منظرو القاعدة: ابو محمد المقدسي، الشيخ الخضير، الشيخ العلوان، ناصر الفهد

لعنة سوريا، أم لعنة الوهابية؟

المرجعية الوهابية لتنظيمات الإرهاب القاعدي

عبدالحميد قدس

تكشف المواد المرئية والصوتية المبثوثة على الشبكة لتنظيمات القاعدة مثل الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) أو (جبهة النصرة) أو الكتائب المنضوية في (الجبهة الاسلامية) عن الرابطة العقدية الوثيقة بينها وبين الوهابية. أحد الكوادر السعودية في تنظيم (داعش) يبرر قتاله الجيش العراقي بالقول في تسجيل مصوّر بـ (إننا تناحرنا معهم على لا إله إلا الله)، وهي العبارة التي تتكرر في أدبيات الوهابية واختلافها مع بقية المسلمين السنة والشيعة، على قاعدة الفهم الوهابي لمبدأ التوحيد. وتظهر في خلفية التسجيل سالف الذكر نشيدة بنبرة نجديّة واضحة، فيما يظهر قائد داعشي آخر وهو يهدّد بقطع الرؤوس.

موقع (منبر التوحيد والجهاد) وثيق الصلة بالقاعدة بكل فروعها، متخصص في الترويج لأخبار القاعدة بفروعها (داعش) و(جبهة النصرة) وغيرها.. ويحمل المنبر شعار (قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر). نشير هنا الى ما تحمله مفردتا (التوحيد) و(الجهاد) من دلالات في الوعي السلفي الوهابي، إذ يمكن العثور على عناوين ومضامين انفردت الوهابية بها. على سبيل المثال، تحت عنوان (سلسلة تصحيح المفاهيم)، يواجهنا منذ البداية الفهم الفريد لدى الوهابية لعقيدة التوحيد بأركانها الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. يلي ذلك سلسلة المفاهيم التي، رغم كونها مفاهيم إسلامية، إلى أن الوهابية أضفت عليها تفسيرها الخاص حتى باتت من خصوصياتها مثل: الولاء والبراء، والايمان والكفر، الصحابة، والبدعة والضلالة.

وفي قسم الكتب والابحاث المدرجة في الموقع (منبر التوحيد والجهاد)، يلفت الانتباه الاختيار المقصود لنوع الكتب وموضوعاتها، ومؤلفيها، إذ الغالبية العظمى منها تنتمي الى مدرسة واحدة، أي السلفية الوهابية. كما تدور عناوين الكتب حول مفهوم السنة والجماعة، والشرك والتوحيد. نقرأ عناوين مثل: (قوادح في العقيدة) للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، و(عقيدة الموحدين والرد على الضلال والمبتدعين) للشيخ عبد الله الغامدي العبدلي، و(المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد) للشيخ مدحت بن الحسن آل فراج.

ونجد في سلسلة (قمع الفتنة في مهدها) والكتاب رقم 3 بعنوان (نور اليقين).. وهو (شرح عقيدة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين) لأبي مارية القرشي، يعتمد فيه المؤلف على رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب في عقيدة التوحيد. فقد ذكر في (ص 7) نواقض الاسلام العشرة كما ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن بينها (من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفراً إجماعاً).

وأسهب في الحديث عن أنواع التوحيد الثلاثة: الالوهية والربوبية وتوحيد الاسماء والصفات، والتي يحدد على أساسها المسلم صحيح الاعتقاد من غيره. يتحدث المؤلف أيضاً في موضوعات السنة، والشفاعة، والتوسل، والنذر، والبدعة، وزيارة القبور، والايمان هل هو قول وعمل أو أحدهما.. وتتم مقاربة هذه الموضوعات من زاوية وهابية خالصة.

وقد أعاد المؤلف إنتاج كل ما قيل عن الكفر والتكفير في الأدبيات الوهابية (أنظر ص 23 وما بعدها)، وأحال الى المصادر الوهابية في التكفير مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب الى الشيوخ المعاصرين، ومن بينهم شيوخ الوهابية في القاعدة مثل الشيخ علي الخضير.

ومن الموضوعات الوهابية التي جرى مناقشتها في الكتاب موضوعة زيارة القبور والتي يطلق عليها مشايخ الوهابية عبادة القبور وأنه (مخرج من الملة) وكذلك تحكيم القوانين الوضعية. وأضاف الشيخ علي الخضير الى ما سبق بتوضيح أن ثمة موانع غير معتبرة في التكفير وهي ليست بموانع مثل: (الخوف، عدم قصد الكفر، جعل الكفر بالاعتقاد فقط، كونه من الاحكام أو العلماء أو الدعاة أو المجاهدين فيمنع من تكفيره ولو جاء بكفر صريح بواح، سوء التربية، مصلحة الدعوة أو المصالح، فما دام أنه يقصد المصلحة فلو فعل الكفر فلا يكفَّر، الهزل وعدم الجد فلا يكفَّر إلا الجاد، عدم ترتيب الأحكام أو العقوبة، فبعضهم يجعل ذلك مانعاً لمن أتى بكفر بواح، فيقول لا يكفر لأنه اذا كفرته لن تقتله ولن تخرج عليه، ومعنى كفره عدم إرثه وفراق زوجته، فلما لم يحصل ذلك فلا تكفير). (ص 24)

يقول أيضاً: (ومن نطق الشهادتين وأظهر لنا الاسلام ولم يتبلس بناقض من نواقض الاسلام عاملناه معاملة المسلمين ونكل سريرته الى الله..)، ثم يقول: (والرافضة عندنا طائفة شرك وردّة) (ص 25). ونقل في الهامش (وما يروى عن اختلاف الائمة في كفر الشيعة فهو اختلاف تاريخي في قوم لا يجمعهم بالشيعة الرافضة الا الاسم وادّعاء حب آل البيت، وقد أحسن وأجاد الشيخ علي الخضير في بيان هذه المسألة، فيقول:

(إسم الشيعة مرّ بمراحل تطوّر فيها فكان أول ما ظهر يطلق على من فضّل علياً على عثمان رضي الله عنهما، ثم من فضَّل علياً على الشيخين ابي بكر وعمر رضي الله عن الجميع، ثم ظهرت السبئية الخارجة عن الاسلام أتباع ابن سبأ اليهودي، وفي أيام زيد بن علي بن الحسين وفي خلافة هشام بن عبد الملك افترقوا الى زيدية هم أتباع زيد بن علي بن الحسين وإمامية إثني عشرية وهم الموجودون في ايران والخليج وغيره، واسماعيلية باطنية وهم موجودن في نجران واليمن والهند، ونصيرية ودروز في الشام. وأما الشيعة الذين عندهم تشيّع لعلي بن ابي طالب رضي الله عنه وآل البيت فقط وتقديم لعلي، فهؤلاء انقرضوا ولا يوجد منهم اليوم فيما أعلم أحد. والموجود اليوم هم الرافضة والاسماعيلية والباطنية والنصيرية والدروز الباطنية، وهذه الطوائف الأربع هم الذين يؤلهون آل البيت، ويستغيثون بهم وهم قبوريون فهؤلاء مشركون كفار وليسوا بمسلمين، ولا فرق بين علمائهم أو مقلديهم وجهالهم، فكلهم مشركون وليسوا بمسلمين، ولا يعذرون بالجهل في عبادتهم لغير الله). وأحال الى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التفريق بين الطوائف الشيعية المتقدمين والمتأخرين ص 26.

نتوقف هنا قليلاً، وبصرف النظر عن الموقف المذهبي إزاء حزب الله في لبنان، فإن المقالة التي كتبها حسين بن محمد بعنوان (القصير ومعركة المصير) في 28 رجب سنة 1432هـ تكشف عن نزوع مذهبي بخلفية تكفيرية ضارية، فقد قلل الكاتب من أهمية مدينة القصير وأنها (ليست بالحجم الذي يؤهلها لأن تكون ضمن المدن التي تعلّم في الخارطة)، وأنها (بعيدة كل البعد عن حدود فلسطين) ولكن كاتب المقالة اعتبر سيطرة حزب الله على القصير (ما هو إلا للحفاظ على أمن يهود). وراح يتحدث الكاتب عن الأهمية الاستراتيجية للقصير كونها مفتاح شمال غرب سوريا، وأنها تؤسس لمشروع الدولة النصيرية في بلاد الشام بدعم من الفرنسيين!

وختم الكاتب مقالته بأن كفّر النصيرية وقال: (لقد أجمع أهل العلم قاطبة على كفر النصيرية وردتهم عن الدين، فمالهم ودمهم وذراريهم حلال للمسلمين، فاقتلوا رجالهم واسبوا نسائهم وذراريهم، فكل ذلك حل لكم ابتداءً ..).

ووضع الكاتب لبنان ضمن دائرة الاستهداف بالقتل والاستباحة وهدم البيوت وقتل الأطفال وصولاً الى تحقيق الحلم (ولعل لبنان ترجع إلى أحضان الإسلام بكم ..)، أي بالمقاتلين من القاعدة!

اللغة المذهبية تبدو كثيفة الحضور وبكل الاستدعاءات السابقة المنضوية فيها، بما في ذلك رفض مشروع التقريب بين المذاهب الذي عارضته الوهابية منذ أيامه الأولى في مصر في الستينيات من القرن الماضي.

وبالعودة الى المقدسي، حيث تتواصل حفلة التكفير هذه، فيقول: (ونؤمن أن العلمانية على اختلاف راياتها وتنوع مذاهبها ـ كالقومية والوطنية والشيوعية والبعثية ـ هي كفر بواح مناقض للإسلام مخرج من الملة. وأحال في ذلك الى فتاوى علماء الوهابية مثل (مجموع الفتاوى).

وإن الكلام عن جمع الكلمة هي ليست دعوة لجمع الأضداد تحت راية علمية واحدة كدعوة أهل التوحيد والسنة وأهل الشرك (وإنما هي دعوة خالصة لأهل السنة للعض بنواجذهم على سنة نبيهم وترك الاختلاف والتنافس من أجل الدنيا..) ص 34. وعليه يرى المؤلف وجوب اجتماع الأئمة والمجاهدين خاصة تحت راية واحدة، وهي كما ورد في الحاشية (تحت إمرة دولة العراق الإسلامية) التي باتت تعرف الآن بإسم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)، وقد صادقت عليه اللجنة الشرعية لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين. وتستظل هذه الرؤية الداعشية لعقيدة التوحيد بالتصوّرات التي وضعها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما وردت في كتابه (عقيدة الفرقة الناجية).

ويقدّم الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي، أحد علماء الوهابية الذين باركوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر، شرحاً موسّعاً للعقيدة الطحاوية التي تعتنقها الوهابية، وتمثّل أحد مصادر العقيدة التوحيدية لدى تنظيمات القاعدة. والكتاب موضوع (للتنزيل) في الموقع الرسمي لـ (جبهة النصرة)، وكذلك في الموقع الرسمي لتنظيم (داعش). وينطبق ذلك على كتاب (القول الرشيد في حقيقة التوحيد) للشيخ سليمان بن ناصر العلوان، و(عقيدة الطائفة المنصورة) للشيخ عبد المجيد بن محمد المنيع، وكتاب (المختصر المفيد في عقيدة التوحيد)، و(المسائل المرضية على العقيدة الواسطية «1») و(الزناد في شرح لمعة الاعتقاد) للشيخ علي بن خضير الخضير، و(شرح العقيدة الواسطية) للشيخ محمد خليل هرَّاس، وكتاب (هذه عقيدتنا) للمنظّر القاعدي أبو محمد المقدسي، إلى جانب عشرات الكتاب التي تناولت العقيدة الوهابية في التوحيد، والتي صنّفها في الغالب شيوخ سعوديون ينتمون للمذهب الوهابي ويرجعون فيها الى الشيخين ابن تيمية وابن عبد الوهاب.

في الخطوط العريضة للعقيدة التوحيدية التي يرسمها تنظيم القاعدة بكل فروعه والتي يضعها تحت عنوان (هذه دعوتنا) تظهر الرؤية الوهابية بوضوح تام. فهذه الدعوة تقوم على الهجرة الى الله بتجريد التوحيد، والبراءة من الشرك والتنديد، والهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بتجريد المتابعة له.

وتتشكل العقيدة التوحيدية في مجمل موضوعات الإيمان، فهذه العقيدة تصبح دعوة إلى إظهار التوحيد، (بإعلان أوثق عرى الإيمان.. وإظهار موالاة التوحيد وأهله، وإبداء البراءة من الشرك وأهله). وأهل التوحيد هنا ليسوا شيئاً آخر غير أتباع المدرسة الوهابية، وأن أهل الشرك ليسوا شيئاً آخر سوى ما عداهم، بصرف النظر عن تمذهبهم الكلي (سني/ شيعي) أو تمذهبهم الكلامي (أشعري، معتزلي، ماتريدي، مرجئي، إمامي).

تأسيساً علىى هذا الإيضاح، تصبح الدعوة إلى (اللحاق بركب الطائفة الظاهرة القائمة بدين الله، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله)، ليست سوى الدعوة الى اعتناق الوهابية قولاً وفعلاً.

أبو محمد المقدسي، أحد أبرز منظري القاعدة، وهو أردني درس في الجامعات الدينية السعودية، وتحوّل الى مصدر إلهام لعدد من قادة القاعدة، بمن فيهم أبو مصعب الزرقاوي، صنّف عدداً من الرسائل والكتيبات. وفي رسالة بعنوان (هذه عقيدتنا) المدرج على قائمة الكتب المعدّة (للتنزيل) في موقع (جبهة النصرّة)، يعيد المقدسي انتاج الرؤية الوهابية في التوحيد، حيث يبدأ رسالته بالقول: (نقول في توحيد الله.. أن الله واحد لا شريك له، لا في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته). وهنا تبدو الإيضاحات والشروحات التي يقدّمها المقدّسي فيما يتعلق بالتوحيد مستمدة من كتب محمد بن عبدالوهاب ورسائله أو الشروحات التي قدّمها شيوخ الوهابية القدامى والمتأخرين. وتحدّث المقدّسي عن (الطائفة المنصورة)، كما وردت في أحاديث نبوية، وأسقطها على الوهابية ومن يعتنق عقيدتها قولاً وفعلاً، وعدّ (القاعدة) بوصفها التجسيد العملي للوهابية هي الطائفة المنصورة، على أساس أنها (تمثل أنصار هذا الدين في كل زمان، وهي طائفة مجاهدة مقاتلة، تسعى لنصرة دين الله من كل وجوه النصرة..).

وفي موضوع الكفر، أسهب المقدّسي في توزيع أحكام الكفر على المسلمين في عصرنا الحاضر، في ضوء الفهم الوهابي الحصري للإسلام، والمسلم الحقيقي. وقال (نبرأ إلى الله من ضلال مرجئة العصر، وجهمية الزمان؛ الذين لا يرون الكفر إلا في الجحود والتكذيب القلبي وحده، فهوَّنوا بذلك الكفر وسهّلوه، ورقَّعوا للكفرة الملحدين، وأقاموا الشبه الباطلة التي تسوّغ كفر وتشريع الطواغيت)، ولأنهم كذلك فإن القاعدة الوهابية التي تسع كل من لا يتبع الوهابية في تكفيرها الآخرين: من لم يكفّر كافراً أو شكّ في كفره فهو كافر، وبذلك يصبح المرجئة والجهمية كفاراً في نظر الوهابية.

لدى المقدسي تقسيمات مشتقة من الرؤية الوهابية للكفر، ويرى بأن الكفر أنواع: كفر الجحود، وكفر الجهل، وكفر الإعراض. ثم يأتي الى نواقض الاسلام كما ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وزاد عليه أهل دعوته لاحقاً، ما دفع المقدسي لأن يخلص للنتيجة التالية: (ونواقض الإسلام كثيرة، ولحوق الرجل بالكفر أسرع من لحوقه بالإسلام). وجرياً على عادة الوهابية، قسّم المقدسي الكفر الى أكبر وأصغر، وكفر قولي وآخر عملي، وراح يتفنن في سرد تلك الثنائيات الى ما هو أكبر وأصغر فطال كل موضوعات الكفر والظلم والفسق والخطأ والانحراف...الخ.

بطبيعة الحال، لا يتردد المقدّسي في إدراج أتباع الديانات الأخرى في خانة الكفّار، على قاعدة (أن كل من دان بغير دين الإسلام فهو كافر، سواء بلغته الرسالة أو لم تبلغه). وينسحب الكفر على التيارات الفكرية والسياسية التي لا تتخذ من الإسلام وفق الفهم الوهابي منهجاً ودليلاً، ويشمل ذلك كل من يدعو الى الديمقراطية، لكونها (بدعة العصر الكفرية) حسب قوله، وكذلك تكفير كل من ينتخب أناساً في السلطة التشريعية يقومون بتشريع قوانين غير دينية، ولذلك يقول (إن المشاركة في الانتخابات التشريعية عمل كفري).

ويمرر المقدّسي وعلى الطريقة الوهابية خدعة عدم تكفير أهل القبلة ولكّنه يختمها بتكفير مبطّن لغالبية المسلمين كما يكشف عنه النص التالي: (ونسمي أهل قبلتنا؛ مسلمين مؤمنين، والأصل فيهم عندنا الإسلام ما لم يأت أحدهم بناقض ولم يمنع من تكفيره مانع)، وبالعودة الى النواقض العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، يصبح من ينطبق عليهم صفة الاسلام قلّة نادرة، وهم أتباعه فحسب.

وفي عقيدة (القاعدة) كما يستمدها المقدّسي من الوهابية في دار الكفر ودار الاسلام وقاطنيها أن دار الكفر هي التي علتها أحكام الكفر وكانت الغلبة فيها للمسلمين، وأن دار الاسلام هي التي علتها أحكام الاسلام، وإن كان أكثر أهلها من الكفار.

وكذلك عقيدة الجهاد التي يرى بأنها فريضة ماضية حتى قيام الساعة، ولا يعطلها فقد إمام ولا انعدام دولة الاسلام، وهي الرؤية الوهابية الأصلية التي جرى تعديلها بعد قيام الدولة السعودية، وهذا ما أوقع المقدسي في تناقض حين حرّم (الخروج على أئمة المسلمين وأمرائهم وولاة أمرهم المسلمين وإن جاروا، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ما أمروا بالمعروف، ونرى طاعتهم واجبة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالهداية والصلاح)، ولكن في المقابل أوجب (الخروج على أئمة الكفر من الحكام الكفرة المتسلطين على رقاب المسلمين، وأنهم ارتدوا عن الدين)، ما يبعث سؤالاً حول من هم (أئمة المسلمين وأمرائهم) ومن هم (أئمة الكفر) المتسلّطين على رقاب المسلمين! الذين يكاد ينطبق عليهم كل المعايير التي وضعها المقدسي مثل: تبديل الشريعة، والتشريع مع الله، والتحاكم الى طواغيت الشرق والغرب، وتولي أعداء الله.

ويرى المقدسي قتال أئمة الكفر من المسلمين أولى، على قاعدة أن (كفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي، ولأن حفظ رأس المال مقدّم على الربح، ولأن جهاد الدفع مقدم على جهاد الطلب، ولأن البداءة بجهاد من يلوننا من الكفار أولى من جهاد من هم أبعد). وفي التعامل مع أتباع الديانات الأخرى، نرى ما قامت به داعش في دير الزور والرقّة حين دعت المسيحيين للاجتماع وتخييرهم بين الدخول في الاسلام، أو دفع الجزية، أو القتال، وهي الرؤية الوهابية الأصلية..

ومن الموضوعات المختارة في منتديات (جبهة النصرة) كتاب (البيّنة..30 سؤالاً وجواباً في باب الجهاد) ترتيب وتعليق الشيخ يسري بـن عطيـة آل صـالح، وكتاب (أصول وقواعد مهمة) للشيخ ناصر الفهد، وله كتابه آخر بإسم (واسلاماه) من داخل السجن، وكتاب (تعريف العامي بالمذهب الجامي) للشيخ حسين بن محمود، وكتاب (الجواد المسدّد) للشيخ فارس آل شويل، ورسالة (بطلان أحكام المحكمة الأمنية) للشيخ سليمان العلوان، وكتاب (التبيان في شرح نواقض الإيمان) للمؤلف نفسه، وكتاب (شيخ الاسلام ابن تيميه ونصائح لقيادات المجاهدين)، وكتاب (مراتب الجهاد للإمام ابن قيّم الجوزية)، ورسالة (هل ردة النصيرية ردة مغلظة يقتلون بعدها بلا استتابة).

وقد جمع أحد كوادر القاعدة ما نعته أصول وقواعد هامة وهي مستمدة من كتب الشيخ ناصر الفهد، وقد أوردها في رسالته الموسومة بـ (المُعين/ فهرس لأهم المسائل العلمية في التوحيد والجهاد). يفتتح تلك الأصول والقواعد من موضوعي التوحيد والشرك، حيث تبدو رسوخ المقاربة الوهابية، كمرتكز عقدي ورؤيوي، حيث يقول: أن توحيد العبادة هو الأساس في دعوة الرسل، وهو أصل الأعمال، وأن الايمان بتوحيد الربوبية لا ينفي الشرك، على قاعدة القسمة الثلاثية للتوحيد، والذي لا يكتمل الا بتوفيرها جميعاً أي: توحيد الالوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الاسماء والصفات، فإذا (انتقض بطلت جميع الأعمال ولو كثرت)، وأن (التوحيد ينتقض بناقض واحد فأكثر)، بمعنى آخر، أن كل من لا يؤمن بالتوحيد بأنواعه الثلاثة يصبح حكماً مشركاً، بصرف النظر عن مذهبه سنياً كان أم شيعياً، وإن ادعاء عدم (اختصاص الحنابلة بعقيدة دون أهل السنة والجماعة) تتناقض مع الموقف الوهابي الذي عبّر عنه شارحو كتب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، بما في ذلك الشيخ صالح بن عثيمين.

وفي رسالة بعنوان (هل ردة النصيرية ردة مغلظة يقتلون بعدها بلا استتابة) وهي رسالة مدرجة في قائمة الرسائل المختارة والمفضّلة في موقع (جبهة النصرة)، يقسّم المصنّف الردة الى نوعين بحسب المرتبة: ردّة مجردة، وردة مغلظة، وأن التوبة مشروعة في الأولى دون الثانية، بحسب ابن تيمية. بمعنى أن الردّة المجردة لا يتبعها أذى ولا حرب ولا شتم للإسلام والمسلمين، بعكس المغلّظة، وهذه لا يستتاب صاحبها ولا تقبل توبته بعد القدرة عليه، وهذا ينسحب على المذاهب الشيعية عموماً، والمذهب العلوي على وجه الخصوص.

وفي مقالة بحثية بعنوان (تعريف العامي بالمذهب الجامي) للشيخ حسين بن محمود ونشرت في كانون الثاني (يناير) الماضي، والمقالة نشرت أول مرة في قبل نحو ثلاث سنوات وأجريت عليها تعديلات كيما تتناسب الأحوال الجديدة في سوريا والمنطقة عموماً. والهدف من وراء هذه المقالة هو بعد أن قامت هذه الفرقة بتشتيت فكر كثير من الشباب وإشغالهم، فكان الخوف من انتشار الأفكار الجامية دافعاً وراء الحاجة الى التحذير منها ومن دعاتها ومنهجها.

والجامية نسبة الى محمد أمان الجامي القادم من الحبشة وقد درس في المدينة المنورة وعاش فيها حتى وفاته قبل نحو عشرين عاما، وقد عرف عن الجامية علاقتها بالحكومة وبوزارة الداخلية في مقابل مشايخ الصحوة الذين أسّسوا لفكر القاعدة، من بينها رفض دخول النصارى جزيرة العرب، والمطالبة بإعادة أسلمة الدولة. وكان للجامية دور في مرحلة الجهاد الأفغاني، وكانوا يشدّدون على الجانب العقدي وأن الأفغان مشركون قبوريون، وأن قادة الجهاد الأفغاني مختلو العقيدة ومتورطون مع قوى أجنبية.. واعتبرت الجامية بأنها (إبنة المخابرات السعودية).

البحث عن الجاميّة اشتمل على دفاع عن أبرز شيخين في تيار الصحوة وهما سفر الحوالي وسلمان العودة، من بين مشايخ آخرين كانت لهم مساهمات جوهرية في إعداد الأيديولوجية الجهادية التي رجع اليها قيادات تنظيم القاعدة في وقت لاحق.

وهكذا نلاحظ مما تقدّم، بأن تنظيمات القاعدة، بل كل التنظيمات السلفية في سوريا سواء في داعش او النصرة او القاعدة الأم او الجبهة الإسلامية إنما تعود في فكرها الى المخزون الوهابي، وما كتبه مشايخ الوهابية القدماء والمعاصرين، كما أن أفعال هذه الجماعات الشنيعة مؤسسة فكرياً لأن الآخر مجرد كافر، يجوز قتله وقطع رأسه والنزو على زوجته، وذبح أطفاله وسلب أمواله. لا نعجب من ممارسات القاعدة وفروعها، لأن الفكر الذي يحمله أعضاؤها والمنتج سعودياً نجدياً وهابياً هو الذي يبرر لها ذلك. وتالياً فإن مقاتلة القاعدة لا يتم إلا بمحاربة الفكر الذي تشرّبت به واعتنقته وتريد قسر الأمة عليه، وذبح من يعترضها.

الصفحة السابقة