بعد فشل رهان الحرب

آل سعود وبداية الإستدارة الحذرة

محمد قستي

نضبت خيارات القوة، وانتهت المهل الزمنية التي أعطيت لفريق الحرب في المملكة السعودية من أجل تحقيق أهدافه. والحاصل النهائي: تركة من الخصومات، خسائر هائلة في الارواح، تمزق الروابط مع الجوار الإقليمي، تفشي الارهاب على نطاق واسع، وتهشّم عميق للبنى النفسية والثقافية والعقلية في سوريا والعراق ولبنان وليبيا والبحرين، والى حد ما مصر واليمن.

وإذا كان ثمة من أهداف تحققت نتيجة انغماس أمراء الحرب السعوديين في البلدان سالفة الذكر، فإن الفوضى بكل أبعادها الأمنية والسياسية والنفسية والثقافية والقومية وحدها التي تحقّقت، إذ يمكن القول أن فريق بندر بن سلطان نجح في تقويض ما تبقى من آمال معقودة على انبعاث مشروع الأمة، على قاعدة قومية أو دينية. فالمال السعودي وضع طيلة السنوات الثلاث الماضية في خدمة مشروع تعزيز وتعميق الانقسام في الأمة، وبات الضياع على المستوى الاستراتيجي وحده السّمة الغالبة في الشرق الأوسط.

لم تخرج السعودية من معاركها رابحة، ولم تعمل في الأصل وفق هذا المبدأ، وإنما كانت تستهدف تعطيل مفاعيل الانتقال الديمقراطي وإن أفضى الى شيوع الفوضى في كل أرجاء المنطقة. بكلمة أخرى: (أرادت أن تكون الخسارة عامة).

مهما يكن، فإن الأمور في المنطقة بلغت خواتيمها، بعد أن طاولت المصالح الاستراتيجية للقوى الكبرى، والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم، فكان لابد من تسويات، ما فرض على المملكة السعودية مراجعة عاجلة، حتى لا تغرق في أزمات شاركت في صنعها ولا خروج منها دون تضحيات.

كان التباين الظاهري بين واشنطن والرياض في ملفات المنطقة (العراق، سوريا، ايران، لبنان) يجري في الهامش المسموح أميركياً في المرحلة السابقة، ولكن الطرق المسدودة في أكثر من محطة، دفعت الإدارة الاميركية للتدخل السريع إن شاءت الانتقال السلس والمريح الى المناطق الواعدة استراتيجياً واقتصادياً، خصوصاً في الشرق الأقصى.

وهبت واشنطن حليفتها، أي الرياض، الغطاء والفرص كيما تخوض معاركها على مساحة واسعة من الشرق الأوسط، طالما أن المال والدم من غيرها، فيما تجني هي من حروب تندلع على غير أرضها ويشارك فيها عناصر من غير أبنائها.

وكانت سوريا بالنسبة للسعودية بوابة لتغيير معادلة إقليمية ودولية، ولذلك حشدت كل ما تملك من ذخيرة مالية وعسكرية ودينية واجتماعية واستخبارية من أجل الفوز بالغنيمة السورية، مهما كلّف الأمر.

مصادر أميركية ذكرت بأن بندر كان يستخدم سوريا رهاناً لمستقبله السياسي في معادلة السلطة في المملكة، ويرى بأن انتصاره في الميدان السوري المعبر الكبير الى العرش. فمنذ تسلّمه الملف السوري في تموز 2012، كان يعمل على تحقيق (مشروع العمر)، أي اطاحة نظام بشار الأسد، ليكون ثمنه تمهيد السبيل الى الاندراج في خط الوراثة، كما كان يحدّث نفسه ذات لقاء مع أحد كاتبي سيرته.

ما جرى، منذ تولّيه الملف السوري، أن سلسلة مخططات عسكرية قام بندر بالإشراف على تنفيذها عبر منافذ لبنان وتركيا وأخيراً الأردن لجهة إحداث إختراق ميداني يؤول الى سقوط العاصمة السورية، دمشق. فكانت النتيجة: حشود ضخمة من عناصر القاعدة في المحافظات السورية كافة، دمار هائل في أرجاء سوريا، وارتفاع حصيلة الضحايا من المدنيين. أي بكلمات أخرى، فشل الخيار العسكري وبروز الحل السياسي كبديل لا مناص منه لإنهاء الأزمة السورية. وهنا بدأ الافتراق الإميركي السعودي الذي طاول أكثر من ملف شرق أوسطي.

أبلغ الأميركيون حلفاءهم السعوديين بأن موضوعين حان الوقت لرفع أيديهم عنهما، ولا يمكن الاستمرار فيهما الى ما لا نهاية، بسبب تداعياتهما على المصالح الاستراتيجية للغرب عموماً، وعلى أمن الدولة العبرية على وجه الخصوص:

ـ الموضوع السوري: أُعطي بندر ما يكفي من الفرص في سوريا لحسم المعركة وتغيير موازين القوى في الميدان، وبعد نحو سنتين من الاشتباك الميداني الشامل، لم يعد هناك إمكانية للاستمرار، بعد أن أخفقت المخططات العسكرية، بل ثمة خطر نجم عن الانخراط السعودي الشامل في الأزمة السورية، تمثّل في بروز خطر القاعدة وتهديدها للأمن العالمي.

ـ الموضوع اللبناني: تعطيل المسار اللبناني نحو تشكيل حكومة جامعة، أو العمل على فرض حكومة أمر واقع يعنيان تفجير الوضع الأمني وانفلاته، ما قد يمنح القاعدة ساحة أخرى للقتال وتهدد بانفجار الارهاب على نطاق واسع. كما أبلغت الادارة الاميركية الرياض بأن من غير المملكن السير في خيار التعطيل، وإن مواصلة استفزاز حزب الله قد يدفعه الى تبنّي خيارات راديكالية لن تكون في صالح السعودية ولا حلفائها في لبنان.

طار السفير الأميركي في بيروت ديفيد هيل الى باريس في 18 كانون الثاني (يناير) الماضي للقاء زعيم تيار المستقبل سعد الحريري، عقب يوم من إطلاقه تصريح حول استعداده للمشاركة في حكومة ائتلافية يشارك فيها حزب الله. لم يكن التصريح ولا اللقاء عفويين، بل ثمة متغيرات فرضت نفسها منها ما هو مرتبط بتبدّل في الوجوه، حيث يخلي بندر بن سلطان موقعه في الملف اللبناني لصالح اللجنة الخماسية المؤلفة من (عبد العزيز بن عبد الله ـ نجل الملك، وعبد العزيز خوجة ـ السفير السعودي السابق في لبنان ووزير الاعلام والثقافة الحالي، والأمير مقرن بن عبد العزيز ـ النائب الثاني ورئيس الاستخبارات العامة السابق، والسفير السعوديي الحالي في لبنان ـ علي عواضه عسيري، والامير محمد بن نايف ـ وزير الداخلية الحالي) الأمر الذي انعكس في هيئة انفتاح سياسي داخلي ومرونة في المواقف لدى فريقي 8 و14 آذار.

قد تفيد هنا الإضاءة على معادلة شطح ـ الماجد. تتحدث مصادر سياسية لبنانية عن رسائل أمنية بين واشنطن والرياض على الساحة اللبنانية في نهاية العام المنصرم. قضى الوزير محمد شطح، المحسوب على الخط الأميركي في لبنان، في تفجير انتحاري، فوقع بعد ذلك بأيام قليلة متزعم كتائب عبد الله عزام ماجد الماجد، المقرّب من بندر بن سلطان، في قبضة مخابرات الجيش اللبناني. وبصرف النظر عن الرسائل الاستخبارية المتبادلة بين بندر بن سلطان وحليفه اللدود السي آي أيه، فإن ثمة تداعيات واضحة للحادثتين، فقد أربك اغتيال شطح المسار الاميركي على الساحة اللبنانية، كما أربك وبشكل كبير وقوع الماجد، الصيد الأمني الخطير والثمين، المسار السعودي الى حد انكشاف العلاقة بين الاستخبارات السعودية وكتائب عبد الله عزام، ما دفع أكثر من جهة، بما في ذلك ايران التي تعتبر نفسها معنيّة بمعرفة حقيقة الموت المفاجىء للماجد، المسؤول عن تفجير السفارة الايرانية، لإثارة عاصفة من الاسئلة حول موت الماجد بصورة غامضة، وإصرار السلطات السعودية على استعادة جثته على وجه السرعة لدفن أسراره مع جثته.

في النتائج، السعودية بدأت عملية استدارة سياسية، ولكن لن تتم هذه بصورة دراماتيكية وشاملة، بل تستغرق زمناً، وتتطلب تغييراً في الوجوه المسؤولة عن الحصاد المر.

التشدد السعودي في الملف السوري ذو طابع سياسي محض، وليس هناك من تعارض بين واشنطن والرياض في ذلك، كما لا يتعارض تشدّد السعودية في الملف السوري مع المرونة الحذرة في الملف اللبناني.

فقد سمع الوزير اللبناني وائل أبو فاعور، عضو كتلة النضال الديمقراطي بقيادة النائب وليد جنبلاط، كلاماً مختلفاً من السعوديين هذه المرة. أبلغوه بوضوح بأن لا مانع من تشكيل حكومة جامعة يشارك فيها حزب الله، ولكن لن تتدخل السعودية لتسهيل مهمتها، فهو شأن لبناني داخلي.

في ملف التسوية في الشرق الأوسط، عرض جيم كيري، وزير الخارجية الاميركية، على السعودية مقايضة سوف لن يكشف عن تفاصيلها في وقت قريب. المقايضة تقوم على تغطية السعودية سياسياً وأمنياً إزاء استهداف المجتمع الدولي لها، إذ بات ينظر اليها باعتبارها الدولة الراعية للإرهاب، والمسؤولة عن تفشي القاعدة بفروعها كافة.. في مقابل توفير الدعم السياسي والمالي لعملية التسوية الأميركية المقترحة للصراع الاسرائيلي الفلسطيني، تشتمل على بند التنازل عن مبدأ حق العودة.

نستدعي هنا العرض الذي حمله الأمير عبد العزيز نجل الملك عبد الله في زيارته لدمشق في بداية الأزمة السورية، حين عرض على الرئيس السوري ثلاث نقاط مقابل وقف الحرب على النظام: فك التحالف مع ايران، ووقف دعم حزب الله، والتخلي عن مبدأ حق العودة. بصرف النظر عن حقيقة الاجابات التي سمعها المبعوث السعودي، فإن استمرار الأزمة في سوريا يشي بإجابة سلبية حملها الأمير عبد العزيز بن عبد الله معه الى الرياض.

كيري في لقائه العاهل السعودي في الرياض في 5 يناير الماضي كان يهدف وبصورة محددة أن يحظى بدعم المملكة لمبادرته للسلام في الشرق الأوسط. استعمل كيري في تصريحه عبارة لافتة حين قال بأنه لمس حماسة عالية لدى القيادة السعودية في هذا الشأن.

ما يظهر، أن ثمة دفعة مستعجلة على السعودية الالتزام بها في ملف الصراع الاسرائيلي الفلسطيني حتى لا يطالها العقاب الدولي في موضوع الارهاب. ولا غرابة حينئذ في إصرار السعودية على رفض مناقشة ملف الارهاب في جنيف 2 والاكتفاء بطرح الحكومة الانتقالية في سوريا.

الجديد في استدارة السعودية الحذرة أنها تنظر باهتمام لمفاعيل جنيف 2 وما سوف يسفر عنه من نتائج، كما تنظر الى ما يمكن أن تصل اليه المفاوضات بين ايران والغرب في الملف النووي.

لحظ المعنيون بملفات المنطقة كيف أن المرونة السعودية العابرة في لبنان ما لبث أن تبدّلت الى تشدد بالرغم من أن القيادة السعودية والرئيس الروسي فيلادمير بوتين كانا اتفقا على تسهيل مهمة جنيف 2 وإقناع المعارضة والحكومة في سورية على الدخول في مفاوضات مباشرة وجديّة لحلحلة الازمة، وهو ما انعكس بصورة ايجابية على ملف تشكيل الحكومة في لبنان، وبدت مرونة سعد الحريري في تسهيل عملية التأليف دليلاً على أن السعودية بدأت مرحلة الاستدارة. ولكن ما إن ظهر من الجولة الأولى في جنيف 2 من مؤشرات فشل الحوار، حتى تصلّبت مواقف السعودية في الملف اللبناني، وراح حلفاؤها يرفعون سقف الشروط ويتمسكون بخيار التعطيل.

لا بدّ من الإشارة الى تراجع السعودية في الملف السوري منذ أن توارت شخصية بندر بن سلطان عن المشهد السوري، وبدء خطوات إعادة التموضع، منذ صدور الامر الملكي في 3 شباط (فبراير) الجاري، والذي جاء بضغط أميركي واضح وأصبح شرطاً لزيارة الرئيس الأميركي باراك اوباما الى الرياض في نهاية مارس القادم. الأمر الملكي حمل دلالات عديدة من بينها أن لا مكان للأمير بندر بن سلطان في المرحلة المقبلة، وأن الولايات المتحدة هي من اعطى الفرص للرياض وهي الآن تضع نهاية حاسمة لها، خصوصاً بعد أن أخفق آل سعود في حسم المعركة، بل على العكس تسببوا في تفجير ظاهرة إرهاب أخذت أبعاداً دولية، فصار حال واشنطن كحال براقش التي جنت على نفسها.

الصفحة السابقة