الإتفاقية الأمنيّة الخليجية

تحالف المستبدين!

مهما بلغت خلافات شيوخ الخليج في السياسة الخارجية، فإن إجماعاً فولاذياً يسود
الاتفاقيات الأمنية. هذه خلاصة ما يمكن أن يخرج به أي مراقب لردود فعل الشارع الخليجي


محمد قستي

في قراءة إجمالية لمسيرة مجلس التعاون الخليجي منذ نشأته أواخر سنة 1981، كان الملف الأمني الأكثف حضوراً في مداولات قادة دول المجلس ووزراء داخليتها. وحين تعقد مقارنة بين الانجازات التي تحقّقت في الملف الأمني والملفات الأخرى الاقتصادية والثقافية والتشريعية، يتبين أن مجلس التعاون كان مجلس أمن بامتياز. وحتى درع الجزيرة تبدّلت وظيفته من قوة عسكرية لمواجهة الأخطار الخارجية، الى قوات مكافحة الشعب، وجهاز قمعي لمواجهة الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالديمقراطية.

لم يحقق المجلس مسيرة التعاون بالمفهوم الشامل والأوسع، وبقيت الوصفة الأمنية لمشكلات الخليج وحدها الراجحة والمتوافرة. وحتى حين طرحت فكرة الاتحاد الخليجي، جرى تقديمها من زاوية أمنية، وكرد فعل على هواجس أمنية حقيقية أم متخيّلة نتيجة تداعيات الربيع العربي. حينذاك، بدأ الحديث عن نادي المستبدين الذي ضمّ الى جانب دول ملجلس التعاون الخليجي الاردن والمغرب.

مطالعة متأنية لمواد الاتفاقية الامنية الخليجية التي تمّ التوقيع عليها في 28 نوفمبر 1994 يتبيّن أن الاتفاقية الجديدة تشتمل على أخطار مباشرة على أمن الأفراد وحرياتهم. فبينما وضعت المواد من 27 ـ 40 شروطاً تفصيلية على تبادل المطلوبين والمتهمين، حيث وضعت المادة (28)، شرطين الأول: إذا كانت الأفعال المنسوبة للمتهم حسب وصفها في قوانين وأنظمة الدولة الطالبة تشكل جريمة من جرائم الحدود أو القصاص أو التعزير ، أو جريمة معاقبا عليها بعقوبة مقيدة للحرية لا تقل مدتها عن ستة أشهر. والثاني: إذا كان الحكم الصادر من الجهات القضائية في الدولة الطالبة حضورياً أو غيابياً في جرائم الحدود أو القصاص أو التعزير أو عقوبة مقيدة للحرية لمدة لا تقل عن ستة أشهر، فيما نصّت بنود المادة (30) على عدم السماح بالتسليم في حالات مثل: إذا كانت الجريمة سياسية وتعني»جرائم خيانة الوطن والتخريب والإرهاب وجرائم القتل والسلب والسرقة المصحوبة بأعمال الإكراه سواء ارتكبت من قبل شخص واحد أو عدة أشخاص”، (ب): كل تعد مادي على رؤساء الدول الأعضاء أو أصولهم أو فروعهم أو زوجاتهم، (ج): جرائم الاعتداء على أولياء العهد وأفراد الأسر المالكة أو الحاكمة والوزراء ومن في حكمهم في الدول الأعضاء.

تشتمل الاتفاقية الحالية النافذة على 40 مادة بينما تشتمل الاتفاقية الامنية الجديدة على 20 مادة، ولكنها أسوأ من الحالية..

السعودية هي من كانت تتحرك لإقناع بقية الدول الاعضاء في المجلس بالتوقيع على الاتفاقية، وكأن الأخيرة همّاً سعودياً خالصاً..

في الاتفاقية القديمة ليس هناك نص يتعلق بالاستعانة بأي قوة من قوات دول الخليج من قبل أي دول طرف في الاتفاقية الامنية الخليجية، بينما في الاتفاقية المقترحة هناك نص صريح على ذلك. فقد جاء في المادة (10) ما يلي:

تعمل الدول الأطراف بشكل جماعي أو ثنائي، على تحقيق التكامل الفعلي للأجهزة الأمنية والتعاون الميداني فيما بينها، وتقديم الدعم والمساندة ـ في حالة الطلب ـ لأي دولة طرف، وفقا لظروف الدولة والدول الأطراف المطلوب منها، وذلك لمواجهة الاضطربات الأمنية والكوارث.

تعتبر هذه المادة بمثابة حجر الزاوية في الاتفاقية الامنية والتي يمكن أن تختصر بقية المواد.

تقليص المواد من 40 الى 20 لم يكن في صالح المواطن الخليجي، بل يتضمن الغاء كل الضمانات التي تراعي أوضاع الدول الأطراف التي تتعارض مواد الاتفاقية مع موادها الدستورية وخصوصاً الكويت وهذا يوميء الى خطورة الاتفاقية.

من الملاحظات أيضاً أن هناك مواد في الاتفاقية الجديدة هي في حقيقة الأمر تجميع لعدة مواد في الاتفاقية القديمة فجمعت في مادة واحدة.

ملاحظة أخرى: ثمة غموض في بعض المواد كما جاء في المادة السادسة:

تعمل الدول الأطراف، قدر الإمكان على الآتي:

أ ـ تبادل المعلومات والخبرات التي من شأنها الإسهام في تطوير سبل منع ومكافحة الجريمة على اختلاف أشكالها وأنواعها، لاسيما الجريمة المنظمة عبر الوطنية المستجدة، وتقديم الدعم الفني في جميع الشؤون الأمنية بما يحقق التكامل المنشود.

ب ـ توحيد القوانين الأنظمة والإجراءات بما يكفل مكافحة الجريمة بمختلف أشكالها وأنواعها، تحقيقا لأمن الدول الأطراف.

فعبارة) عبر الوطنية المستجدة( شديدة الغموض، وتتطلب خبراء قانونيين ولغويين لفك ألغاها، لأنها قد تكون مفتوحة على تفسيرات عديدة.

الأمر الآخر، أن توحيد الانظمة والقوانين يعني تحويل دول مجلس التعاون الخليجي الى فضاء مشترك لعمل الاستبداد الجماعي الذي قد يعطّل مسار التطور السياسي وحركة الاصلاح في بعض الدول الخليجية التي لديها تجربة عريقة نسبياً في الديمقراطية..

تفرض الاتفاقية المعمول بها حالياً قيوداً على مطاردة المطلوبين أمنياً واختراق الحدود بينما الاتفاقية الجديدة ترفع القيود كافة.

المادة (20) من الاتفاقية الحالية تنص على أن يراعي عند استعمال المطاردة ما يلي:

أ/ أن تحمل سيارات أو زوارق المطاردة الشعار الرسمي وأن تكون مميزة.

ب/ ألا يزيد عدد السيارات المطاردة عن ثلاث ولا يزيد عدد الزوارق عن زورقين.

ج/ ألا يزيد عدد أفراد دوريات المطاردة البرية عن اثني عشر شخصا ولا يزيد أفراد المطاردة البحرية عن الطاقم المسجل للزورقين.

د/ أن لا يكون تسليح الأفراد والسيارات والزوارق تسليحاً خفيفا وفقا لما يتفق عليه وزراء الداخلية.

الاتفاقية الحالية المقترحة تفرد مادة فضفاضة ومفتوحة على معان عديدة، ما يجعل توظيفها لأغراض متعددة أمراً وارداً بل وارجحاً. فمثلاً، فإن استعمال كلمة (تعدي)، وهي مفردة ذات دلالة كبديل عن حق النقد وحرية التعبير ينطوي على نيّة مبيّة لاستخدام عقوبة قاسية ضد الافراد الذي تندرج اعمالهم ضمن وصف (التعدي).

ولابد من التذكير بالخلفية الامنية للإتفاقية السارية المفعول حالياً، فقد جاء في مشروع قانون بالموافقة على الاتفاقية الامنية بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ما يلي:

(رغبة في المحافظة على أمن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي وتحقيق اكبر قدر من التعاون من اجل المساهمة الفاعلة في مكافحة الجريمة بجميع اشكالها وصورها ورفع كفاءة الاجهزة الامنية فقد تم بتاريخ 2012/11/13 التوقيع على الاتفاقية الامنية بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وتم اعتمادها خلال اعمال الدورة الثالثة والثلاثين والتي عقدت في مملكة البحرين خلال الفترة من 24 - 25 ديسمبر 2012).

مثل هذا النص المفتوح يمنح الدول الاطراف منفردة ومجتمعة الحق في استخدامها بطرق مختلفة بحسب المصلحة، فتحقيق الامن والاستقرار من وجهة نظر الدول الاطراف قد يعني أشياء كثيرة منها مصادرة الحريات، وقمع النشاطات السلمية، وحرية التعبير، وحق التجمع، وقد يعني أيضاً تعطيل القوانين إذا تطلب الأمر، بحجة أن ذلك يعرّض الأمن والاستقرار، بل قد يصنف الناشطون في خانة المجرمين أيضاً كما تفعل السلطات السعودية التي توجّه اتهامات جنائية للناشطين السياسيين والمدافعين عن حقوق الانسان..

نصوص مواد الاتفاقية تنطوي على إضرار واضح بالحريات العامة، وبحقوق المواطنين عامة. فقد نصّت (المادة 2) من الاتفاقية على ما يلي: (تتعاون الدول الاطراف فيما بينها، لملاحقة الخارجين على القانون او النظام، او المطلوبين من الدول الاطراف، ايا كانت جنسياتهم، واتخاذ الاجراءات اللازمة بحقهم). نصٌ يحمل دلالات خطيرة، فعبارة (الخارجين على القانون والنظام) كفيلة بتفسير كل ما سواها من مواد، وبالتالي فإن كل طلاّب الحرية، والمناصرين للديمقراطية والاصلاح السياسي وقوى التغيير مندرجة تلقائياً في خانة الخارجين على القانون والنظام.

في (المادة 3) قطع الطريق على أي تعاون بين أنصار الديمقراطية على مستوى دول مجلس التعاون. فبينما يحق لحكومات دول المجلس التعاون فيما بينها في ما يضمن أمنها واستقرارها، فإن الاتفاقية الامنية تحرم شعوب دول مجلس التعاون من التعاون فيما بينها بما يحققها أمن الشعوب واستقرارها عن طريق إرساء أسس الدولة الديمقراطية والشراكة الشعبية ودولة العدل والقانون.. يظهر ذلك واضحاً في النص التالي (تعمل كل دولة طرف على اتخاذ الاجراءات القانونية فيما يعد جريمة، وفقا للتشريعات النافذة لديها، عند تدخل مواطنيها او المقيمين بها في الشؤون الداخلية لأي من الدول الاطراف الاخرى).

اما المواد (4، 5، 6، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 14) فترسم بصورة تفصيلية سبل التعاون بين الاجهزة الامنية الخليجية في ملاحقة الناشطين. في الاتفاقية المقترحة تبدو المواد أشد وضوحاً، وصرامة، وتصميماً على تحقيق مبدأ التعاون الأمني بكل تفاصيله. فقد جاء في المقدمة (انطلاقا من روح الاخوة الصادقة، وتأكيدا للأسس والمبادئ التي أرساها مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتحقيقاً للمبدأ الذي ينص على أن المحافظة على أمن واستقرا دول مجلس التعاون هو مسئولية جماعية يقع عبؤها على دولها، واعتماداً على القدرات الذاتية والطاقات المتوفرة لصيانة الأمن والاستقرار، وإيماناً بمبادئ الشريعة الإسلامية السمحة، وحفاظاً على المثل العليا من الأفكار الملحدة الهدامة والأنشطة الحزبية، ووصولا بالتعاون الأمني القائم بين دول المجلس الى مستوى أمثل وأشمل أملا في أن تقتدي به الدول العربية الشقيقة..).

ولتعزيز هذا التعاون بدأت الاتفاقية في فصلها الأول بالمادة 1 وهي كفيلة بتوضيح كل المواد اللاحقة. وتنص المادة (1) على:

(عدم احتضان الخارجين على القانون والنظام من مواطني دول المجلس أو غيرهم وعدم تشجيعهم على التمادي في مسلكهم الضار بأمن دولهم، أو مدهم بالسلاح أو المال أو تدريبهم على أعمال العنف والتخريب ومكافحة نشاطاتهم المعادية لأي من دول المجلس وإعادتهم إلى دولهم بعد اتخاذ الإجراءات المناسبة في حقهم أن كانوا من مواطني دول المجلس).

ثم تأتي المواد اللاحقة لتعزّز وتشرح المادة الاولى من حيث التعاون الأمني على سبيل المثال:

ـ المادة (2): قيام كل دولة من الدول الأعضاء باتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع مواطنيها أو المقيمين بها من التدخل في الشئون الداخلية لأي من الدول الأعضاء.

ـ المادة (3): عدم السماح بدخول أو تداول أو تصدير المنشورات أو المطبوعات أو المصنفات على اختلاف أنواعها المناهضة للعقيدة الإسلامية أو المخلة بالآداب العامة أو الموجبة ضد أمن وسلامة أي من الدول الأعضاء وكذلك العمل على حظر نقل أو تصدير الأسلحة والذخائر والمتفجرات ومكوناتها إلا أن يكون ذلك من السلطات المختصة وبالطرق القانونية والنظامية.

ـ المادة (4): تبادل المعلومات والخبرات التي من شأنها الاسهام في تطوير سبل منع ومكافحة الجريمة على إختلاف صورها وتقديم المعونة الفنية في كافة الشئون الأمنية بما يحقق التكامل المنشود.

في واقع الأمر أن مواد الاتفاقية الامنية الاربعين لا تختلف عن الاتفاقية الحالية بموادها العشرين الا في غموض العبارات ومرونة المعاني وتعدد الدلالات التي تمنح وزارات الداخلية في دول مجلس التعاون الخليجية فسحة كبيرة في تطبيق المواد كما تشاء، في ظل غياب مرجعية قانونية أو جهة تظّلم..باختصار انها اتفاقية لمعسكر المستبدين.

الصفحة السابقة