هل حدثت معجزة

وزارة الداخلية التي لم نعرفها!

مقالة الكاتب السعودي الليبرالي جاسر الجاسر (مفارقات الإصلاح في السعودية: يأتيك اليقين من حيث لا تحتسب) في الثالث من ديسمبر والمنشورة في موقع إيلاف الالكتروني والذي يرأس تحريره الصحافي ورئيس تحرير جريدة (الشرق الأوسط) سابقاً عثمان العمير، جاءت في سياق جدل متزايد حول مصداقية وزارة الداخلية ودورها المتورّم في المجال العام بجوانبه المختلفة.

إن اللغة التي إستعملها الكاتب جاسر الجاسر تصلح لأغراض دعائية محضة، وإن كان فاته أنه يكتب لقارىء سعودي بالدرجة الأولى، الذي سيضع بالتأكيد مقالة الجاسر على محك مصداقية الكلمة، بخاصة حين يتحدث الكاتب عن منجزات غير منظورة للقارىء المحلي وهو يشهد ويرى ويملك من أدوات التقييم ما يجعله قادراً على محاكمة الصورة (الفاتنة) للوزارة وتحليل كافة عناصرها وأبعادها، بما في ذلك تلك غير المنظورة لدى شريحة قراء غير سعوديين، ولكنّهم مهتمون بمتابعة ما يجري على الساحة السعودية هذه الأيام.

ينطلق الجاسر من فرضية أن الاصلاح يمكن له أن يولّد أفرادياً، أي أن لكل وزارة خطة مستقلة في تقرير الاصلاح أو نبذه، وكأن البلاد تشبه حبّات سبحة منفرطة، لا تخضع لناظم يشدّها ويقرر موقعها ودورها والمساحة المخصصة لها، أو كأن الدولة تتحول في لحظة ما الى أوركسترا غير منظمة يقرر فيها كل عازف نغمته وإيقاعه في الاصلاح دون إقتفاء حرفي للنوتة الأصلية وتعليمات رئيس الفرقة.

هناك جزئية صحيحة ثاوية في مقالة الجاسر تجدر الاشارة اليها، وهي تعكس التفاوتات الكبيرة في سلطات الوزراء وصلاحياتهم، فأن تملك وزارة الداخلية مبادرة من نوع ما في التغيير يعكس تضخم الدور الذي حظي به وزير الداخلية من موقعه كعضو في العائلة المالكة، وكرئيس لجهاز خطير ونشط في الدولة السعودية، وفي كل الدول الشمولية عموماً وفي الشرق الأوسط بوجه خاص. وهذا لا يفترض منا أن نعيب على وزارات أخرى كالتعليم والصحة والمياه والعمل وغيرها أن تضطلع بأدوار مماثلة لما تقوم به وزارة الداخلية، ما لم يكن على رأسها أمراء متنفذّون ويحظون بسلطة مطلقة كالتي يحظى بها الأمير نايف. وكذا الحال بالنسبة لمجلس الشورى الذي تقرر منذ البدء عن إعلانه حجم الدور الذي يجب أن يلعبه، ونوعية الافراد الذين أريد لهم الدخول فيه، والغاية التي من أجلها في الأصل خلق المجلس. فهو ليس بالمؤسسة التي كان يؤمّل عليها أن تدير أو حتى تقترح مشروع الاصلاح، تماماً كما أن ليس هناك أحد يؤمّل أن يأتي الاصلاح من وزراء التكنوقراط، والا لما يمّم دعاة الاصلاح وجوههم الى رأس الدولة وكبار الأمراء الذين يمسكون بأزمّة الأمر في الدولة، ولما أعادوا الكرّة ثانية وثالثة ورابعة، فمن هم بعد ذلك الذين (لا يزالون يغطون في سبات عميق، حتى ليبدو أنهم يعادون الإصلاح، ويتجنبون دروبه ما لم يساقون إليه سوقاً، أو يبدلنا الله خيراً منهم).

إن النزوع الحقيقي نحو الاصلاح لدى وزارة الداخلية كما يزعم الجاسر لم يقدّم ما يدلل عليه سوى تعبيرات مختلطة ومنزوعة من سياقها التاريخي، فهي مازالت تحتفظ بشخصيتها الصارمة والجافة والممقوتة من قبل الشعب، ومازالت النظرة اليها محفوفة بالريبة والكراهية والخوف، وهي أيضاً نموذج الظلم ونقيض العدل، فهي صفات لم تثبت وزارة الداخلية عكسها حتى الوقت الراهن. وإذا كانت فئة من الشباب قد جددت دماء الوزارة وأصبحت تملك من المعرفة والخبرة وحسن التعامل فهل يصح تعميم النظرة على الوزارة بكافة أذرعها وأجهزتها ورجالها.

إن مصدر دهشة الجاسر في وزارة الداخلية، هو ملامح الانفتاح الايجابي في ممارساتها ومبادراتها، ولكن ما يدهش حقاً هو دهشته لأن مصدرها لم يكتشفه سوى الجاسر نفسه، الذي إما أن يكون ـ هذا المصدر ـ قد تضخم الى درجة أفقده رؤية باقي أجزاء الصورة عن وزارة الداخلية، وإما أن يكون ثمة شيء يعرفه الناس وينكرونه على الوزارة، وحتى يثبت ذلك فإن الشك يساورنا في أمر الوزارة ونتوجس خيفة من نوايا من يرى فيها ما لا يُرى حتى الآن.

إن صورة وزارة الداخلية في بلادنا تصنعها حقائق دامغة، وهي تحول دون تبني الصورة المزعومة التي أرادنا الجاسر رؤيتها. عناصر الصورة هي على النحو التالي:

ـ آلاف ممنوعون من السفر والمسحوبة جوازت سفرههم

ـ منع عدد كبير من الاقلام الصحافية من الكتابة والظهور على شاشات المحطات الفضائية الخارجية للتعبير عن آرائهم ومواقفهم من الأوضاع الداخلية

ـ تهريب شحنات الاسلحة بكميات كبيرة

ـ السطو المسلح على البيوت والممتلكات والبنوك

ـ تزايد عدد المعتقلين وظروف الاعتقال القهرية وأوضاع السجون

ـ خوف العوائل من الذهاب الى مراكز التسوق والاماكن العامة في الاعياد

ـ نقاط التفتيش المنتشرة في كافة مناطق المملكة وإخضاع ركاب السيارات الخاصة الى التفتيش الشخصي

أما الانجازات المزعومة لوزارة الداخلية في ترسيخ الأمن والاستقرار تبدو متهافتة حين تعرض على الحقائق الرقمية التي بات متداولة بين السكان.

في حوادث الاعتداء على الأموال المبلغة خلال عام 1423 هـ بلغت عدد الحالات في الرياض العاصمة 14554 حالة وفي مكة المكرمة 14666 وفي إجمالي مناطق المملكة 39862 حالة. وفي حوادت الاعتداء على النفس المبلغة خلال العام نفسه، بلغت عدد الحالات في الرياض 3324 منها 657 حالة إطلاق نار و2110 اعتداء و52 قتل عمد، أما في مكة المكرمة فبلغت عدد حالات الاعتداء 3531 حالة. وفي إجمالي عدد الحالات في المملكة فوصل الرقم الى 13864 حالة تتراوح بين قتل عمد وقتل خطأ ومحاولة إنتحار واعتداء أدى الى الوفاة.

أما الحوادث المتنوعة والتي تشمل الحرائق والتزوير وحيازة سلاح غير مرخص وإتلاف ممتلكات الغير عمداً فوصلت في الرياض الى 3181 وفي مكة المكرمة الى 4294 أما في إجمالي مناطق المملكة فوصلت الى 11587 حالة.

ما يبعث على الدهشة والغرابة في آن ما قاله الجاسر بما نصه (كانت وزارة الداخلية هي الجهة التي دعمت مسارات الإنفتاح في البلد، قبل أن يكون الانفتاح مطروحاً) متمثلاً تبني الوزارة الكامل لبرنامج (طاش ما طاش). وكنت أحسب أن هذا والله في مقام الذم لا المدح، وهو يعكس تمادي وتمدد وزارة الداخلية خارج إطارها الوظيفي، كما لو أنه يجوز لرجل الأمن أن يتحول الى طبيب جرّاح في مستشفى فيصل التخصصي!. وما لم يستدرك عليه الجاسر هو أن وزير الداخلية كان يتولى حتى وقت قريب رئاسة المجلس الأعلى للإعلام الى جانب رئاسة مجالس أخرى مثل التعليم والحج، وبالتالي فإن ما قام به كان جزءا من سلطته المتغوّلة دون وجه حق. ومن جهة ثانية، هل تبني برنامج تلفزيوني يؤسس لقناعة راسخة ونهائية بأن وزارة الداخلية (كانت) السبّاقة الى دعم مسارات الانفتاح، فمتى كان ذلك؟ وهل أن تطوير الآليات جاء مصاحباً لتطوير السياسات أم أن منطق التطور كان يفرض عليها تجديد آلياتها لمواجهة تحديات الداخل قبل الخارج، وهل تطوير الآليات يندرج في سياق العملية الاصلاحية، وإن أبقت على المحتوى المتخلف والجامد، مما يجعلنا نتساءل: هل أن تغيير الإطار يبدّل في الصورة الممقوتة؟!

نحن كغيرنا ننكر تجاوب الداخلية مع المتغيرات فضلاً عن التفاعل معها والقبول بها والتحرك بإتجاه ما تتطلبه من تغييرات جوهرية في السياسة الداخلية. فالحديث المكرور عن شبابية وزارة الداخلية وشكلها الخارجي لا يحقق أكثر من غرض دعائي يعدّل جزئياً النظرة الى الطلاء الخارجي لهذه الوزارة الحالكة السواد، ولكن ما يجري على الارض لا يغيّر من تلك الصورة السائدة عن هذه الوزارة، بكونها مصدر إزعاج، وقلق، وقهر لعدد كبير من العوائل.

من التبدّلات الملحوظة زعماً لدى الجاسر في إجراءات وزارة الداخلية، هي التدابير المعمول بها في إعتقال المطلوبين وطرق المراقبة المتبّعة، ولكن هذه التبدّلات غير ملحوظة هي الأخرى فقد باتت قصص الاعتقال وظروفه منتشرة ومشاعة بين الناس وفي مواقع الانترنت، وتبعث على الاشمئزاز والغضب لما يتبعه زوّار الليل من أساليب وحشية ولا أخلاقية في طريقة إعتقال المشتبه بهم، وهناك مئات من المعتقلين من بقوا في أقبية السجون سنوات دون محاكمة عادلة، سوى ما يتفوه به قضاة يعملون لحساب الوزارة، ويعقدون محاكمات داخل المعتقلات ثم يكرهون فيها السجناء على الاقرار خطياً على ما اعترفوا به تحت السياط، تمهيداً لاصدار أحكام بالعقاب ضدهم. أما نقاط التفتيش التي بالغ الجاسر في وصف طريقتها حتى قال (لفرط لطفها في التعامل وكأن هدفها التوعية المرورية لا أكثر)، فهو ما يجهله بل ينكره الذين مرّوا عبر هذه النقاط، ولربما الحظ قد حالف الجاسر في أن يمرّ على نقطة تفتيش مختلفة. وعموماً فإن النقاط فمازالت منصوبة في كل مكان، وقد عبّر كثيرون عن إستيائهم إزاء الطريقة التي يتبعها رجال الداخلية في التفتيش الشخصي المهين.

لا ندري مالذي يدعو الجاسر للقول بأن الرياض شهدت إزدحاماً غير مسبوق في العيد الماضي، وهو نفس اليوم الذي أعلن فيه عن اكتشاف عملية إرهابية كادت أن تقع، كما أن الاجراءات الأمنية حول الامراء قد تشددت في أيام العيد حتى غاب كثيرون منهم عن الفعاليات الاحتفالية بهذه المناسبة هذا العام، دع عنك التقارير التي تحدثت سابقاً عن القلق الذي يساور العوائل من الخروج من المنازل والذهاب الى الأماكن العامة، بعد انفجارات الثاني عشر من مايو وتزايدت بعد الثامن من نوفمبر.

القول بأن الداخلية لديها القدرة على (نسف جميع الخلايا الإرهابية؛ اليقظة منها والنائمة) قول مخلّ، خصوصاً وأن البيانات المتلاحقة في الداخل والخارج (من الولايات المتحدة وبريطانيا حصرياً) تؤكد تصاعد النشاط الارهابي، وتنبّه دائماً الى أن تفجيرات أخرى منتظرة، وهناك من الخلايا الارهابية الجاهزة لتنفيذ مخططات إرهابية في مناطق مختلفة من المملكة. وأن الاشواط التي قطعتها الداخلية في مداهمة بعض الخلايا وإحباط بعض العمليات لا يبدد الخطر والخوف لدى السكان من أوضاع أمنية منفلتة، وهو ما أثبت فشل الخيار الأمني وسقوط هيبة الدولة.

كنا نأمل ان نشارك الجاسر خلاصة مقالته الابتهاجية المختومة بعبارات التمجيد كقوله (كانت الداخلية السعودية صاحبة اليد الطولى في الإصلاح، لكن الأحداث الأخيرة كشفت حقيقة دورها، وعظم تأثيرها..). وكنا نأمل أن نرى في الأمير نايف وإبنه الأمير محمد ما لم تره الأغلبية فيهما، حين قال عنهما وعن من يليهما (ولقد أحسن البارئان في الإدارة، وأحسن العاملون في التنفيذ، وتحملوا جميعاً مصاعب الوضع وإرهاقاته بينما تمتعنا بأمنه واستقراره). ولكن ما لا نتمناه هو أن (تتعلم الوزارات الأخرى من الداخلية، التي سبقتها وكان يجب أن تكون متأخرة، والتي انفتحت بينما يفترض صمتها وانغلاقها).

وفي الأخير نسأل الجاسر: هل تعرف شيئاً لا نعرفه أم كشفت عن شيء لم نره في وزارة الداخلية؟. وحتى نعرف الاجابة نقول يؤسفنا قراءة مقالة الجاسر الذي عهدناه قلماً جريئاً وناقداً متميزاً، ولكنه في مقالته عن وزارة الداخلية السعودية يبدو مثيراً للغرابة، فقد جاءت مقالته خارج زمنها الافتراضي، وبعد عودة الحجاج الى ديارهم، فهي محاولة تعسفية لرسم صوّرة مأمولة كنا نود مشاطرة الجاسر رؤيتها ونأمل حضورها، وقد تترجم الى حد كبير تطلعاً داخلياً لدى كثيرين في أن يروا هذه الوزارة وقد أعادت طلاء صورتها النمطية في أذهان الغالبية العظمى من السكان، التي لم تر وتلمس وتسمع سوى قهرها، وجبروتها، وقمعها.

الصفحة السابقة