الدولة المتوحشة

الدول شأن الأفراد في نزوعهم نحو العدائية كوسيلة حماية، وأن ميلهم نحو اكتساب القوة التي يفتقرون اليها ذاتياً هي محاولة لتحصيل قدرة حمائية تعينهم على إخفاء ضعفهم وتشكّل آلية هروب من استحقاقات عاجلة لايمكن بدون تظهير القوة المفتعلة تجاهلها أو بالأحرى تجاوزها..

بات من ثوابت علم نفس الجريمة أن النزوع العدائي لدى الأفراد، والحال نفسه ينسحب على الدول، يمثل خط الحماية الأول انطلاقاً من الخوف من شيء ما متخيّل أو حقيقي..فالدولة في نزعتها العدوانية ومبادرتها نحو الهجوم إنما تستهدف حماية موقعها الدفاعي..

وهناك دول نشأت في الأصل وحافظت على وجودها من خلال تقديم نفسها باعتبارها مالكة لمصادر القوة والقادرة على إنزال الرعب في قلوب الآخرين، مواطنين، أو جماعات، أو دول..وحين تتبدّل صورة هذه الدول، أي حين تكف عن أن تكون دول مخيفة أو مهابة يصبح وجودها في خطر، وتكون عرضة للزوال..

عدوانية الدولة السعودية ليست موضع نقاش، فهي ما قامت الا على الاستخدام المفرط للقوة، وأن شعار السيف الأملح الذي يلوّح به حكّام آل سعود منذ عبد العزيز وصولاً الى الملك حالي، بات رمزاً للدولة السعودية. الغزوات الوهابية السعودية منذ منتصف القرن الثامن وحتى الإعلان عن قيام الدولة السعودية سنة 1932، كانت تتسم بالوحشية، وكان الآخر، أياً يكن، هدفاً مشروعاً لسيوف الغزاة الوهابيين السعوديين، وكان ابتزاز وابتذال النص الديني لجهة إضفاء مشروعية على الغارات الوهابية دليلاً على الجنوح العدواني المتأصل في الدولة السعودية عن طريق تبرير كل التدابير العدوانية ضد الآخرين.

نشأت الدولة ونشأت معها أجهزة قمعية وأرسيت بنية أمنية ممتدة، فصارت تمد أذرعها الى كل مكان يمكن أن تصل اليه من أجل تثبيت وترسيخ أركان الكيان وقوته وتماسكه. أوصدت كل الأبواب في وجه المطالبات بالحقوق والحريات، فلا أقنية ولا قنوات يمكن للمواطنين التعبير من خلالها عن مطالبهم، ولا مظلومياتهم، وجعلت الدولة من نفسها المرجعية النهائية في الأمور كلها، صغيرها وكبيرها، وأوهمت الرعيّة بأن أبواب الدولة مفتوحة، وروّجت لأسطورة المجالس المفتوحة، ولكن في المقابل تركت أبواب السجون مفتوحة لاستقبال الذين رفضوا الخضوع تحت تأثير الأسطورة هذه، وقرروا التعبير عن مطالبهم على طريقتهم ودو إكراه من النظام..

امتلأت السجون، وقضى بعض المعتقلين وراء القضبان، وفقد آخرون حياتهم في ظروف غامضة وأخرى بفعل التعذيب أو القتل بأشكال مختلفة..كان البطش عنوان الدولة، وأرادته أن يكون كذلك. وبدلاً من تطوير النظام السياسي وأسلوب إدارة الدولة بما يتناسب وحاجات المواطنين ومطالبهم، قررت عائلة آل سعود تطوير أساليب القمع ضدهم.

في السابق كان الناشطون يواجهون تهماً من قبيل الانتماء لأحزاب إلحادية، والتخابر مع جهات أجنبية، واعتناق أفكار وعقائد هدّامة، فكل من لحقت به تلك الاتهامات وجد نفسه وراء القضبان وقد لا يخرج من زنزانته معافى، ثم تطوّرت صيغ الاتهامات فدخل عليها الافساد في الأرض، ومحاربة الله ورسوله، والخروج على ولي الأمر. ومنذ أكثر من عقد من الزمن، بتنا أمام لائحة اتهامات متعددة بحسب التيار أو الجماعة المستهدفة، فإن كان المتّهم من التيار الاصلاحي، طاولته تهمة تهديد الوحدة الوطنية والتخابر مع دول أجنبية، وإن كان من القاعدة، فتهمة الارهاب كافية وافية لتشمل كل العقوبات والاجراءات الجزائة..

اليوم ندخل في مرحلة جديدة من توحش الدولة السعودية، والتي لا تفرّق فيها بين شخص وآخر، أو بين توجّه وآخر، فقانون مكافحة الارهاب منح آل سعود سلطة قمعية ضد الناشطين بكل أصنافهم، وبات بإمكان تصفية الحساب مع هذه الجماعة وتلك بحجة محاربة الارهاب.

فكل من يخالف الدولة السعودية فكرياً أو سياسياً يصبح هدفاً لقانون مكافحة الارهاب وقد يطاله العقاب الأليم. كل ذلك يجري والغرب في غفلة مقصودة ويتصرف على أساس أنه لا يرى لا يسمع ولا يتكلم.

منذ صدور الأمر الملكي الخاص بالمقاتلين السعوديين المدنيين والعسكريين في الخارج في 3 فبراير الماضي، وحال الناشطين والمدافعين عن حقوق الانسان وطلاّب الحرية من سيء الى أسوأ، وكأن الدولة أرادت من هذا الأمر أن يبرر وحشيتها وتمدّد ذراعها الأمني في كل مكان وضد الجميع دون تمييز بين شخص وآخر..

أحكام جائرة تصدر هذه الأيام ضد الناشطين والمدافعين عن حقوق الانسان وسجناء الضمير، وفي الغالب تصدر عن رغبة انتقامية فارطة، كما تكشف نوع الأحكام الصادرة بحقهم مثل السجن لمدة طويلة، والغرامة الباهظة، والحرمان من السفر، ويلحق ذلك أحياناً حرمان من كل الحقوق المدنية مثل تجديد البطاقة المدنية، أو رخصة قيادة السيارة، أو جواز السفر، والوثائق الرسمية بما في ذلك استصدار صك البيت، وحتى الحرمان من العلاج والتعليم قد يكونا جزءً من العقاب..

تزداد الدولة السعودية توحشّاً، رغبة منها في إظهار أن يدها هي الأعلى، وأن لها الكلمة الفصل، وإن كل المشاغبات والاحتجاجات لن تؤدي الى مكان، فهي وحدها القادرة على الحسم عن طريق القوة، والقوة وحدها التي سوف يكون لها القرار في نهاية المطاف، ولكن ما لا يعلمه أمراء آل سعود، أن البطش ليس جديداً، وأن الناس عرفت ذلك منذ عقود بل وتعوّدت عليه، وهم اليوم يعبّرون عن مواقفهم الناقدة والاحتجاجية بالرغم من وجود القمع والعدوانية المتصاعدة، وإن التغيير يتطلب أثماناً وبات الناس على استعداد لدفعها.. وإن الدولة المتوحّشة الى زوال.

الصفحة السابقة