الخطر الوجودي يتهدد السعودية

محمد شمس

تدرك الرياض أكثر من أي عاصمة أخرى ـ اللهم إلا العواصم الضحية كدمشق وبغداد وغيرها ـ حجم الطاقة العنفية التي تطلقها بالإشتراك مع ايديولوجيتها الوهابية، والتي تتمثل في منتجها القاعدي بأنواعه ومسمياته المختلفة.

فهذه القوة المدمرة التي نراها اليوم في سوريا والعراق واليمن وليبيا والباكستان ونيجيريا حيث بوكو حرام وقاعدة الصومال ومالي وغيرها، وجد ما يشبهها تماماً فيما يتعلق بمخزون العنف وتنفيذه بأشكال تدميرية بما فيها الذبح، في مملكة آل سعود؛ إذ لولا النموذج القاعدي الوهابي القديم الذي مثّله جيش الإخوان السعودي، وما قام به من مذابح في الطائف وتَرَبة وغيرها، ما بنى آل سعود ملكهم الحالي.

إن كل ما يتم إدانته من داعش وفصائل القاعدة هذه الأيام من ذبح وتهجير وتدمير للمقدسات والمقامات، فعله الوهابيون الداعشيون الأوائل في حقب الدولة السعودية المختلفة. وتشاء الصدف أن داعش كانت تدمّر أضرحة الأنبياء والمساجد في الموصل، فيما كان مسلمون آخرون يحيون ذكرى يوم الثامن من شوال الجاري، وهو يوم تدمير  الأضرحة في البقيع بالمدينة المنورة والمعلاة بمكة المكرمة، بذات الوسائل التفجيرية والمعاول وغيرها على يد آل سعود وبمباركتهم. ولذا كان من السخرية بمكان أن ينتقد بعض الموالين للنظام ما تفعله داعش، في حين ان فعل الأخيرة لا يعدو تطبيقاً أميناً لتعاليم الوهابية وزعيمها محمد بن عبدالوهاب، كما لا يعدو نسخة من ممارسة فعلها آل سعود قبلهم. واذا كان آل سعود قد اكتفوا بالهدم القديم، فإنهم في الوقت الحالي يغلقون مساجد ومراكز عبادة في مناطق مختلفة من المملكة بحجة انها مراكز شركية؛ كما ان مشايخ الوهابية يتحيّنون الفرصة ـ وقد اعلنوا عن ذلك مراراً ـ لتدمير قبر رسول الإسلام في المدينة المنورة، وإزالة القبة التي على القبر الشريف، بذات الحجة الداعشية؛ ولولا خشية الرياض من انفلات الرأي العام، لجارت فتاوى الوهابية في هذا الشأن وأغمضت العين عن تدميرها.

اذن الرياض تعلم حجم العنف الذي أرسلته الى دول الجوار، وغذّته بالطائفية، وصمتت عنه، وسرّبت عناصر وهابية للقتال هناك، وأمدّت بطرق متعددة المال الى القاعديين ليذبحوا خصوم آل سعود.

لكن الرياض اليوم بدأت بالشك في ذاتها؛ في قدرتها على التحكّم بتلك الطاقة النارية العنفية المتطرفة التي أطلقتها، كما كانت تفعل ذلك دائماً.

الرياض التي أصابها التشوّش، باتت تمارس الفعل ونقيضه؛ حتى ان المرء ليظن بأن عطباً ذهنياً أصاب فهمها، وأفقدها القدرة على تمييز السياسات الضارة من النافعة لها؛ وهو أمرٌ لم نعهده من قبل.

هناك بضعة أمور تغيّرت:

أولاً ـ من المؤكد أن الرياض التي استطاعت في الماضي تبنّي العنف الوهابي بمختلف أشكاله ونجحت في توظيفه سياسياً سواء على صعيد بناء مُلك آل سعود، أو على صعيد محاربة أعدائهم، كما حدث مع الروس في أفغانستان، ثم في العراق وسوريا.. الرياض التي فعلت هذا في الماضي، فلم يرتدّ عليها إلا النزر اليسير من الضرر مقابل أرباح كبيرة غنمتها سياسياً طيلة العقود الماضية.. تلاحظ اليوم بأن حجم الكرة النارية ـ الداعشية بالخصوص ـ أكبر من قدرتها على الإستيعاب، وتحمّل الإرتدادات. بمعنى آخر، يمكن القول بأن العنصر الوهابي العنفي المشاغب الذي يخرج بين فترة وأخرى عن طاعة آل سعود ويستطيع الأخيرون مواجهته، كما مع جهيمان ومع الصحوة ومع الموجة القاعدية العنفية بعد أحداث سبتمبر في مدن السعودية الكبرى؛ لا يستطيع آل سعود اليوم تحمّل الموج القاعدي المتصاعد وتأثيره عليهم.

السبب الأساس في هذا، هو ان أفرع القاعدة نمت وترعرعت داخل السعودية قبل خارجها؛ وأن تلك الأفرع أضحى لديها اكتفاء ذاتي بشري ومالي وشرعي لا تحتاج فيه الى الرياض ومشايخها، وبالتالي، تقلّصت أدوات الرياض التي تستخدمها في تقليم أظافر العنفيين القاعديين الذين يشذّون عن سياساتها ويضرون بمصالحها.

ثانياً ـ يترافق هذا مع تحوّل غير مسبوق بين الوهابيين السعوديين، من جهة حجم العداء لنظام الحكم، وعدد الأفراد المعارضين الراغبين في القتال داخلياً وخارجياً. إذ تشعر الرياض بأن ولاء شباب الوهابية في الداخل في كثير منه موجّه لأفرع القاعدة في الخارج خاصة (داعش)؛ وحتى من لا تعجبه داعش، فإنه أقلّ ولاءً للنظام مما كان عليه الحال سابقاً. فآل سعود متهمون بتدجين المشايخ، وبالإضرار بالمسلمين في سياساتهم الخارجية؛ وبموالاتهم لأعداء الإسلام؛ وبقمعهم لمشايخ أرادوا ـ من وجهة نظرهم ـ اصلاح الوضع، فلم يتح لهم آل سعود ذلك.

واذا ما كانت قاعدة ال سعود الشعبية منحصرة بشكل كبير بين الوهابيين النجديين، فلنا أن نتخيّل حجم القلق الذي تشعر به الرياض اليوم، وهي ترى امتعاضاً ومعارضة غير مسبوقة من ذات الحاضنة الاجتماعية.

ثالثاً ـ بالرغم من أن السعودية هي مفرخة للقاعدة، فكراً ومنهجاً ودعماً بشرياً ومالياً ومعنوياً، بمعنى أنها مصدر الشرّ، ومصدّر له الى كل أصقاع الدنيا.. بالرغم من هذا، فإن الرياض كانت تشعر دائماً بأن الخطر يتمحور في الداخل، وذلك حين يعود أفراخ القاعدة المدربين على السلاح فتقوم بمراقبتهم واذا ما قاموا بعمل ضدها يتم اعتقالهم ومن ثم مناصحتهم واطلاق سراحهم. اي أنها كانت تثق بقدرتها على ضبط الوضع ازاء مثل هذه الحالات المتكررة بآلتها الأمنية.

لكن التطوّر الحقيقي هذه المرّة، أن أفرع القاعدة لا تعمل بعيداً عن الحدود السعودية، فبين ٢٠٠٣ و ٢٠١٤، أسس القاعديون السعوديون بمساهمة كبيرة من أولئك الذين اطلق سراحهم بحجة المناصحة، اسسوا تنظيم قاعدة الجزيرة العربية ومقرهم اليمن؛ أي انهم يعملون في حدود السعودية الجنوبية، فما كان منها الا مساعدتهم على محاربة الحوثيين بداية قبل ان ينقلب الوضع عليهم.

ثم أن الرياض التي قذفت بكرة نار بغضها العنفي الى بغداد ودمشق، وأطلقت سراح قاعديين من سجونها شرط ان يغادروا الى القتال في سوريا، كانت تعتقد بأن تلك النار بعيدة عنها، كما هو الحال في سوريا؛ وبالنسبة لبغداد التي ظنّت الرياض ان القاعدة ستشاغل ساستها وستخرب العملية السياسية فيها، بحيث لا تبقي للنظام هناك متسعاً للتفكير والعمل والإستقرار والإنتاج؛ فيما سيكون وضع القاعدة في العراق ـ هكذا حسبتها الرياض ـ مشغولة بالعدو (الرافضي)، وهو أكثري في العراق بحيث لن يكون لديها ـ أي القاعدة ـ فائضاً من الجهد والقوة لتتوجه جنوباً بعد ان تنجز نجاحاً في الشمال من بغداد وصاعداً. صحيح ان اولوية القاعدة كما الوهابية عامة وكما آل سعود هو حرب الشيعة، كدول او منظمات او حتى بشر، لكن داعش ـ النسخة المطوّرة للقاعدة ـ مدعومة بمجاميع سعودية مقاتلة، استطاعت تحقيق منجز احتلال الموصل والتوسع في سوريا، والإقتراب من الحدود، الى حدّ القاء الصواريخ داخل الحدود السعودية الشمالية الغربية.

القاعدة ليست بعيدة اليوم عن الحدود لا شمالا ولا جنوباً. وما يزيد الطين بلّة بالنسبة للرياض امران: اولهما، الحماسة الداخلية القاعدية وانتشائها ومطالبتها البغدادي بالقدوم والإطاحة بحكم آل سعود. وثانيهما، المنافسة بين جناحي القاعدة الشمالي والجنوبي في اختراق الحدود كي يثبت كل منهما جدارته مقابل الاخر، على حساب ال سعود أنفسهم.

لهذا كله.. فإن الهلع السعودي الكبير اليوم، والذي تعكسه الحملات الاعلامية والتصريحات الرسمية والدينية، ومئات المقالات في الصحف المحلية عدا البرامج التلفزيونية وغيرها.. هذا الهلع يبدو مبرراً.

فلأول مرّة تستشعر الرياض بخطر يتهدد وجودها من أساسه.

لأول مرّة يرى آل سعود أن حاضنتهم الوهابية النجدية الشعبية متحفّزة ضدّهم بشكل غير مسبوق.

ولأول مرة يرون ان شرعيتهم الدينية تضمحل الى حد أن البيعة الوهابية اخذت باتجاه الشمال الى البغدادي وخلعها عنهم.

ولأول مرّة نرى القبائل تشحذ سكاكينها بحثاً عن غنيمة. وغالباً ما تخضع القبائل للخشونة والقسوة، ولكنها بمجرد ان تستشعر ضعفاً في النظام السياسي فإن صوتها يعلو وتهديدها يتصاعد.

هذا قاد وزير الحرس الوطني، وابن الملك، متعب بن عبدالعزيز، الى السفر شمالاً بالقرب من الحدود العراقية الأردنية، ليتحدث الى القبائل هناك، لا ليقنعهم بدعم النظام، بل بالوقوف على الحياد حين  تحاول قوات داعش اقتحام الحدود والسيطرة على المدن.

هذا يعني ان الرياض تتوقع الأسوأ، بل أكثر السيناريوهات سوءً.

كيف للرياض ان تواجه الدواعش الداخليين وهي تصنّعهم، عبر مناهجها ومشايخها؟

كيف يتخلّى آل سعود عن الوهابية التي اضحت مصدراً من مصادر الخطر بعد ان كانت منفعتها اكثر من ضررها، في وقت لم يبن الأمراء شعبية لهم في المناطق الأخرى يعتمدون عليها، رغم انها تحتضن اكثرية الشعب غير المتوهّب؟

كيف يواجهون القاعدة في الداخل والخارج، والى جنب ذلك جمهور معارض في الشرقية، وامتعاض سكاني هائل غير مسبوق ايضاً في تاريخ الحكم السعودي؟

ترى كم جبهة يستطيع آل سعود اعلان الحرب عليها، وهي تعلم ان جيشها لا يستطيع حتى مواجهة اعداد قليلة من مقاتلي الحوثيين قبل ان يسيطر هؤلاء على نصف اليمن؟

كيف يواجه أمراء الرياض كل هذه المشاكل في حين ان العالم يؤشر بإصبعه اليهم كمصدر للفتنة العنف والقاعدة؟

كيف يواجهون داعش وعلاقتهم سيئة مع معظم الجيران شعوباً وحكومات؟

ازمة النظام السعودي كبيرة و (وجودية).

واذا ما نجحت داعش او قاعدة الجنوب في اقتحام الحدود والسيطرة على المدن الشمالية او الجنوبية، فإن وجه المملكة سيتغيّر حقاً، ربما الى الأبد.

الصفحة السابقة