دولة الشباب

محطة تاريخية مفصلية في تاريخ المملكة، قد لا تؤول الى نتيجة حاسمة، ولكّنها تكشف عما سبّق وتؤسس لما يلحق من حراك شعبي..

مساحة الغضب تتمدد بوتيرة غير مسبوقة، وكذلك انهيار حواجز الخوف والصمت والخنوع..

هم الشباب، والشباب وحدهم من قرر بملء وعيه، وغضبه، وحرمانه أن يقود المبادرة، وأن يُسمِع العالمَ صوتاً آخر، لم يعتد سماعه، وأريد تغييبه خلف صخب الإعلام الرسمي بواحديته الراسخة منذ الاعلان عن الدولة سنة 1932.

لم تكن قطر ولا ايران ولا أي جهة في العالم قادرة على أن تصنع ما يصنعه الشباب الذين ظهروا في مقاطع مصوّرة لإيصال رسالتهم بكل وضوح، وكانوا يعبّرون بعفوية تامة عن هموم ملايين الشباب في مملكة النفط والفقر..

أي اتهام يراد لصقه بهؤلاء يتحول الى مجرد كذبة سخيفة، لأن من ينبري اليوم أمام الكاميرا بهويته الصريحة ليس من مكوّن سكاني واحد ولا من منطقة واحدة ولا من فئة واحدة بل هم جميعاً يمثّلون الأغلبية السكانية.. فهل يصّح اتهامهم بالعمالة للخارج؟

الشعب يقول كلمته، بالرغم من تصاعد لغة القمع التي لا تزال وحدها وسيلة التواصل مع المطالب المشروعة للشباب..

تتهدم جدران الخوف، وتتساقط أحجار التهويل على وقع الغضب الكامن في معاناة المحرومين..

يراهن النظام على قمعه في وقف ثورة الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، ويصرّ الشباب على أن زمن الصمت قد أدبر فلا صمت بعد اليوم، وليس هناك ما يخسره أولئك الذين لا يملكون سوى حناجرهم، التي تنطلق منها صرخة الاحتجاج على واقع لا يصح السكوت عليه..

يحاول النظام الدفع بأزلامه لتقديم وجبات المديح المدقع، ردّاً على فرسان اليوتيوب الذين يخرقون حاجز الصوت بهوياتهم الصريحة، وتكفي نسبة المشاهدة البائسة للمدّاحين كرسالة احتجاج للنظام وعليه..

اليوم ليس كالأمس، فالشباب يتجاوزون أسواراً من الوهم لطالما صنعها النظام كي يحول دون خروج الصرخات المخنوقة ضد الواقع الفاسد الى الهواء الطلق، ولكنها في الاخير خرجت ولن يمنعها القمع.. وإن طغى.

نعم الشعب يقول كلمته، فالذين ينفرون الى العالم الافتراضي للتعبير عن آلامهم يعلمون ما هم مقدمون عليه..

وعلى قاعدة قل كلمتك وامض، تناوب الدوسري والغامدي والحربي والعسيري والجهني والأسمري والشمري والقائمة تطول على منبر الشعب ليقولوا في زمن قياسي ما يجب أن يقال منذ عقود.

تمزّقت شبكات الخوف، وانهارت جدران الصمت، وبات الكلام الصريح وحده الحاضر في العلاقة بين الأغلبية المحرومة والأقلية المستبدة.

كشف الشباب الغاضب في غضون أيام عن حقائق موغلة في تاريخ الاستبداد السياسي في مملكة الصمت..

أكبر الحقائق وأهمها أن منسوب الوعي لدى الشعب بات مرتفعاً بما يجعله في جهوزية كاملة للانتقال الديمقراطي، وأن دعوى أهل الحكم بعدم الاستعداد مجرد كذبة يراد منها إدامة أمد الاستبداد واحتكار السلطة..

اليوم، يقول الشعب كلمته، ومهما كانت ردود فعل السلطة والنتائج المباشرة، فإن ما يجري يمثل رسالة الى من يعنيه الأمر بأن التغيير مطلب شعبي، وليكن ما يكون بعد ذلك..

الحساب مفتوح والشعب يسجّل في كل يوم حضوراً متزايداً في العالم الافتراضي كي يقول كلمته في الواقع المر الذي يعيشه..في الفقر، والبطالة، وأزمة السكن وتردي الخدمات وفي حرية التعبير والتجمع والمشاركة السياسية..

تحاول بعض الاصوات الناشزة أن تقطع الطريق على السير العام للشباب في حملته الاحتجاجية، فتقيم حاجز مديح طيّاري ما يلبث أن يزول بفعل سيل المواقف الاعتراضية..

يتحدث مراقبون غربيون عن أن الاستقرار في المملكة السعودية بات من الماضي، إذ لا يمكن أن يتحقق في ظل إصرار أهل الحكم على تجاهل مطالب الأغلبية المنتفضة المؤلّفة من الشباب.

قد تفتر العزيمة لبعض الوقت ولكن لن تموت، وبمرور الوقت تتهاوى حواجز الخوف كأوراق الخريف، وأن الشباب يراكمون شجاعة وجلداً ورؤية ثاقبة، فلم يعد يقبلون الاصغاء الى من يخدّرهم بوعود، أو يرهبهم بوعيد، فقد اختاروا الحرية وهم على استعداد لدفع ثمن الحصول عليها.

ابواب المجالس المفتوحة مغلقة.. وآفاق الحل مسدودة سوى الحل اﻻمني الذي يتآكل بشجاعة من سئموا العيش تحت وطأة الخوف..

ﻻ بادرة انفراج يمكن ان تبعث رسالة طمأنة الى الاغلبية المحرومة..الفساد يتفشى في كل هياكل الدولة فيما تتزايد أعداد الفقراء..

ﻻ أذن تصغي لصوت اﻻغلبية المقهورة ..كل ما يسمعه الشباب هو صوت السيارات السوداء التي تداهم البيوت في الفجر بحثاً عن المتجاهرين بقهرهم.

أخلت الداخلية جراب الامن وقدّمت للشباب كؤوس المر كي يشربونها مرغمين بدﻻً من فعل فوري يفتح نافذة أمل بقرب الانفراج الشامل ﻻزمة موغلة في الدولة منذ وﻻدتها.. وفي اﻻخير فان الرسالة التي سوف تتردد:

نحن الشباب لنا الغد.. ومجدنا المخلّد!

الصفحة السابقة