلالات خطيرة، فإذا كنا نتحدث عن فشل المشروع السياسي للدولة، فإن الفشل ينسحب الآن على مشروعها الديني أيضاً..

كانت الحكومة فيما مضى قلقة من كونها دائماً تأتي في مؤخرة قوائم الدول على مستوى الجامعات، وحقوق المرأة، والحريات العامة، فاختارت طريقاً مقلوباً في تصدّر القوائم، فصارت تنال أولى المراتب في الفساد المالي، وتجارة الموت..الخ

لم نسمع عن تصدّر السعودية في مجال البحث العلمي، ولا في الإنجاز التقني ولا مستوى التصنيع بكل أشكاله، ولا في سرعة الانتقال نحو الديمقراطية، أو في توفير شروط الحكم الرشيد، أو في مستوى الشفافية، والرقابة على المال العام، وفي تطبيق القانون، وفي العادلة، وفي وفي.. فهي دولة قياسية ولكن عكسياً.

الصفحة السابقة