الفاجعة السعودية في اليمن

محمد قستي

مفاجئة بطعم الفاجعة أذهلت النظام السعودي عن التفكير بواقعية إزاء المتغيّر في اليمن منذ بدء الحراك الشعبي الأخير في 23 سبتمبر الماضي.

المبادرة الخليجية سقطت وسقط معها النفوذ السعودي بأكمله.

هرب علي محسن الأحمر، رجل آل سعود القوي، الى الرياض وشوهد وهو يؤدي فريضة الحج!

كما فرّ الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح للخارج، وقيل الى إثيوبيا، ولم يبق من رجال المملكة السعودية من يراهن عليه، فقد أطبق الثوّار على العاصمة التي كانت محرّمة عليهم بقرار ذاتي.

وقع الصدمة قبض على أنفاس الموغلين في شؤون اليمن، ونواحٌ يتصاعد من قصور الوصاية المفروضة، وحقائق يراد تجاوزها كي لا يحقق الثوّار ما بدأوه قبل ثلاثة أعوام حين أوصلوا رسالة واضحة للعالم، بأن سقوط النظام يتحقق بسقوط الوصاية الخارجية.

قالوا عن الحراك الشعبي في اليمن بأنه انقلاب، ومؤامرة خارجية إيرانية، وثورة طائفية، والقائمة مفتوحة تلك المستمدة من إرث الاستبداد.

فكي تكون وطنياً، وحرّاً، ووحدوياً فعليك أن تبارك المصادرة الكاملة للسيادة والإرادة الشعبية والحرية، والتسليم بسلطة الرئيس المستلب، والطبقة السياسية الفاسدة، والمؤسسة العسكرية غير الوطنية..

المملكة حزينة، لأن من ثاروا بالأمس في اليمن أرادوها عدالة وشراكة ومساواة، وهي القيم التي حاربها أهل حكمنا في الرياض، فصارت فئوية وإقطاعية واقتلاعية، ولم تجد في غير الاحتكار الشامل لكل مصادر السلطة والثروة سبيلاً لإدارة شؤون العباد والبلاد.

مملكة تريد تعميم نموذجها على من أنجاه الله من شرها، وشرور من لا يزالون يصرّون على تصوير ثورة اليمن وكأنها صنوٌ لمنتجاتهم الإرهابية. ولكن هيهات هيهات لما توعدون، فثورة شعب اليمن بكل مكوناته كانت ولا تزال من أجل حياة أفضل، وليس من أجل موت أبشع، من أجل الحرية والكرامة والمشاركة والعدالة والمساواة وليس لجلد الظهور وبتر الأطراف وقطع الرؤوس، وهي الممارسات التي ورثها داعش من تجارب مملكة القهر فصارت اليوم محفلاً وطنياً.

قبلت الرياض بالمصالحة السياسية على مضض، ريثما تعيد ترتيب أوراقها، وتستعيد أنفاسها، ولكن ما لبث أن ظهر التفجّع هجوماً مضاداً على الثورة الشعبية في اليمن من قبل الصحافة المحلية التي راحت تتفنن في (توصيم) الثورة بكل ما جاد به قاموس الاتهامات، والمفتتح دائماً يكون إيرانياً.

بعد مرور بعض الوقت على رسوخ النتيجة الثورية بأن الشعب اليمني بات هو من يقرر مستقبله ومن يحكمه، أطلقت السعودية مواقفها المناوئة، وعمدت الى تفعيل مكائن الثورة المضادة، وكان الموقف السعودي خليجياً كما هي العادة.

في الأول من أكتوبر الجاري عقد في جدة اجتماع طارىء لوزراء داخلية مجلس التعاون الخليجي وأصدر بياناً جاء فيه بأن (دول الخليج العربي لن تقف مكتوفة الأيدي حيال ما يجري في اليمن من حراك تنفذه فئه لصالح أطراف خارجية، تحاول التدخل في شؤون اليمن بطريقة استفزازية سافرة).

لا يحتاج الأمر الى كثير جهد، فالفئة المقصودة هي جماعة أنصار الله الحوثية، والأطراف الخارجية هي ايران.

البيان الخليجي الذي يحمل نقيضه معه، خصوصاً فيما يتعلق بالتدخل الخارجي، كشف عن تدخل سافر في الشأن اليمني، ليس فقط كونه يستند على معطيات مغلوطة من حيث أن الحراك الشعبي لم يكن حوثياً، وإن كان الحوثي فيه متميّزاً.. ولكنه حراك يمني وطني بامتياز جاء على وقع فشل الدولة، وفشل الحكومة، وفشل المبادرة الخليجية.

هناك من حمّل قادة مجلس التعاون الخليجي مسؤولية ما جرى في اليمن من صعود التيار الحوثي والنفوذ الايراني (بإقدامهم على إضعاف الحكومة المركزية، والجيش اليمني، وعدم تقديم المساعدات الاقتصادية اللازمة لتخفيف معاناة الشعب اليمني، واخراجه من حالة الفقر المدقع التي يعيش في ظلها، بينما ينعم اشقاؤه الخليجيون بالثراء الفاحش).

وأكثر تحديداً، فإن ثمة مسؤولية كبرى تقع على كاهل وزير الداخلية السعودي محمد بن نايف الذي ورث الملف اليمني من أبيه ومن عمه ولي العهد الأسبق سلطان بن عبد العزيز، رئيس اللجنة السعودية اليمنية العليا، أو ما كان يعرف بمكتب اليمن.

في اليمن، انهارت الامبراطورية المالية السعودية، وتبخّر النفوذ فجأة، لصالح خصومهم من الحوثيين ومن الحراك الجنوبي الذي بات شريكاً أساسياً في العملية السياسية اليمنية، وباتا هما من يقرر مستقبل الحكم، إذ لا يمكن تعيين رئيس للحكومة من دون العودة اليهما باعتبارهما مستشارين ملزمين للرئيس عبد ربه منصور هادي.

تقلصت خيارات السعودية في اليمن، ولم يعد أمامها سوى الخيارات الانتحارية بالمعنى السياسي.

من بين تلك الخيارات ما أشار اليه الصحافي سليمان نمر (القدس العربي، 6/10/2014) المقيم في الرياض والمقرب من مسؤوليها، في سؤال حول إحتمالية لجوء السعودية للمساعدة في تدبير انقلاب عسكري في اليمن للإطاحة بالحوثيين، في ظل نفي احتمالات التفاهم الإيراني السعودي، مسترشداً بتجربة السعوديين مع جمال عبد الناصر الذي وصل الى اليمن، بعد الثورة ضد حكم الامامة عام 1962، ومع ذلك رفضت الرياض التفاهم مع مصر على الشأن اليمني. والسبب في ذلك، أن السعودية كانت تنظر تاريخياً الى اليمن بأنها جزء من مجال نفوذها الحصري الذي لا تساوم عليه ولا تقبل إبرام صفقة مع أي طرف عليه، وهذا قد يكون مقتلها لأن التحوّلات التي شهدها اليمن قد يجعل منها دولة خصامية مع آل سعود من شمالها الى جنوبها.

إذن خيار التفاهم مع ايران غير وارد، ويربط سليمان النمر ذلك بساحات أخرى يعتقد بأن الرياض لم تقدّم فيها تنازلات لطهران مثل لبنان وسوريا، وبالتالي فلا يمكن أن نتوقّع تنازلاً سعودياً في اليمن.

النمر يعتقد بأن سقوط العاصمة اليمنية والسلطة بيد الحوثيين يمثل (هزيمة للمملكة العربية السعودية)؛ بل يراه أسوأ من هزيمة إذ كان السقوط بمثابة (صدمة) لها، خصوصاً وأنها (على دراية وعلاقة بكل تفاصيل الوضع اليمني، فللرياض امتدادات وعلاقات مع اليمن ـ خصوصا شماله ـ منذ عشرات السنين، وهي امتدادات قبلية وامنية وعسكرية وطبعاً مالية).

بكلمات أخرى، فإن سقوط صنعاء والسلطة المدعومة سعودياً، حصل أمام عين السعوديين وحلفائهم، ولم يستطع هؤلاء فعل أي شيء يحول دون نجاح الثورة الشعبية اليمنية. ويرجع النمر هزيمة السعودية الى عوامل مرتبطة بها وحدها: منها الاطمئنان الى أن المبادرة الخليجية قد أحكمت الخناق على الثورة اليمنية وعلى الحوثيين بوجه الخصوص، وأن الاهتمام يجب أن يتركز على القاعدة باعتبارها الخطر الذي يتهدد الداخل السعودي، ثم طرأ خصم جديد متمثلاً في الاخوان المسلمين ـ الفرع اليمني ـ ممثلاً بحركة الاصلاح التي لم تكن على عداء مع السعودية بل كانت من ضمن الحلفاء، ولكن لربما كانت الرياض تحاول الإفادة منها في محاربة الحوثيين ولم تنجح بعد أن اخترق الاصلاح عناصر القاعدة والدواعش كما يقال في الشارع اليمني.

السؤال المطروح بعد المتغيّر الثوري في اليمن، كيف ستتصرف السعودية وما هي خياراتها، وهل تستطيع تحصين حدودها الجنوبية مع اليمن والتي يبلغ طولها نحو 1200 كيلومتراً؟

من الواضح أن الرياض غلّبت الشقّ الأمني على الشقّ السياسي، بدليل أن اجتماع جدّة الطارىء حضره وزراء داخلية دول مجلس التعاون الخليجي وليس وزراء الخارجية.

في السياق الأمني، يطرح سؤال استهداف السعودية الثورة اليمنية بأدوات الارهاب، خصوصاً بعد أن بدأت عناصر القاعدة استهداف تجمّعات الحوثيين بعمليات انتحارية. وقد لعبت الصحف السعودية ومشيخات الوهابية دوراً تحريضياً على القتال ضد الحوثيين، حيث أطلقت الصحف الرسمية مناخاً ساخناً عبّرت عنه صحيفة «عكاظ» في نهاية سبتمبر الماضي، ونقلت عما أسمتها مصادر مطلعة، بأن جماعة الحوثي تخطط لمواصلة نشر الفوضى في عدد من المحافظات اليمنية خصوصا الحديدة وإب والبيضاء ومأرب وتعز، مضيفة أن الجماعة تستهدف الضغط على السلطات الرسمية وابتزازها للحصول على مزيد من المكاسب السياسية.

وتابعت (عكاظ) أن توجيهات صدرت للأجهزة الأمنية باتخاذ الحيطة والحذر تخوفاً من هجمات لتنظيم القاعدة، مشيرة إلى أن الأخير يسعى للسيطرة على محافظات جنوبية أبرزها عدن كمنطلق لعملياته العسكرية في مواجهة التمدد الإيراني الذي ينفذ أجندة تستهدف المجتمع اليمني، على حد تعبير ما وصفتها الصحيفة بأنها مصادر أمنية يمنية.

منابر سعودية أخرى حذرت من انزلاق اليمن في حرب أهلية تجهز عليه تماماً، معتبرة أن الطبخة تتم بتصميم شديد على إنجازها في الوقت المناسب وأن الآخرين مستسلمون لما يجري، وما قد يكون أفظع كما قالت.

في المقابل، أطلق الشيخ الجدلي محمد العريفي نداءه التحريضي للشباب بوجوب الجهاد في اليمن ضد الحوثيين «الروافض»، واعتبر ذلك من أولى الأولويات، في سياق تهيئة الأجواء لساحة قتال أخرى في المنطقة تشارك فيها الحكومة بفتح كل المنابر الاعلامية والدينية لأدوات التحريض ثم تتخلى عنهم لحظة الحساب.

من جهة ثانية، دفعت الرياض الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي للقيام بخطوة استباقية في 7 أكتوبر الجاري بتكليف مدير مكتبه ومساعده بن مبارك بتشكيل الحكومة، استناداً الى مبدأ في اتفاقية السلم والشراكة يخوّل الرئيس هادي تفويض من يراه مناسباً في حال لم يقدّم الموقّعون على الإتفاقية مرشحهم في المدّة المقررة، وهذا ما ترفضه الأطراف الموقّعة، وتعتبره «انقلاباً» على الاتفاق، خصوصاً وأن الشخّص المكلّف من قبل هادي لا تنطبق عليه الشروط المتوافق عليها تلك المتعلّقة بالنزاهة والحيادية.

كلمة زعيم جماعة أنصار الله السيد عبد الملك الحوثي مساء الثامن من أكتوبر الجاري جاءت سريعة وحاسمة، لتؤكد إصرار الجماعة على أنها لن تمرّر أي خطوة خارج الاتفاق، وعلى الرئيس هادي الالتزام بما تمّ الاتفاق عليه، وقد تخلى هادي عن مرشحه لصالح آخر.

الرهان السعودي على إحداث انقسام داخل جبهة المعارضة لم يحقق هدفه بسحب البساط من الجماعة الحوثية، كما لم يثن القوى الوازنة في المعارضة عن السير بالحراك الشعبي الى النهاية، أي الى حيث يجب أن تصل إرادة الشعب اليمني في بناء دولته الوطنية القائمة على الشراكة الكاملة.

رد الفعل على خطاب قائد أنصار الله، عبد الملك الحوثي، بإسقاط مرشّح الرئيس اليمني، جاء إرهابياً، حيث دخلت الوهابية المسلّحة عبر «القاعدة» و»داعش» على الخط ونفّذ أحد عناصرها تفجيرياً انتحارياً وسط المتظاهرين في ميدان التحرير بالعاصمة صنعاء، وأودى بحياة ما يقرب من المائة شخص وجرح العشرات. أكّد الحادث ما كان يردّده الثوار اليمنيون بأن القاعدة لعبة سلطة أكثر منها تنظيماً مستقلاً يحمل مشروعه الخاص.

في رد الفعل أيضاً، تحرّكت قوات سعودية الى الحدود مع اليمن في محاولة للاستعداد لخوض مواجهات مسلحة ضد الثوّار. وفي المشهد العام يحضر: العامل الأميركي، والقاعدة وداعش، والعامل السعودي وكلهم يعملون في خندق مواجهة الثورة الشعبية الممثلة بكل الأطياف اليمنية.

خسارة الرياض كبيرة، فإما أن تقودها الى مزيد من الجنون، أو تشكّل فرصة لمراجعة سياستها واستعادة مكانتها.

الصفحة السابقة