داعش.. نوستالجيا العودة للبدايات الوهابية

السلالة النقية للجيل الداعشي الوهابي المؤسس

التيار الصحوي السروري اعاد انتاج فكر جهيمان وآراء المفتي ابرايهم فخرجت القاعدة ومن رحمها داعش

عبد الوهاب فقي

(2 من 3)

لا ريب أن إيران تمسك برزمة أوراق في المنطقة، ولكن من المؤكد أن “داعش” ليس من بين تلك الأوراق. ولاريب أيضاً أن السعودية تملك حزمة خيارات في المنطقة، ولكن من المؤّكد أن “داعش” ليس من بين تلك الخيارات.

ليس ورقة إيرانية، ببساطة لأن “داعش” يشتغل على مشروع متناقض مع الأيديولوجية والسياسات والمصالح الايرانية، بل ويمارس دوراً تخريبياً في مناطق نفوذ إيران في المنطقة وعلى وجه الخصوص في سوريا والعراق ولبنان..ولذلك، لا يغدو تطابق الموقف الاعلامي الرسمي في السعودية على اعتبار “داعش” صناعة إيرانية مجرد “مشاغبة ساذجة” و“تشويش” طفولي أحياناً. ويلزم أن نتذكر بأنه في عالم الصحافة حين تتوحّد المقدّمات والنتائج وتالياً الأحكام نكون أمام ليس مجرد تحليل، بل “تعليمة” أو “أمر عمليات”.

السؤال المركزي: لماذا ليس “داعش” من بين خيارات السعودية في المنطقة؟

قبل الإجابة، يلزم أن نفرّق بين الخيار والرهان، فقد يكون “داعش” رهاناً سعودياً في صراعه مع الخصوم، في سوريا والعراق ولبنان واليمن..ولكن لا يعني “تمكين” هذا التنظيم من بسط سلطانه على الأرض وتحقيق حلمه في إقامة دولة الخلافة. في المقابل، قد يجادل البعض لماذا لا يكون “داعش” رهاناً إيرانياً أيضاً؟ والجواب لكي يكون داعش كذلك، لابد أن تتوفر في الطرفين (إيران وداعش) مشتركات تعين على بناء تحالف مصالح عابر أو دائم. والحال، أن لا الأيديولوجيا ولا تركيبة التنظيم ولا مسرح العمليات فضلاً عن المشروع المتناقض بين الطرفين يجعل منهما حليفين من أي نوع وعلى أي مستوى..

على الضد من ذلك، فإن تلك المكوّنات (الأيديولوجيا، التركيبة التنظيمية، ومسرح العمليات) قد تجعل من “داعش” رهاناً سعودياً يصلح للاستخدام المؤقّت ضد ايران وحلفائها.. لا صلة لذلك بلعبة الخطر والفرصة، التي تزاولها الدول قاطبة بصرف النظر عن انتماءاتها وأهدافها، فتلك لعبة لها قوانينها وتخضع لتبدلات السياسة والميدان في ظرف زمكاني محدود.

على أية حال، فإن الموضوع لم يعد مرتبطاً لا بورقة إيرانية ولا برهان سعودي، وإنما الكلام يدور حصرياً حول لماذا “داعش” ليس خياراً سعودياً، وهذا ما نحاول مناقشته.

ومن أجل تقدير دقيق للخطورة المتمثّلة في مشروع “داعش”، لابد من قراءة إجمالية للعقل السياسي السعودي. فالدولة السعودية الوهابية التي نشأت في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي عقب تحالف الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود سنة 1744 والذي أسّس لدولة دينية تقوم على تقاسم السلطة بين الشيخ والأمير، أريد لها الانفراد بالتمثيل السياسي السني، بما يحول دون نشوء أي كيان آخر منافس داخل المجال الإسلامي العام. ولذلك، كان رد الفعل السعودي حيال الثورة الايرانية سنة 1979 ومشروع الدولة الدينية الذي جاءت به سلبياً وفورياً، برفض الاعتراف بها. ثمة تصريح مشهور لولي العهد الأسبق، الملك لاحقاً، فهد بن عبد العزيز يؤّكد فيه تمسّك حكومة بلاده بالشرعية المتمثلة في الشاه محمد رضا بهلوي، حتى بعد أن بات رحيل الشاه وشيكاً. 

كان النفخ في شعار “تصدير الثورة” بغرض التهويل وتعبئة العالم ضد الخطر المتخيّل القادم من الشرق ينطوي على خوف من “نموذج” الدولة الدينية الذي جاءت به الثورة الايرانية، والتي أدّت الى إنقسام حاد في الوعي الاسلامي العام، وصار المسلمون أمام نوعين من الإسلام: الإسلام الثوري (إيران) والإسلام الأميركي (السعودية). حينذاك لجأت الأخيرة بالتعاون مع منظومة إقليمية ودولية الى تدابير متعدّدة تحول دون انتقال الموج الثوري الايراني الى الضفة الغربية من الخليج. كانت الحرب العراقية الايرانية سنة 1980 واحدة من تلك التدابير، وكانت الحرب الطائفية غير المسبوقة التي شهدتها المنطقة تدبيراً حمائياً بالنسبة للنظام السعودي الذي أقحم المنطقة في أتون صراع مذهبي مفتوح أفضى الى انقسامات اجتماعية وسياسية وفكرية عميقة، بهدف تقويض فرص التفكير في تكرار التجربة الثورية الايرانية داخل المجال السنّي..

على مستوى المجال الديني الوهابي، خاض حرّاس المذهب تحديّات متعاقبة لجهة إبقاء الدولة السعودية داخل نطاق تأثير التعاليم الوهابية التي وضعها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسائله ومصنّفاته وسيرته. وجرت محاولات فردية أحياناً وجماعية أحياناً أخرى لجهة إعادة وهبنة الدولة السعودية ولكن باءت المحاولات بالفشل. 

من بين المحاولات الفردية، ما قام به الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، أحد أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان بمثابة المفتي العام في الدولة السعودية الثانية، وقد بعث برسائل الى الأمير فيصل بن تركي آل سعود (1788 ـ 1865) يذكّره بالأساس الديني الذي قامت عليه الدولة السعودية: “وأهل الاسلام ما صالوا على من عاداهم، الا بسيف النبوة، وسلطانها، وخصوصاً دولتكم، فإنها ما قامت الا بهذا الدين..”(الدرر السنية في الاجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن محمد النجدي، الطبعة السابعة، 2004،  الجزء 14 ص 70). 

وحذّر علماء المذهب الوهابي أمراء الدولة السعودية الثانية من العواقب الوخيمة التي آلت اليها أمور الدولة السعودية الأولى، حين غيّر الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد طريقة والده (وبغاها ملكاً) بتعبير الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، أي حين (طغت أمور الدنيا على امر الدين)، حسب قوله. (الدرر السنية في الاجوبة النجدية، ج14 ص 123). فقد أراد الشيخ عبد الرحمن تأكيد دور الدين في بقاء واستقرار وقوة الدولة ووحدتها وتمركزها النجدي، ولذلك طالبه بشدة بأن يجعل الحكم أمر دين. (الدرر السنية، ج14 ص 124).

ألَحَّ الشيخ عبد الرحمن في الطلب من الأمير فيصل بن تركي لأن يعود الى التعاليم الوهابية الاولى وأن يحيل الدولة الى خلافة دينية (جدد هذا الدين الذي اخلولق، لما اقدرك الله على ذلك، والتمس من أهل الخير عدداً يدعون الى هذا الدين ويذكرونه الناس). (الدرر السنيّة، ج 14 ص 89).

وتكشف رسائل المشايخ في سنوات لاحقة عن إحباط شديد إزاء جنوح الدولة السعودية بعيداً عن المبادىء الوهابية، واتّسعت هوّة الخلاف بين الطرفين، وفيما كان الحكّام السعوديون يصرّون على بقاء مصدر المشروعية الدينية فاعلاً في البيئة الشعبية الحاضنة لحكمهم، أي نجد، فإنهم في المقابل واجهوا تحدّيات جمّة تفرضها متطلبات التحديث، بدءاً من إستيعاب منتجات التكنولوجيا داخل الجهاز البيروقراطي، وإرساء بنية تحتية شاملة ومعقّدة (الطرق المعبّدة، المطارات، الموانىء، أنظمة الاتصالات السلكية واللاسلكية، شبكات الصرف الصحي، المدارس، والجامعات الحديثة..الخ) وصولاً الى استحداث مؤسسات مدنية واستعارة أنظمة وتشريعات ليست مستمدة مباشرة من الكتاب والسنّة، الأمر الذي فتح باباً من الخلاف لم يغلق حتى الآن، حيث اعتبره التيار الوهابي تجاوزاً خطيراً على خط دفاعه الأول واختراقاً لمجاله السيادي، حيث يمثّل التشريع امتيازاً خاصاً للمؤسسة الدينية الوهابية.

أما المحاولات الجماعية لناحية إعادة وهبنة الدولة السعودية، فيرد ذكر تجربة “الاخوان”، الجيش العقائدي لابن سعود، وقد برز في العقد الثاني من القرن العشرين،  والذي نجح عبد العزيز في توظيفه لجهة إقامة ما يعتقده “ملك الآباء والأجداد”. ولكن بعد مرور نحو عقدين على الغزوات المتعاقبة في الجزيرة العربية وجد ابن سعود نفسه في مواجهة “إخوان من طاع الله” الذين تمسّكوا بمبادىء الوهابية الأولى والقائمة على تصوّر كوني مغلق بأركانه الثلاثة: تكفير المجتمعات كافة، والهجرة منها، وإعلان الجهاد عليها. لم يقم عبد العزيز بإحداث أدنى تغيير في تصوّر المقاتلين الذي فتحوا له البلدان، وإنما أوقف مفاعيله مرغماً. 

يلزم الاشارة الى أن عبد العزيز نفسه كان مكفرّاتياً من الطراز الأول، وقد عبّر عن ذلك للنقيب شكسبير (الذي قتل في معركة جراب سنة 1915 بين قوات ابن سعود وآل الرشيد) وقال له: “إن الكافر في نظره أفضل من التركي” (أنظر سانت جون فيلبي، بعثة الى نجد 1917 ـ1918، ترجمة وتعليق عبد الله الصالح العثمين، الرياض، ط2 سنة 1992، ص 23)، وكذلك صرّح لأمين الريحاني في سؤاله عن مقاتلة المشركين فأشار الى شيعة الإحساء والقطيف (أنظر أ. الريحاني، ملوك العرب، ص ص 584 ـ585). اختلف عبد العزيز مع “الاخوان” في إبقاء الصلاحية العملانية للتصوّر العقدي مفتوحاً، وقد أخذوا عليه أنه “عطّل فريضة الجهاد” الى جانب إدخاله البدع  (اللاسلكي والتلغراف) الى بلاد الإسلام.

البغدادي: حرفية تطبيق الوهابية

الصحوة.. التأسيس الفكري للقاعدة وداعش

في بدايات التسعينيات من القرن الماضي، وبعد غزو نظام صدام حسين للكويت في آب 1990، ولدت حركة اعتراضية من داخل المجتمع الوهابي وقاد ما عرف لاحقاً بتيار الصحوة بقيادة مشايخ من الطبقة الثانية في التراتبية الوهابية في المملكة السعودية أمثال: سفر الحوالي، سلمان العودة، ناصر العمر، عايض القرني، عادل الكلباني، وغيرهم، وزوّدوا الساحة المحلية بفيض وفير من الخطب الاحتجاجية ضد المخالفات الشرعية للنظام السعودي. وكان إصدار “مذكرة النصيحة” في يوليو 1992 والتي حملت توقيعات 108 من المشايخ والقضاة والدعاة وأساتذة الجامعات الدينية والأكاديميين والأطباء والمهندسين المصنّفين على التيار الديني الوهابي، يعتبر ذروة النشاط الاحتجاجي الوهابي في المملكة، حيث طالب الموقّعون بإعادة أسلمة الدولة السعودية على منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بحسب مضامين الأبواب العشرة التي تناولتها المذكرة. ونلفت الى المطلب الرئيسي في “المذكرة” وهو “وجوب التحاكم الى شرع الله وتحكيمه في جميع شؤون الفرد والأسرة والدولة وفي علاقة الأمة بالدولة، وفي علاقة الدولة والأمة بغيرهما من الدول والأمم..” كما طالب الموقعون بإعادة إحياء فريضة الجهاد حيث طالبوا الدولة السعودية بـ “إذكاء روح الجهاد والإيثار وحب التضحية في أبناء هذه الأمة..”.

جاءت المذكرة في 45 صفحة ومؤلّفة من عشرة موضوعات تخلص الى مطلب واحد: إعادة وهبنة الدولة السعودية، بالتشديد على دور العلماء والدعاة حيث يستلزم أن تكون لهم “في الدولة المسلمة مكانة لا تعدلها مكانة،وأن يكونوا في مقدمة أهل الحل والعقد والأمر والنهي، وإليهم ترجع الأمة -حكاماً ومحكومين- لبيان الحكم الشرعي لسائر أمور دينهم ودنياهم كما أن ذلك يقتضي أن يكون ما يقوم به الدعاة والعلماء من نشر للعلم الشرعي وإرشاد للخلق ودعوة للحق، واجباً يتحتم التسهيل له، وتوفير كل مساندة له، وتقديمه على سائر نشاطات الدولة، حيث أن الدعوة إلى الإسلام هي العمل الأصلي للدولة”. أي تحويل الدولة الى أداة لنشر الدعوة. وفي هذه النقطة يلفت الموقعون الى:

“ضعف دور العلماء في الحياة العامة، وهامشية هذا الدور في قطاعات بالغة الأهمية في حياة الأمة مثل الأنظمة، والإعلام، ونشاطات المرافق الثقافية والاقتصادية والعلمية والتربوية، حيث لا يُطلب الرأي الشرعي للعلماء في كثير من الأعمال التي تقوم بها قطاعات الدولة وأجهزتها”. وطالب الموقّعون بتعزيز دور العلماء والدعاة برفع كل القيود المفروضة عليهم بـ “السماح لهم بالتأليف والنشر والإفتاء والخطابة والمحاضرة وتسجيل الأشرطة وعقد الندوات والحلقات العلمية”، و “فسح المجال لإنشاء هيئات وجمعيات مستقلة للعلماء والدعاة وتشجيع ذلك”، و “عرض جميع الأنظمة والمعاهدات قبل إقرارها على هيئة كبار العلماء للتأكد من مطابقتها لقواعد الشريعة الإسلامية”، و “إصدار التعليمات لكل قطاعات الدولة ووسائل الإعلام والتعليم والنشر بتمكين العلماء والدعاة من أداء واجبهم الشرعي، والأخذ بنصائحهم”، و “إنشاء محطات إذاعية وتلفزيونية خاصة للدعوة إلى الإسلام وتعليم أحكامه باللغات العالمية..”.

وطالب الموقّعون بـ (وجوب التحاكم الى شرع الله وتحكيمه في جميع شؤون الفرد والاسرة والدولة وفي علاقة الأمة بالدولة، وفي علاقة الدولة والأمة بغيرهما من الدول والأمم..وجوب أن يكون شرع الله وحده هو المهيمن على ما سواه وأن تتحقق سيادة الشرع التامة على أعمال الدولة وأنظمتها وتصرفاتها ولوائحها ومعاهداتها وكافة جوانب الحياة فيها.)، أي مراجعة شاملة لسجل القوانين والأنظمة وتنقيحها “وإلغاء كل مخالفة للشرع بها وكذلك العمل على وضع أنظمة شرعية بديلة لما يتعسر تنقيحه منها”. 

وتسهب المذكرة في شرح مطلب “تحكيم الشريعة”، بالقول:”إن الحكم التشريعي يجب أن يقتصر مصدره وأدلته على أدلة الإسلام، وقبول أي مصدر غير الإسلام للأحكام التشريعية يعد تحاكماً إلى الطاغوت..”. وتطبيقاً لهذا المبدأ تبين للموقعين “إن كثيراً من الأنظمة تتضمن أحكاماً تشريعية مستمدة من مصادر قانونية عربية أو غربية في بلاد أخرى لا تحكّم الشرع” وذكر أمثلة على ذلك “فنظام الأوراق التجارية مستمد عن معاهدة جنيف للأوراق التجارية، ونظام الشركات نصت مذكرته التفسيرية على أنه مستمد من “الصالح من أحكام أنظمة الدول الأخرى”، ونظام العمل والعمال مستمد من الاتفاقيات والأنظمة الدولية العمالية، ونظام مكافحة التزوير يتشابه في كثير من مواده وتعابيره مع القوانين الأوروبية وعلى الأخص الألمانية والفرنسية...”. وطالب الموقّعون بـ “مراجعة الأنظمة القائمة بالنظر في كل مادة منها على حدة، وإبطال كل مادة تشريعية منها لا يشهد لها دليل شرعي باستنباط واجتهاد صحيح” ، وتبعاً له “إلغاء كل اللجان ذات الصلاحيات القضائية في الأنظمة، وإحالة جميع القضايا واختصاصات هذه اللجان إلى المحاكم الشرعية”، وإنشاء “محكمة شرعية عليا للنظر في الدعاوى التي تُرفع بشأن مخالفة الأنظمة واللوائح للشرع لتحقيق جعل الشريعة حاكمة على جميع الأنظمة، ولإبطال وإلغاء ما ثبت مخالفته للشرع منها..”.

وما يقال عن الأنظمة والقوانين ينسحب على المحاكم والقضاء عموماً، وكذلك على وزارة الخارجية والجيش والاعلام وغيرها التي يرى فيها الموقّعون ما رأوه في غيرها من مخالفات شرعية وانحراف تام عن الخط الشرعي الذي رسمه المؤسسون الأوائل. (أنظر: مجلة الجزيرة العربية، العدد 21 أكتوبر 1992).

في واقع الأمر، أن “مذكرة النصيحة” أعادت إنتاج خطاب جهيمان العتيبي ولكن بلغة جديدة ومتينة. كما أفاد الموقّعون على المذكرة من الملاحظات النقدّية التي قدّمها المفتي الأسبق الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ في عهد الملك فيصل، في رسالته (تحكيم القوانين)، وطبعت بمطابع الثقافة بمكة في رجب سنة 1380 هـ/1960 ونشرت في مجلتي (لواء الإسلام)،  و(راية الإسلام) في 1380هـ، الموافق للرابع من شهر سبتمبر 1960. وذكر في مقدمة الرسالة ما نصّه “إنّ من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين..”. ويرى بأن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة. وأما الأول فهو أنواع والخامس أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقّة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا وإمدادا وإرصادا وتأصيلا، وتفريعا وتشكيلا وتنويعا، وحكما وإلزاما، ومراجع ومستندات. وتفصيل ذلك “فكما أنّ للمحاكم الشرعية مراجعَ مستمدّات، مرجعها كلُّها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجعٌ، هي: القانون المُلفّق من شرائعَ شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك.فهذه المحاكم في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحةُ الأبواب، والناس إليها أسرابٌ إثْر أسراب، يحكُمُ حُكّامُها بينهم بما يخالف حُكم السُنّة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتُلزمهم به، وتُقِرُّهم عليه، وتُحتِّمُه عليهم.. فأيُّ كُفر فوق هذا الكفر، وأيُّ مناقضة للشهادة بأنّ محمدًا رسولُ اللهِ بعد هذه المناقضة”.

ثم يوجّه خطاباً للجميع بمن فيهم الحكّام “فيا معشر العُقلاء، ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى كيف ترضون أنْ تجري عليكم أحكامُ أمثالكم، وأفكارُ أشباهكم، أو مَن هم دونكم، مِمّن يجوز عليهم الخطأ..”.

وسئل المفتي السابق، الشيخ عبد العزيز بن باز(ت 1999): هل يعتبر الحكّام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفاراً..؟ فأجاب: فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر.. وهكذا من يحكِّم القوانين الوضعية بدلاً من شرع الله ويرى أن ذلك جائز، حتى وإن قال: إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله” (مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز، المجلد الرابع، ص 416).

وقد فهم طلاّب الشيخ بن باز ومن جاء بعدهم، خصوصاً من “الجهاديين” في (القاعدة) و(داعش) تلك الفتاوى على أن النظام السعودي أحد المستهدفين الرئيسيين بفتاوى الشيخين ابن ابراهيم وبن باز. وقد أسست تلك الفتاوى لتكفير الدولة السعودية كونها حكّمت قوانين وضعية في المحاكم.

وفي حمى التصعيد الخطابي الصحوي والهجوم الكاسح الذي شنّه مشايخ الصحوة ضد من وصفوهم بالعلمانيين، وضع السفير السعودي في البحرين، ووزير العمل لاحقاً، غازي القصيبي كتابه (حتى لا تكون فتنة) صدر من المنامة والقاهرة سنة 1991. حذّر فيه من تداعيات الظاهرة الصحوية وأنها تستهدف إحداث ثورة في الدولة السعودية القائمة. وناقش في كتابه انتقادات المشايخ ناصر العمر وعايض القرني وسفر الحوالي وسلمان العودة، واعتبر الأخير بأنه يبشّر بثورة على غرار الثورة الايرانية بقيادة الخميني، والتشكيك في صدقية مزاعم الدولة السعودية بتطبيق الشريعة.

وتعرّض التيار الصحوي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي الى ضربة قاصمة أدّت الى توقّف نشاطه، بعد اعتقال رموزه وإرغامهم على التوقيع على تعهّدات خطيّة بعدم ممارسة أي نشاط سياسي فيما تمّ احتواء بعضهم في مؤسسات الدولة، ولكن الإرث الفكري والاحتجاجي لمشايخ الصحوة انتقل الى “القاعدة” الذي تفاعل معه وأدمجه في خطابه السياسي وآلته الاعلامية والتحريضية.

بالعودة الى أدبيات “القاعدة”، سوف يظهر أن التركة الصحوية، خصوصاً ما يتعلق منها بالسعودية، شكّلت الخلفية الفكرية والسياسية لتنظيمات السلفية الجهادية في الجزيرة العربية المرتبطة بالقاعدة، واندغمت بصورة تلقائية وسلسة في البنية الأيديولوجية لدى “داعش”.

جيش الإخوان: الجيل الداعشي المؤسس

داعش.. الرؤية والميدان

«داعش”، أي “الدولة الاسلامية في العراق والشام”، تنظيم سلفي يهدف الى تطبيق الشريعة وإحياء الخلافة الاسلامية عن طريق العنف باسم (الجهاد). تعود جذور التنظيم الى أكتوبر عام 2006 إثر اجتماع مجموعة من الفصائل المسلّحة ضمن ما عرف بـ “معاهدة حلف المطيبين” (تاريخياً حلف المطيبين هو حلف بين عدد من أفخاذ قبيلة قريش قبل الإسلام لإعانة بني عبد مناف بن قصي في أخذ ما أورثه قصي بن كلاب لبني عبد الدار بن قصي). ويضم الحلف: “مجلس شورى المجاهدين في العراق” و“جيش الفاتحين” و“جند الصحابة” و”كتائب أنصار التوحيد و السنة”، وتشكّل الحلف كرد فعل على عدم رضا تنظيم “القاعدة” في بلاد الرافدين عن اختيار أبو أيوب المصري والمعروف باسم (أبو حمزة المهاجر)، خليفة لزعيم تنظيم “القاعدة” في العراق أبو مصعب الزرقاوي (قتل في يونيو 2006).

وتمّ اختيار حامد داود محمد خليل الزاوي، المعروف باسم (أبو عمر البغدادي) أميراً لتنظيم“دولة العراق الإسلامية”. وكان البغدادي يعمل في جهاز الأمن العراقي في عهد صدام حسين حتى عام 1985 قبل اعتناقه العقيدة السلفية وتشكيله تنظيماً عرف باسم (الطائفة المنصورة)، وبايع “تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين” بقيادة ابو مصعب الزرقاوي عام 2004، وشكّل فيما بعد مع سبع فصائل عراقية أخرى مسلّحة ما عرف بـ “مجلس شورى المجاهدين”  حيث تم اختيار البغدادي أميراً له في العراق خلفاً للزرقاوي، تحت اسم ابو عبد الله الراشد البغدادي، ثم أميراً لدولة العراق الإسلامية.

بدأ تنظيم “الدولة” في تنفيذ سلسلة عمليات إرهابية في الغالب عشوائية وتطال المدنيين في الشوارع والأحياء السكنية والمؤسسات المدنية، وبعد مقتل أبو عمر البغدادي في يوم الاثنين 19/4/2010 أصبح أبو بكر البغدادي زعيمًا لهذا التنظيم.

وفي إبريل 2013 أعلن أبوبكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، مد نشاطه إلى الشام وإعلانه ضم “جبهة النصرة” ليصبح إسمه الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، وهو الأمر الذي رفضه أبو محمد الجولاني، قائد جبهة النصرة، وأعلن تبعيته المباشرة لتنظيم القاعدة الرئيسي بقيادة الظواهري.

 وتمتد العلاقة بين الجولاني والبغدادي إلى ما قبل اندلاع الأحداث فى سوريا، حيث سبق للجولاني مبايعة تنظيم البغدادي والقتال تحت إمرته فى العراق قبل أن ينتقل إلى سوريا ويشكل جبهة النصرة بدعم مالي وعسكري من الدولة الإسلامية  «كما أقر الجولانى نفسه”، ولم يكن يرى البغدادي في “النصرة” سوى كونها فرعاً من فروعه أسَّسها أحد جنوده بدعم منه شخصياً، وهذا ما لا يراه الجولاني الذي رفض قرار البغدادي وأعلن ولائه  لـ “لقاعدة” وبيعته لزعيمها أيمن الظواهري.

في رسالة صوتية مسجّلة للظواهري في مايو (2014) طالب البغدادي بحل تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، واعتماد الفصل النطاقي؛ بحيث يكون تنظيم الدولة الإسلامية مركزًا في العراق بزعامة البغدادي، بينما يُعتمد نشاط جبهة النصرة في سوريا بقيادة الجولاني، وهو ما رفضه البغدادي بل واتهم الظواهري بارتكاب مخالفات شرعية ومنهجية، قبل أن يعلّق البغدادي بقوله “الدولة الإسلامية في العراق والشام باقية ما دام فينا عرق ينبض أو عين تطرف لن نساوم عليها أو نتنازل عنها حتى يظهرها الله أو نهلك دونه”.

تطور خلاف الجولاني والبغدادي إلى خلاف بين البغدادي والظواهري في أعقاب هجوم أبي إبراهيم الموصلي – القيادي البارز في الدولة الإسلامية – في تسجيل صوتي نشر في “منتدى المنبر الإعلامي الجهادي” في 8 أبريل 2014 بعنوان “رسالة الدولة الإسلامية في العراق والشام إلى تنظيم قاعدة الجهاد، قولنا الصاعق الحارق إلى المتشنج المارق إلى أيمن الظواهري”. تحدث الموصلي قائلاً: “وما الأحداث التي تشهدها ساحة الجهاد في العراق والشام، وما الزوابع العاصفة التي تهز كيان الدولة (الدولة الإسلامية في العراق والشام) إلا من مكر المتسلقين على إنجازات قادة الجهاد المتمكنين المسيطرين، النافخين بكير الفرقة المقيتة من أمثال أبي خالد السوري (القيادي البارز في تنظيم القاعدة الذي قُتِلَ في حلب شمال سوريا) وأعيان الجهاد الورعين من صنيع عصبة المتشيخ أيمن الظواهري وغلو جريرته المتنطعين”.

في واقع الأمر أن التاريخ يكرر نفسه مع القاعدة، ففي حين سرق ابو مصعب الزرقاوي الأضواء من زعيم التنظيم أسامة بن لادن بعد أن تحوّل العراق الى أرض رباط وساحة جهاد فكان الزرقاوي، القائد الفعلي للتنظيم، وفي العراق شكّل إمبراطوريته الخاصة تحت إسم “تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين”، فإن “داعش” متمثلاً في زعيمه أبو بكر البغدادي نجح في تهميش أيمن الظواهري، وبعد تتويجه أميراً للمؤمين على “الخلافة” الناشئة يصبح تنظيم القاعدة برمته مجرد إطار شكلي لا قيمة عملانية له، فيما بدأت التشكيلات المرتبطة بالقاعدة تتنكب الى “داعش”..

وكما رفض بن لادن والظواهري اعتماد مبدأ تكفير الشيعة، وقتل المدنيين، فإن قيادة داعش ومن قبلها ابو مصعب الزرقاوي، قرر إضفاء صفة مذهبية وطائفية على المواجهات التي يخوضها في سوريا والعراق، وهذا يفسر اقدام مقاتلي “داعش” على الجرائم الجماعية ضد الأبرياء ويعتبر أن مقاتلة “الروافض” مقدّم على الجهاد في فلسطين.

رموز الصحوة: اعادة انتاج الوهابية وتفريخ القاعدة

وهابية داعش.. النسخّة الأصلية

من الناحية العقديّة، لا تختلف “داعش” عن أي تنظيم سلفي جهادي أو صحوي من حيث اعتناقهم للوهابية مذهباً بما يشمل العقيدة والفقه ومنهج التفكير والرؤية الكونية. وعودة سريعة الى المكتبة العقدية المثبتة على المواقع الاكترونية الرسمية للتنظيم سوف يتعرّف المتابع بسهولة على الهوية المذهبية  للتنظيم. من نافلة القول، أن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب مثل (كتاب التوحيد)، و(كشف الشبهات)، و(نواقض الاسلام)، وغيرها يجري توزيعها في المناطق الخاضعة تحت سيطرة (داعش) ويعلوها ختم “الدولة الاسلامية” وشعارها باللونين الأبيض والأسود، ويتم تدريس الكتب وشرحها في الحلقات الدينية الخاصة التي يعقدها الجهاز التربوي في التنظيم.

النشاط الدعوي لتنظيم داعش يبدو مكثفاً ومتعاظماً من خلال مؤسساته (الاعتصام) و(الفرقان) وغيرهما، حيث تقوم الاكشاك بتوزيع أقراص الفيديو الرقمية التي تضم محاضرات ومعارك والعمليات الانتحارية التي ينفّها عناصر التنظيم. الى جانب ذلك، تتجول في المناطق الخاضعة لسيطرة (داعش)، شاحنات تحتوي على منشورات ومطبوعات دعوية، وكتيبات ورسائل ونشريات عقدية وهابية كجزء من مشروع وهبنة المجتمع. كما أنشأ التنظيم عدداً من المدارس الدينية للأطفال، من بينها مدارس للفتيات يتعلّمن فيها حفظ القرآن الكريم، إلى جانب دورات تدريبية للأئمة والدعاة الجدد، كما يتم توزيع جداول مواعيد الصلاة والمحاضرات ودروس القرآن في المساجد. وبعد  الاعلان عن دولة الخلافة بدأ العمل بمنظومة مؤسسات خدمية وصحية وتدريب وتعليم وتأهيل منها معكسرات تدريب ومخيمات للأشبال الذي يجري إعدادهم لتولي مهام عسكرية وتنظيمية .

ومن يتصفّح النشريات والأبحاث المدرجة في المكتبة الالكترونية في المواقع التابعة لتنظيم “الدولة” أو المقرّبة منه سوف يجد الدمغة الوهابية واضحة في أسماء المؤلّفين، وعناوين الكتيبات والأبحاث، واللغة المستخدمة فيها..

من يقرأ سيرة أفراد الطبقة القيادية في تنظيم “دولة العراق الاسلامية” وتالياً “الدولة الاسلامية في العراق والشام” أو “الدولة الاسلامية” سوف يجد وبسهولة متناهية أن هؤلاء تشرّبوا العقيدة الوهابية وأتقنوا العمل بكل تفاصيلها.. يتعمَّد كتّاب سيرهم التشديد على عبارة “يسير على منهج السلف”، أي يعتنق المذهب الحنبلي الوهابي. هذا ما نقرأه في سيرة: ابو عمر البغدادي وخلفه ابو بكر البغدادي، ووزير الحرب السابق ابو حمزة المهاجر المصري، ووزير الاعلام والمتحدث الرسمي باسم الدولة أبو محمد العدناني الشامي وغيرهم..

أبو عمر البغدادي، أول أمير للمؤمنين في “دولة العراق الاسلامية” صاغ، على سبيل المثال، ثوابت دولته المأمولة فكانت سلفية وهابية، وهو من أعدّ الوثيقة التعريفية بعقيدة “الدولة” .

وحين اقترح ابو عمر البغدادي تشكيل لجنة من العلماء أو طلبة العلم المتقدمين وتكون نواة لجمع المجاهدين وإصلاح حال المقاومين اشترط لمن يكون في هذه اللجنة: أن يكون ملتزماً بالسنة على منهج السلف.

أما أبو بكر البغدادي، ابراهيم بن عوّاد البدري، خليفة الدولة الاسلامية الحالي منذ العام 2010، فهو ينتمي الى عائلة تعتنق السلفية الوهابية، وأبوه أحد الدعاة على المنهج السلفي. درس البغدادي العقيدة الحنبلية في الجامعة الاسلامية ببغداد، وأمضى وقتاً طويلاً في جامع الامام أحمد بن حنبل، إماماً وخطيباً وداعياً في سامراء وأيضاً في بغداد.

النزعة التنزيهية الفارطة لدى “داعش” والمستمدة من العقيدة الوهابية تحوّلت الى محرّض عالي الكفاءة على الاستعمال المفرط للعنف، وتبني عقيدة اسئصالية بوصفها مهمة متعالية أوكلت إليه من السماء..

يصوغ عبد المجيد بن محمد المنيع في كتابه (عقيدة الطائفة المنصورة) هوية الطائفة التي ترى بأنها تنطبق عليها وحدها دون سواها. هذا الكتاب الذي أصبح من متبنيات (القاعدة) و(داعش) ومنشوراتها، يشتمل على ثبت حرفي للعقيدة الوهابية كما دوّنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب  بدءً من تعريف التوحيد بحسب التقسيم الثلاثي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، مروراً بتعريف أهل الشرك ونوعيه: شرك أكبر مخرج من الملة وفيه أنواع أربعة، وشرك أصغر غير مخرج من الملة مثل الرياء، ولبس الحلقة والخيط..وانتهاءً بشرح أركان الاسلام والايمان والاحسان تماماً كما صاغها الشخ محمد بن عبد الوهاب. 

وعلى خطى إبن عبد الوهاب في مقاربة مسألة التكفير، ونفي ما ينسب اليه بالتساهل في التكفير، كذلك المنيع ينفي عن (أهل السنة والجماعة) التي يراد بها من يعتنق عقيدة التوحيد كما بشّر بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وبالرغم من أنه يضع الطائفة المنصورة وسط طائفتين: طائفة تكفّر بالذنوب وطائفة المرجئة التي تعتقد بأن الاعمال غير داخلة في مسمى الايمان وأن العبد لا يكفر وأمره مرجىء لأمر الله، ولكن ما يلبث أن يقرّر ما انفردت به الوهابية دون بقية المسلمين ونسبت ذلك الى أهل السنة والجماعة بأن العبد (إنما يكفر إذا وقع في أحد نواقض الإيمان والإسلام..) والتي حدّدها محمد بن عبد الوهاب في عشرة نواقض من بينها: الذبح لغير الله، من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوسل اليهم، ومن لم يكفر المشركين أو يشك في فكرهم أو صحح مذهبهم،  مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج على شريعة محمد، والاعراض عن دين الله تعالى لا يتعمله ولا يعمل به. 

نواقض تبدو في ظاهرها عادية ولا تستأهل نقاشاً واسعاً ومعمّقاً، ولكن بالعودة الى أدبيات الوهابية ومرجعياتها سوف نجد بأن كل ناقض يخضع لجدل واسع ومفتوح، وليس موضع اتفاق بين المسلمين بكل طوائفهم كما تزعم الوهابية..

من ذلك الايمان بالغيب، الذي يرى المنيع بأنه (من عقيدة أهل السنة والجماعة) أي الايمان بكل ما أخبر الله به وما أخبر به رسوله مما صحّ عنه. والسؤال من يمتلك القدرة على حسم صحة خبر، فلكل مذهب أدواته في التصحيح والتعيف، والجرح والتعديل، والاثبات والنفي، فليس كل  ما صح عند الامام أحمد بن حنبل هو صحيح عند الامام الشافعي أو الإمام مالك، وقد لحظنا كيف أن الحنابلة أنفسهم اختلفوا على أخبار وردت في مسند الامام أحمد صحة وسقماً. يصدق أيضاً على “الصفات” التي يرى فيها مذهب غير ما يراه الآخر، فالوهابية والحنابلة عموماً تحمل الصفات الالهية الواردة في القرآن الكريم على ظاهرها، وكذلك رؤية المؤمنين لربهم عزّ وجل، والايمان بالشفاعة والتوسل. وينتقل المنيع الى الموقف من الصحابة ويرى بأن أفضل القرون هم الصحابة والتابعون والتابعون لهم بإحسان بناء علىى حديث نبوي.

ما يلفت في خطاب “داعش” منذ تأسيس “الدولة” وحتى اليوم، أنه يوحي لعناصره بأنهم الامتداد التاريخي والشرعي للرعيل الأول من المسلمين وهم من سوف يكتب على أيديهم التغيير في نهاية التاريخ، تماماً كما هي عقيدة الوهابيين الأوائل ومن جاء بعدهم من جماعات تصحيحية داخل المجال الوهابي مثل “جماعة جهيمان”.

قال أبو عمر البغدادي في كلمته (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ):

“أما أنتم يا فرسان التوحيد .. ورهبان الليل .. وأسودَ الشرى .. فجزاكم الله عنا وعن المسلمين كل خير . فلقد عاينت الحروبَ ورجالها .. وأشهدُ بالله .. أشهدُ بالله ، أن أمتي لم تبخلَ علينا في بلاد الرافدين ، بخيرة أبنائها ، وأصدقُ نُجبائها ، فلم ترى عيني مثلهم ، ولا سمعتُ كخبرهم ، إلاّ خبرَ الرعيلِ الأولِ (!).

فأشهدُ أنهم أصدقُ الناسِ لهجة .. وأوفاهم عهدا.. وأكثرهم ثباتا.. وأشدّهم في أمر الله. فلستُ أشكُّ يعلمُ الله، طرفةَ عين.. أنا نحنُ الجيش الذي يُسلِمُ الراية لعبداللهِ المهديّ.. إن قُتِلَ أولنا.. فسيُسلمها آخرنا.. وبسطُ هذا في غيرِ موضعنا”.

وقال متحدّث “الدولة” أبو محمد العدناني في كلمة (إنّ دولة الإسلام باقية): “أتظنون أنا سنرحل؟ أتخالون أنا سننتهي؟ أتحسبون أنا سنكل أو نمل؟ كلا إننا باقون بإذن الله إلى قيام الساعة وليقاتلنّ آخرنا الدجال “(الشيخ أبي محمد العدناني، إن دولة الاسلام باقية، الصادرة عن مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي 7 أغسطس 2011)”.

ناصر العمر: لُقب بالنازي والصحيح أنه داعشي

ويخاطب عناصر الدولة بالقول “واعلموا أن من أعظم نعم الله عليكم أن اختاركم وساقكم وأحياكم الى هذا الوقت الذي يجدد الله فيه الدين ويحيى شعار الاسلام والمسلمين، إن من أعظم منن الله عليكم أن أبقاكم الى هذه الساعة التي عز فيها الناصر وقل الداعم وخان الصاحب وكثر الشاك واللائم”.

- مشروع (الدولة) ينضم له الأخيار، والالتحاق به تقوى لله!

وخاطب العدناني مقاتلي الدولة في كلمته (لن يضروكم إلا أذى):

“ إلى كل المجاهدين الصادقين المخلصين العاملين لله : ندعوكم قادة وجنوداً ، جماعات وأفراداً : أن تسرعوا بالالتحاق بمشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام ؛ فإن المشروع مشروعكم، وإن مجيئكم أتقى لربكم وأقوى لجهادكم وأغيظ لعدوكم ، قال الله تعالى : {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} ، هلموا فإنا لا نشك أبداً أنه مَن كان منكم فيه خير: فسيأتي الله به ولو بعد حين”. (لن يضُرّوكُم إلاّ أذىً، كلمة صوتية للشيخ أبي محمد العدنانيّ الشاميّ، المتحدث الرسميّ عن الدولة الإسلامية في العراق والشام، مؤسسة الفرقان للإنتاج الاعلامي، 30 يوليو 2013).

وتؤكد الوثيقة التعريفية لعقيدة “الدولة” كما صاغها أبو عمر البغدادي على:

أولاً ـ إقامة الدين ونشر التوحيد “الذي هو الغاية من خلق الناس وإيجادهم والدعوة إلى الإسلام..” وهو التعريف الذي يمكن العثور عليه بسهولة في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وشروحات كتاب التوحيد من مشايخ الوهابية..

ثانياً: إقامة الخلافة الإسلامية وتحكيم شرع الله في الأرض الذي عطله وتركه حكام العرب ونبذوه وراء ظهورهم. ولا يكون تحكيم الشريعة “إلا بالجهاد فقيام الدين لا يكون إلا بكتاب يهدي وسيف ينصر”. بحسب قول لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات والذنوب والمعاصي.. 

رابعاً: نصرة المستضعفين من المسلمين والدفاع عنهم وتحرير بلاد المسلمين من المحتلين المعتدين وتطهيرها من رجس الغاصبين الظالمين..

خامساً: السعي لفكاك أسارى المسلمين وتخليصهم من أيدي الظالمين..

سادساً: معاملة الكفار بموجب ما شرعه الله ورسوله وأوجباه علينا، إما الدخول في الإسلام أو بذل الجزية أو القتال..

سابعاً: نشر الأمن وإقامة الحق بين الناس وتوزيع الثروات وتقسيمها بينهم بالعدل وتقديم الأحوج منهم وعدم التفرقة بين المسلمين..

ثامناً: تحقيق الأخوة الإسلامية والسعي لوحدة الكلمة بين المسلمين ونبذ العصبيات القبلية والنعرات الجاهلية فبلاد المسلمين واحدة والمسلمون أمة واحدة وهم يدٌ واحدة على عدوهم.. 

داعش.. أصالة التكفير

شأن كل التنظيمات السلفية الوهابية، فإن تكفير الآخر، مسلماً كان أم كتابياً، بات سمة راسخة في عقيدة التنظيمات تلك، ببساطة لأن المواصفات الصارمة المطلوبة في الانسان المسلم بحسب رؤية هذه التنظيمات لا تنطبق سوى على المنضوين تحت راية الوهابية. 

ولذلك، يتبنى “داعش” موقفاً راديكالياً إزاء الآخر. والتكفير لدى التنظيم على نوعين: كفر ابتدائي بمعنى أن يكون فرد أو جماعة هو في الأصل كافر لم يؤمن لأنه لم يعرف حقيقة الدين ولا جوهر الايمان، وهذا ينطبق على أتباع الاديان الأخرى وطوائف من المسلمين، مثل الشيعة بكل أطيافهم، والأباضية، وهناك كفر ارتداد، أي ينطبق عليه أحكام الردة، وبالرغم من أن أحكام الردّة أشد من حكم الكافر الابتدائي، إلا أن لا اختلاف بينها في النتائج العملية، وتنطبق احكام كفر الارتداد على كل من يرفض مبايعة أمراء داعش، ويطال المقرّبين..فقد جاء في وثيقة بتاريخ 11 تموز 2014 بعنوان (تعهد وإقرار بالتبرؤ والتوبة) صادرة عن الدولة الاسلامية ـ ولاية الخير (دير الزور) بأن يكتب التائب النص التالي: “أقرّ أنا المدعو فلان بالتبرؤ من الفصيل الفلاني التابع لفلان وأقر بأن ما قعت فيه من وقوف مع (الجيش الحر، والجبهة الاسلامية، وجبهة النصرة وغيرهم) ضد الدولة الاسلامية هو محاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، فأستغفر الله من هذا العمل وأتبرؤ من قتال الدولة الاسلامية وعدم محاربتها والوقوف ضدها..” ( نص إقرار التوبة عن قتال “الدولة الاسلامية”، القدس العربي، لندن، 12 تموز 2014 عن علاء وليد مراسل الأناضول).

الطريف أن قيادة التنظيم تلوذ بالمنطق ذاته لدى الشيخ محمد بن عبد الوهاب حين وجّهت له تهمة التساهل في تكفير المخالفين. يقول ابو عمر البغدادي في بيان عقيدة (الدولة) في كلمته بعنوان: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي) في  13 مارس 2007:”وقد رمانا الناس بأكاذيب كثيرة لا أصل لها في عقيدتنا، فادَّعوا أننا نكفر عوام المسلمين ونستحل دماءهم وأموالهم”.

وحين رد التهمة لجأ البغدادي الأول لنفس منهجية الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تكفير الآخر ولكن بطريقة مواربة حيث قال: “ومن نطق بالشهادتين وأظهر لنا الإسلام ولم يتلبس بناقض من نواقض الإسلام: عاملناه معاملة المسلمين، ونَكِلُ سريرته إلى الله تعالى، وأنَّ الكفر كفران: أكبر وأصغر، وأنَّ حكمه يقع على مقترفه اعتقاداً أو قولاً أو فعلاً، لكنَّ تكفير الواحد المُعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوفٌ على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه”. وحين نعود الى المصنّفات الوهابية في التكفير لا نجد البغدادي الا مقلّداً ومردّداً لمقولات الوهابية في التكفير. وحتى عبارة “نواقض الاسلام” التي لم ترد في كتب الاوَّلين، هي في الأصل عنوان كتيّب للشيخ ابن عبد الوهاب. ومن أمثلة التساهل في التكفير عند محمد بن عبد الوهاب كلامه حول أهل البوادي، أي الذين يعيشون في البادية بقوله “..فإن كان للوضوء ثمانية نواقض ففيهم ـ أي في أهل البوادي ـ من نواقض الاسلام أكثر من المائة ناقض..” (الرسائل الشخصية، التصحيح والمقابلة على النسخ الخطيّة والمطبوعة صالح بن فوزان الفوزان  محمد بن صالح العليقي، المجلد السابع من مؤلفات الامام محمد بن عبد الوهاب ص 25 ـ26).

وحين سرد البغدادي نواقض الإسلام بدا واضحاً أن من يطاولهم حكم التكفير كثراً في أمة المسلمين. للإشارة، فإن واحدة من النواقض التي توجب التكفير: من لم يكفر كافراً أو شكّ في كفره فهو كافر. وعليه، فمن كفّرته الوهابية يصبح كافراً ولابد من تكفيره ومن شك في تكفيره يصبح هو الآخر كافراً. 

من وجهة نظر عبد المجيد المنيع في كتابه (عقيدة الطائفة المنصورة)، فإن الحكومات القائمة في ديار المسلمين والتي تدّعي الاسلام “قد دخلت في الكفر من أوسع أبوابه لارتكابها عدداً من نواقض الإسلام منها :تشريعهم مع الله ما لم يأذن به الله، وطاعتهم للمشرعين المحلِّيين والدوليين واتباعهم لتشريعاتهم الكفرية، ودخولهم في أحلافهم الشركية، كاتباعهم لتشريعات هيئة الأمم المتحدة.. حكمهم بغير ما أنزل الله.. مظاهرتهم وتوليهم للكفار من اليهود والنصارى والمشركين وحمايتهم ونصرتهم ومنع من يُنكر عليهم كفرهم، وعقدوا معهم اتفاقيات ومعاهدات النصرة بالنفس والمال واللسان.. استحلالهم الحرام بالترخيص له وحمايته وحراسته والتواطؤ والاصطلاح عليه، كمؤسسات الربا.. استهزاؤهم بدين الله والترخيص للمستهزئين وحمايتهم وسنُّ القوانين التشريعية التي ترخّص لهم وتسهل لهم هذا الاستهزاء عبر وسائل الإعلام..

وأتبع المنيع حديثه في التكفير قائمة بالمذاهب الكفرية وهي: العلمانية، الوطنية والقومية. 

نشير الى أن ثوابت عقيدة “الدولة”، كما حدّدها أبو عمر البغدادي، تكاد تكون منقولة حرفياً من المرجعيات الوهابية مثل “وجوب هدم وإزالة كل مظاهر الشرك، وتحريم وسائله..”، وأن “الرافضة طائفة شرك وردة..”، و“كفر وردة الساحر ووجوب قتله، وعدم قبول توبته..”، و“من نطق بالشهادتين وأظهر لنا الإسلام ولم يتلبس بناقض من نواقض الإسلام عاملناه معاملة المسلمين..”، وأن “الكفر كفران: أكبر وأصغر”، و“وجوب التحاكم إلى شرع الله من خلال الترافع إلى المحاكم الشرعية في الدولة الإسلامية، والبحث عنها في حالة عدم العلم بها، لكون التحاكم إلى الطاغوت من القوانين الوضعية والفصول العشائرية ونحوها من نواقض الإسلام..” والنقطة الأخيرة تبدو واضحة في أن من يتحاكم الى غير محاكم “الدولة” يكون قد ارتكب ناقضاَ من نواقض الإسلام وبذلك يصبح كافراً، وبالتالي فإن الأغلبية الساحقة من المسلمين هم كفّار كونهم يتحاكموا في غير محاكم “الدولة”!

وعلى الطريقة الوهابية، يرى ابو عمر البغدادي أن كل دولة لا تحكم بالشريعة تعتبر ديار كفر. ويقول ما نصّه: “وبما أن الأحكام التي تعلو جميع ديار الإسلام اليوم هي أحكام الطاغوت وشريعته، فإننا نرى كفر وردة جميع حكام تلك الدول وجيوشها، وقتالهم أوجب من قتال المحتل الصليبي..”. (البغدادي، أبو عمر، كلمة “ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي” مصدر سابق).

ويوصم البغدادي طائفة كبيرة من الناس والتيارات الفكرية بالكفر وبالإسم تحت عناوين مختلفة، ويقول: 

“ونؤمن أن العلمانية على اختلاف راياتها وتنوّع مذاهبها كالقومية والوطنية والشيوعية والبعثية هي كفر بواح، مناقض للإسلام مخرج من الملة، وعليه نرى كفر وردة كل من اشترك في العملية السياسية”، ويسمّي شخصيات سياسية سنيّة مثل صالح المطلق وعدنان الدليمي وطارق الهاشمي وغيرهم، والسبب أن العملية السياسية في العراق فيها “تبديل لشرع الله تعالى”، ويرى أيضاً “أن منهج الحزب الإسلامي ـ أحد تشكيلات الاخوان المسلمين ـ منهج كفر وردة، لا يختلف في منهجه وسلوكه عن سائر المناهج الكافرة والمرتدة ؛ كحزب الجعفري وعلاوي، وعليه فقياداتهم مرتدون لا فرق عندنا بين مسؤول في الحكومة أو مدير فرع..”.

الحوالي: تطرفه ساهم في خلق القاعدة وداعش

كما يرى البغدادي وتنظيم “الدولة” “كفر وردة من أمدَّ المحتل ـ الأميركي ـ وأعوانه بأي نوع من أنواع المعونة من لباس أو طعام أو علاج ونحوه، مما يعينه ويقويه، وأنه بهذا الفعل صار هدفاً لنا مستباح الدم” .ويمضي في مسلسل التكفير “ونعتقد بأن الديار إذا علتها شرائع الكفر، وكانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي ديار كفر..وبما أن الأحكام التي تعلو جميع ديار الإسلام اليوم هي أحكام الطاغوت وشريعته، فإننا نرى كفر وردة جميع حكام تلك الدول وجيوشها، وقتالهم أوجب من قتال المحتل الصليبي..”. وهذا يعني أن خروج المحتل ليس وحده كاف لوقف القتل في الناس، بل هناك مبررات أخرى لقتلهم ومن بينها “التحاكم الى شرائع الكفر”! ولنتأمل في عبارة “أوجب من قتال المحتل الصليبي” للوقوف على أسباب إحجام “داعش” عن الجهاد ولو بالكلمة انتصاراً لقطاع غزّة في العدوان الاسرائيلي عليه في يوليو ـ أغسطس 2014.

بعد انتقال “داعش” للقتال في سوريا، توسّعت مروحة الكفّار، فصار يكفّر “الجيش الحر”، و“جبهة النصرة”، و “الجبهة الاسلامية” التي يصفها بالصحوات، وقد أوقع فيها قتلى كثر، وقام بإرسال سيارات مفخخة وانتحاريين الى مواقع وتجمعات “الحر” و “النصرة” و “الجبهة”، مع أن كل هذه الجماعات تعمل معه في المشروع ذاته، أي إسقاط النظام السوري، بل وتتبنى العقيدة الوهابية. يؤكد ذلك بيان توضيحي صادر عن “ الإمارة العامة لجبهة النصرة في القلمون) في 2 أغسطس 2014 وجاء في النقطة الاولى: “إن جبهة النصرة والدولة الاسلامية في العراق والشام على منهج واحد وان افتراقت السياسات”.

وكان أبو عمر البغدادي أصدر حكمه في الصحوات، وحكم على أفرادها بالردّة وطالب بقتلهم وخاطب أنصاره “وإنَّي أخطب فيكم اليوم وأقول: ضحّوا تقبّل الله ضحاياكم بمرتدّي الصحوات فإنهم صاروا للصليب أعواناً، وعلى المجاهدين فرساناً..”. الشيخ/ أبو عمر البغدادي،   كلمة (أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ)، بتاريخ  13 ذو الحجة 1428 – 22/12/2007، مؤسسة النخبة. 

بالرغم من ذلك، يأتي من قيادات داعش وينفي عنصر “التكفير” الراسخ في ثقافته. ينبري، على سبيل المثال، أبو محمد العدناني الشامي، متحدث “داعش”، و”الدولة الاسلامية” لاحقاً، للرد على من يرمي تنظيمه بتكفير عموم المسلمين في كلمة (لك الله أيتها الدولة المظلومة) في 30 سبتمبر 2013: “أن عموم أهل السنة في العراق والشام مسلمون، لانكفر أحدا منهم إلا من ثبتت لدينا ردته بأدلة شرعية قطعية الدلالة قطعية الثبوت”. ومع ذلك يعترف العدناني بأن من عناصر التنظيم من كان يكفر وقد طردوه بحسب زعمه من التنظيم ويستدرك قائلاً “وقد فعلنا هذا مراراً كثيرة مع مهاجرين وأنصار”.

العدناني لم ينس نصيبه من تكفير الآخرين، فكان يرى بأن الإخوان المسلمين هم “حزب علماني بعباءة إسلامية، بل هم أشر وأخبث العلمانيين..”، ويكاد يلمح العدناني الى تكفير “الاخوان” في سياق تفسيره لآية “إنما النسيء زيادة في الكفر” حيث أسقط ذلك على الاخوان وقال “وهذا النسيء الإخواني هو زيادة في الكفر..” مع أن أصل الكفر هو “نسبتهم الحكم والتشريع لغير رب العالمين..”.  وكرر ذلك لاحقاً “ وإن هذا الكفر الذي وقع فيه حزب الإخوان وأوقع الناس فيه: هو من جراء طاعة الكفرة من الذين أوتوا الكتاب من أمريكا والغرب”، كما وصف حزب النور بحزب الظلام لقبوله بالمشاركة في الانتخابات والدخول في مجلسي الشعب والشورى.

وحكم العدناني بكفر الجيوش العربية قاطبة باعتبارها جيوش حامية لأنظمة الطواغيت، وفي مقدمها: الجيش المصري، والجيش الليبي، والجيش التونسي، قبل الثورة وبعدها، والجيش السوري. وأضاف موضحاً “إنَّ جيوش الطواغيت من حكام ديار المسلمين هي بعمومها جيوش ردة وكفر..”. وتوقف طويلاً عند الجيش المصري لينال منه تكفيراً وردة واعتبر بأنه “جيش يحمي البنوك الربوية، ودور الخنا، والعهر، وحامي حمى اليهود، والأقباط والنصارى، المحاربين لله ورسوله، جيش يؤمر بترك الصلاة فيتركها، جيش صائل انتهك الأعراض وحرق المساجد والمصاحف وأجهز على الجرحى وحرق جثث القتلى... فهل يقول عاقل أن هذا الجيش لا تجوز محاربته وقتاله؟؟”. واعتبر العدناني الجيوش في البلدان الاسلامية كافرة ووجوب قتالها لأنه يصدق عليها مسمى “طائفة ممتنعة”. ورجع في ذلك لابن تيمية وأقواله في “الطوائف الممتنعة”. (أنظر أبو محمد العدناني، الناطق باسم الدولة الاسلامية، “السلمية دين من؟”، مؤسسة الفرقان للإنتاج الاعلامي، 31 أغسطس 2013).

ووجّه العدناني نصيحة للجيش المصري بقراءة الكتب الوهابية،وقال ما نصّه “وننصحهم بدراسة التوحيد، ونواقض الإسلام وتعلّم دين الولاء والبراء..”. فيما نصح الاخوان المسلمين وحزب النور “بالتوبة إلى الله والرجوع عن دين الديمقراطية..” (السلمية دين من؟ مؤسسة الفرقان للإنتاج الاعلامي، موقع الملاحم والفتن في 31 أغسطس 2013).

العدناني ألحق حكم الردّة بموظفي الأجهزة الأمنية أيضاً، ودعا “المرتدين والمارقين والمخالفين بالتوبة والرجوع، وخصوصًا الصحوات والشرط..”. (أبو محمد العدناني الشامي، كلمة (الآنَ الآنَ جَاءَ القِتَال)، مؤسسة الفرقان للإنتاج الاعلامي، صفر 1432هـ/يناير 2012).

على أفق واسع، يرى متحدّث “الدولة” كفر وردّة من يشترك في العملية السياسية في العراق ولذلك كفّر صالح المطلق وعدنان الدليمي وطارق الهاشمي وغيرهم، بل وأكثر من ذلك  قال في كلمته (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي): “نرى أن منهج الحزب الإسلامي منهج كفر وردّة، لا يختلف في منهجه وسلوكه عن سائر المناهج الكافرة والمرتدة؛ كحزب الجعفري وعلاوي...”. وشمل بحكم الكفر والردّة نواب البرلمان، وقال في كلمته (جريمة الانتخابات الشرعية والسياسية) في 12 فبراير 2012 “فالنواب والمُشرِّعون أوثانٌ منصوبة تحت قبّة تخضع لقانونٍ أو دستورٍ ظالمٍ جائر يناقض الشريعة الإسلامية ويحاربها في كثيرٍ من أُصول ديننا الحنيف... وأما المُشرِّعون فهم كفار بلا غُبار..”. 

اعتبر العدناني خلاف “داعش” مع الأنظمة الحاكمة هي في تحكيم القوانين، وبناء عليه “لا فرق بين مبارك ومعمر وابن علي، وبين مرسي وعبد الجليل والغنوشي، فكلهم طواغيت يحكمون بنفس القوانين غير أن الأخيرين أشد فتنة على المسلمين..”. وأخرج الاخوان وحزب النور من قائمة الاحزاب الاسلامية لخلوهما من “كل ثوابت الإيمان وكثير من فروع الإسلام..”.

جنوح “الدولة” الى التكفير ينتقل الى الموضوعات التي يتعارض الحكم فيها مع الآخرين. على سبيل المثال، في موضوع الانتخابات فإن “داعش” لديه موقف عقدي واضح، فهو يرفض مبدأ الانتخابات لأن دين الله لا يقبل ذلك، وتحكيم الشريعة لا تقوم على الانتخابات.. وأن كل من يدخل في الانتخابات البرلمانية ويشارك في المجالس المنتخبة هو كافر ومرتد. يقول أمير “الدولة” السابق أبو عمر البغدادي: “يا قوم: إن هذه الانتخابات حرامٌ في شرع ربنا”، ويوضح “إن فكرة الانتخابات الديمقراطية التي تميّزها ولا تنفك عنها هي سيادة الشعب, بينما أصل عقيدتنا وديننا هو سيادة الشرع” وعليه “فالنواب والمُشرِّعون أوثانٌ منصوبة تحت قبة تخضع لقانونٍ أو دستورٍ ظالمٍ جائر يناقض الشريعة الإسلامية ويحاربها في كثيرٍ من أُصول ديننا الحنيف.. وأما المُشرِّعون فهم كفار بلا غُبار..”. (أبو عمر البغدادي، جريمة الانتخابات الشرعية والسياسية.. وواجبنا نحوها، في 12 فبراير 2010 نخبة الاعلام الجهادي، قسم التفريغ والنشر)  

نشير الى فتوى الشيخ الوهابي السعودي عبد الرحمن البرّاك جاء فيها “الانتخابات حرام شرعاً وهي أمر دخيل على المسلمين وتشَبّه بالكفّار..” (سبر 16 كانون أول 2013). وبصورة عامة، فإن الأصل في فتاوى علماء الوهابية هو حرمة إقامة الانتخابات مع القدرة وأن المشاركة في الانتخابات أو التصويت فيها هو الاستثناء والهدف منه دفع الضرر، أو دفع أعظم المفسدتين بأدناها وليس إقرار بالرضا بالواقع، أي بأصل الانتخابات، فالعلماء الوهابيون مجمعون على تحريم الديمقراطية وطريقتها في الانتخاب، وأن جواز المشاركة فيها أحياناً هو للحد من شرورها..

كخلاصة، فإن داعش وفق المعطيات سالفة الذكر يمثّل أشد الجماعات التكفيرية إسرافاً في إطلاق أحكام التكفير حتى لا تكاد تجد مسلماً خارج نطاق “داعش”، وفي ذلك التزام أمين بالتصوّر الوهابي الأول للعالم.

الصفحة السابقة