مجزرة الأحساء

داعش تطلق موجة العنف الثانية

محمد قستي

لم تكن مفاجأة في السعودية أن يتقدم ثلاثة أشخاص، من مواطنين شيعة في قرية الدالوة بالأحساء شرق البلاد، فيرشّونهم بالرصاص، فيجرحون العشرات، ويقتلون نحو عشرة اشخاص، أكثرهم أطفال، وبينهم واحد من ذوي الإحتياجات الخاصة.

لماذا لم تكن مفاجأة؟

لأن العقل يهدينا بأن بلداً يروّج للحروب الطائفية لاستخدامه السياسي خارجياً وداخلياً، ويتسامح امام دعوات القتل من منابر رسمية وغير رسمية، ويدرّس في مناهجه عقائد التكفير للآخر المختلف مذهبياً.. نظام كهذا لا بدّ وأن يحصد نتائج هذا الزرع عاجلاً أم آجلاً.

كان البعض يعتقد بأن ارتدادات هذه السياسة التي زاد جرعتها الطائفية الملك فهد منذ حادثة جهيمان في نوفمبر 1979، ستتمحور في موجة عنف فقط، كما فعل الأفغان العرب في تفجيرات العليا والخبر عامي 1995 و 1996؛ ثم بشكل أكثر شراسة على يد القاعدة بين عامي 2003 و 2006، حيث ذهب المئات ضحايا التفجيرات في المدن السعودية الرئيسية.

الحقيقة ان هذا العنف المؤسس له طائفياً، ارتدّ على النظام، الذي زعم أنه استطاع السيطرة على الموجة الأولى من العنف القاعدي. وهذه الموجة الثانية التي بدأت الآن مع مجزرة الدالوة ـ كما تسمّى ـ قدّمت الحرب الطائفية مختلطة مع العنف، وكأنّها تريد اشعال الفتنة الطائفية بغية اصطفاف دواعش ووهابيو الداخل مع البغدادي؛ ليُصار لاحقاً الى صراع مفتوح مع النظام ورموزه.

مجزرة الدالوة غير مسبوقة تاريخياً، فالعنف المصنّع محلياً، رجالاً وفكراً، وتمويلاً، كان غرضه الاساس هو الإستهلاك الخارجي، ثم تم تحويله بالشدّة نفسها الى الداخل المعارض للنظام، ثم انقلب على النظام، وأصبح خارج السيطرة.

توضح المجزرة، ان المواطنين الأبرياء يمكن أن يكونوا ضحايا صراع داعش وأمّها الشرعيّة القاعدة من جهة ونظام آل سعود من جهة ثانية، لأهداف سياسية بحتة، وإلاّ ما هي الجريمة التي ارتكبها المواطنون الشيعة في السعودية بحق البغدادي وتنظيمه، حيث لا يوجد من يقاتل ضدّه، ولا هؤلاء منخرطون في سياسة الحكومة محلياً لمواجهة داعش، فلا هم من يعذب في السجون ولا هم من يكتب في الإعلام المضاد، ولا غير ذلك. المقصود من قتل الأبرياء إحراج آل سعود من جهة أنهم غير مسيطرين أمنياً على الوضع الداخلي؛ وتفعيل المشاعر العدائية لدى الوهابيين لينصروا داعش، ومن ثمّ توجيههم ضد النظام نفسه.

لم يتأخر البغدادي، ففي آخر خطاب صوتي مسجّل له، وضع في قائمة أولوياته قتل المشركين الشيعة في جزيرة العرب كما قال، مضيفاً بأنه لا مكان لهم فيها، وهو قد دعا الى قتل الملايين منهم بالجملة، أي انه تكفير وقتل بالجملة: (عليكم أولاً بالرافضة حيثما وجدتموهم) قبل أن يتوسع بالدرجة الثانية الى أمراء الأسرة الحاكمة في السعودية وجنودهم من الصليبيين، مضيفاً: (مزّقوهم إرباً، نغّصوا عليهم عيشهم، وعمّا قريب ان شاء الله تصلكم طلائع الدولة الاسلامية)؛ مؤكداً ان دولته ستتمدد الى السعودية واليمن وغيرها، وأنه بصدد إعلان قيام ولايات جديدة، وأنه سيتم تعيين ولاة عليها.. يجب السمع والطاعة لهم.

لطالما ظنّ آل سعود أنهم يستطيعون السيطرة على النار التي أشعلوها، بحكم التجربة السابقة، لكن تجاربهم الأخيرة لا توحي بأية نجاح، منذ التجربة الأفغانية. الآن تعود النار الى السعودية نفسها، حيث مصدر الإنتاج بل مصنعه، وفيها من الدواعش ما يفيض الى دولة البغدادي، والروح الطائفية التي بثّتها جعلت من الشيعة هدفاً رغم انهم من الناحية السياسية يقفون ضد النظام السعودي. بحيث يمكن القول بأن مجزرة الأحساء ما هي إلا بداية، وما يؤكّد ذلك خطاب البغدادي نفسه الذي ينذر ويهدد بالكثير.

الحصاد المرّ هو ما تتلقاه العائلة المالكة اليوم المسؤولة عن كل هذا العنف في المنطقة العربية، وهو ما سيدفع ثمنه جميع فئات المجتمع المُسعود. فحسب التجربة، قد يبدأ القتل بالشيعة، ولكنه لن ينتهي بهم، ولعلّ هذا الفهم هو الذي أوقظ المخاوف الشديدة لدى المواطنين في كل المناطق ومن كافة الاتجاهات المذهبية والسياسية ليدينوا مجزرة الأحساء.

نعم ما جرى في الأحساء هو حصاد التعليم البائس، والتمييز الطائفي الممنهج، والتحريض منفلت العقال على العنف، واستثمار الطائفية لأغراض سياسية، وكذلك استثمار القاعدة واخواتها في السياسة الخارجية السعودية. وبالتالي فإن المتوقع هو المزيد من العنف الوهابي القاعدي الداعشي يقوم به مواطنون تخرّجوا من مدارس النظام، وتربّوا تحت منبر خطباء مؤسسته الدينية، وقرأوا كتب دعاته، وتتلمذوا على يد خريجي جامعاته الدينية البائسة.

لكن وجهاً مشرقاً ظهر من رحم المأساة. نحو ربع مليون مواطن شيّعوا الضحايا في حادثة غير مسبوقة في تاريخ السعودية، فكانت أشبه ما تكون بتظاهرة سياسية، نددت بالتحريض على العنف، والطائفية، والتعليم الفاسد، وغياب القانون.

مواطنون سنّة وشيعة، جاؤوا من شتى المناطق.. من شرق المملكة الى غربها، ومن شمالها الى جنوبها؛ ومن شتى المذاهب جاؤوا الى الأحساء لتشييع الضحايا، متضامنين ضد الإرهاب الداعشي، وبشكل مستتر ضدّ سياسات النظام التي أنتجت العنف في الداخل، وصدرت بعضه الى الخارج، وحتى هذا عاد مرة اخرى للداخل على يد الخليفة الجديد البغدادي، ليتم تفعيله في مقاتلة النظام وقتل المواطنين، استناداً الى أفكار التطرف والعنف الوهابية نفسها.

الروح الوطنية التي ظهرت في تشييع شهداء الدالوة يمكن أن يُبتنى عليها لو ان النظام أعاد حساباته من جديد، وقرّر فتح صفحة جديدة لا تتعامل بانتهازية، تبدأ وتنتهي بمحاربة داعش محلياً فحسب، بل تتجاوز ذلك لتتعاطى مع جذور الإرهاب والتطرف الفكرية؛ وتخلق مناخاً مضاداً عماده التسامح، والمشاركة السياسية، واطلاق سراح المعتقلين، وتوفير حرية التعبير والتجمع وغيرها، واحترام حقوق الإنسان.

اما التعاطي تكتيكياً مع الحدث، واستثماره في محاربة النظام لخصومه كما فعل حتى الآن، حيث اعتقل العشرات من سبع مدن وربطهم بمجزرة الأحساء، وهو آخذ في التوسع في الإعتقالات والقمع لكل الجهات.. فهذا الفعل الإنتهازي، يؤكد حقيقة ان نظام آل سعود لم يتعلم درساً، لا من تجارب الآخرين، ولا من تجاربه الخاصة.

الموجة الأولى للعنف القاعدي التي بدأت بعد أحداث سبتمبر 2001، استطاع النظام القضاء عليها بنسبة كبيرة، عبر الحل الأمني دون ان يمسّ الفكر العنفي ومروجيه، ودون أن يعالج بيئة العنف والتكفير نفسها اجتماعيا وسياسيا. ومن اسباب نجاح آل سعود النسبي كان وقوف المجتمع وفعالياته السياسية والاجتماعية ضدّ تلك الموجة، بوعد من النظام انه سيقوم بالتغيير السياسي، ولكنه حين انتهى من ضرب القاعدة لم يأتِ على ذكر كلمة (الإصلاح السياسي) ولو لمرة واحدة طيلة عقد من الزمن تقريباً. على العكس قام باعتقال كل الناشطين الحقوقيين والسياسيين، وضرب كل فئات المجتمع، حتى أن أحداً لا يطالب اليوم بالإصلاح السياسي، لأن النظام قد أغلق صفحته نهائياً، وكلّ هم النشطاء ان لا يكون الواحد منهم هو التالي في قبضة الأمن تحت طائلة قانون الإرهاب الذي أصدره، أو قانون جرائم المعلوماتية، وغيرها.

هذه المرّة، في الموجة الثانية من العنف التي افتُتحت في الأحساء، وكما يهدد البغدادي، وكما تشي ملامح التجربة في الأشهر الماضية من اطلاق صواريخ داعش في عرعر شمالاً، وهجوم شرورة القاعدي جنوباً.. هذه المرّة لن يكون هناك مؤيدون للنظام في معركته مع داعش، او لنقل سيكون المؤيدون قليلين، والحماسة قليلة، وسيتركونه ينزع شوكه بنفسه، وإن كان الجميع سيدفع ثمناً للعنف الداعشي المتوقع.

نظام أنتج الطائفية والعنف والدم.. نظام رفض الإصلاح ويصرّ على الرعونة والجمود والفتك بمن يختلف معه.. هذا النظام يخوض حربه الأمنيّة الجديدة ضد الجميع، فهل سينجح؟!

الصفحة السابقة