من التطرّف الديني الى الفجور السياسي

منصور النقيدان.. عرّاب من؟

هيثم الخياط

اختار بملء إرادته الخروج عن النص الوهابي الذي تربّى عليه سنين طويلة، وجعلت منه محارباً شرساً ضد كل من هو آخر، وما هو حديث..

تمرّد على ماضيه الوهابي والديني معاً، واختار الانزياح لكل ما هو على النقيض منه، وهذا شأنه، ففي نهاية المطاف الدين ليس شيئاً آخر غير الاختيار الحر، وهو ما لم يكن يستوعبه النقيدان خلال تجربته الوهابية، ولربما يكون السبب في ارتداده عليها بطريقة انتقامية..

كتب النقيدان تفاصيل عن تلك التجربة ابتداءً من لحظة اعتناقه السلفية الوهابية في بعديها الدعوي والحركي مروراً بالأدوار التي زاولها لترجمة التعاليم الوهابية على الأرض بما في ذلك مهاجمة المحلات، وحملات المداهمة للأماكن العامة، لكونه شرطياً دينياً في «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»..

تخلى عن خياره السلفي الوهابي المتطرّف، وسلك طريقاً آخر ورغم السنوات الطويلة لم تتبلوّر معالمه، فهو يجمع بين الليبرالية في شكلها الإجتماعي والحداثة في بعدها العلماني الكلاسيكي..

في الشكل، خرج منصور النقيدان الى دولة الامارات بعد زوبعة داخلية على خلفية مقارباته الحادّة حول التيار السلفي في جريدة «الرياض»، فجاء السفر بمثابة تسوية، وتمّ تبرير ذلك بترؤّس مركز «المسبار» الذي يملكه تركي الدخيل، إبن خالة النقيدان. في دوائر اعلامية سعودية من يدرج الدخيل في خانة «الداخلية»، ويرى بأن النقيدان وقع فريسة التوظيف الأمني. في المقابل، تؤكّد الغالبية بأن النقيدان على علاقة مع الديوان الملكي، ومع الأمير متعب بن عبد الله، نجل الملك، الذي تربطه بالدخيل علاقة صداقة طويلة.

كل ذلك لا يعنينا ولا يمت بصلة الى ما نحن فيه، فالخيار الفكري يعدّ شأناً فردياً خالصاً، ولكن الكلام عن خياره السياسي، وما ينعكس في مواقف من قضايا عامة، أي ما بما يلحقه هذا الخيار من أضرار على المستوى الأهلي..

لا يعيب النقيدان الكتابة في الموضوعات الدينية، بصرف النظر عن درجة حساسية كل منها، ولا يعيبه تناول الفكر الاسلامي عموماً دراسة ونقداً وتطويراً، فهذا ما يفعله كل المفكرين الاسلاميين والمعنيين بتطوير الفكر الديني في العالم..

ما يعيبه حقاً هذا الجنوح الذي برز مؤخراً في مقارباته السياسية التي يثار فيها الجدل، وتتطلب جرأة فائقة لا يقدر النقيدان على تحمّل تبعاتها، كونها تتطلب موازنة بالغة الدقة للمواقف، ومقاربة متعدّدة الأبعاد. وطالما أن النقيدان يقارب موضوعات فيها أكثر من طرف، فلابد من توفير معطيات كافية عن كل طرف قبل البدء بتحليل القضية مورد النقاش وقبل الوصول الى نتائج..

لاريب أن النقيدان يميل الى مقاربة الموضوعات الحساسة منذ انقلابه على خياره السلفي المتطرّف. فنقل تطرّفه الى موضوعات أخرى، ولعل تعليقه على سؤال عن ارتفاع نسبة الانتحاريين السعوديين في «داعش» بـ «سهولة استحمارهم» أحد تمظهرات هذه النزعة المتطرّفة..ولكن ليس هنا القضية.

حب المغامرة والانغماس في الملفات الملتهبة تدفعه أحياناً الى اقتراف أخطاء فادحة ترتد على تقييمه كمثقف حر.

كتب النقيدان مؤخراً مقالين عن القطيف، ولم يأت فيهما بجديد على مستوى الفكر السياسي، ولا في إطار دراسات سيسيولوجيا المعرفة أو السيسسيولوجيا السياسية. فقد جمع بين الكتابة الصحافية ومقالات الإثارة التي لا تشتمل على مقاربة من أي نوع، فهي مجرد منشور سياسي رسمي جرى تمريره عبر الصحافة.

في المعلومات، حمل منصور النقيدان الى القطيف مبادرة من الحكومة لبعض الناشطين فيها، والمبادرة تتلخص في مشاركة ناشطي القطيف في حرب الحكومة على الإرهاب كشرط لاستئناف العلاقة الفاترة مع تيار سياسي قطيفي.

ولكن هناك من يشكّك في مثل هذه المعلومات ويرى بأن مقالات النقيدان النقدية لهذا التيار تلفت الى أن الحكومة لا تزال على موقفها لناحية تهميش هذا التيار وترجيح خيار آخر بديل مثل «جماعة الديوانية» كما يطلق عليها أهالي القطيف، وتضم مجموعة مثقفين دينيين وليبراليين تربطهم بالصحافي وعضو مجلس الشورى محمد رضا نصر الله علاقة وثيقة.

مصادر مقرّبة من «الديوانية» تقدّم رواية أخرى عن مهمة النقيدان في القطيف، فالرجل وهو المقرّب من الديوان الملكي ومن الأمير متعب بن عبد الله، جاء بدعوة من «جماعة الديوانية». في التحليل، مهمة النقيدان تتلخص في دعم الأخيرة في مقابل جناح آخر يقوده الشيخ حسن الصفار والدكتور توفيق السيف، وهو جناح فقد كثيراً من روابطه مع الحكومة بعد أن شعر بأن لا طائل منها، بل وخسّرته كثيراً خصوصاً بعد الضربات التي وجّهتها الداخلية له بتوقيف الصفار في الرياض في فندق بحجة لقاء محمد بن نايف، وزير الداخلية، فضلاً عن تدابير المنع من السفر والمضايقات التي تعرّضت لها الجماعة وخسّرتها شعبياً، ثم قرّرت الداخلية تهميشها سياسياً وترجيح كفة «جماعة الديوانية» بالرغم من افتقارها الى حيثية شعبية وازنة..

نشير الى زيارة الأمير متعب الى المنطقة الشرقية ولقائه بوفد من القطيف مؤلف في أغلبه من أعضاء «جماعة الديوانية» مع مشاركة محمد باقر النمر، شقيق الشيخ نمر النمر، وهو مصنّف على جناح الشيخ الصفار..

تتوارد أنباء من أوساط جماعة الصفار ـ السيف بأن الحكومة سوف تضطر الى العودة اليها باعتبارها الجماعة الوازنة شعبياً من بين الجماعات التي تميل الى التواصل مع السلطة، وهناك منافسة وجهائية محمومة بين جماعة الصفار ـ السيف وجماعة «الديوانية»، فيما ينشط محمد رضا نصر الله لجهة تسويق الأخيرة لدى الدولة، وهو الذي يبرع في مثل هذه المناسبات لناحية تقديم نفسه الأشدّ ولاءً لولاة الأمر..

تتحدث مصادر مطلّعة على أوضاع جماعة الصفار ـ السيف بأنها محبطة إزاء تجاهل الحكومة لهم، وأن الشيخ الصفار قال في إحدى ليالي رمضان بأننا لم نعد تياراً، وأن كل شخص يضطلع بما يراه مناسباً من أدوار ونشاطات مدنية..

مقرّبون من الصفار ـ السيف ينتقدون ميل الحكومة الى «جماعة الديوانية» التي وهبت لأفرادها «تقديمات» إجتماعية سخيّة، من بينها تقديم قطع أراضي..يتناقل مقرّبون من الصفار ـ السيف أن رجال «الديونية» حصلوا على مكافآت نقدية من محمد بن فهد، أمير المنطقة الشرقية السابق، لا تقل حصة كل واحد عن 100 ألف ريال. في المقابل، في «الديوانية» من يتحدث عن إعطيات الأمير سلطان، ولي العهد الأسبق، لمنافسيهم..

التفسيرات المريحة لدى جماعة الصفار ـ السيف أن مقالات النقيدان عن القطيف والانتقادات اللاذعة التي وجهها للجماعة لا تتجاوز الابتزاز الأمني، ورسالتها واضحة ومفادها: إما التعاون معنا أو سوف نسلّط عليكم النقيدان ومن لفّ لفّه..

مهما تكن التفسيرات، فإن النقيدان جاء الى القطيف في مهمة محدّدة. كتب بطريقة الصحافي الاجنبي الذي يزور بلداً لأول مرة، نقل ما يشاء من معطيات، وفسّرها بطريقة تخدم المهمة الموكلة اليه.

لم ينشر مقالاته في جريدة محلية، بل اختار جريدة «الاتحاد» الاماراتية، وفي ذلك هدف ما. فماذا تعني «القطيف» للقارىء الاماراتي؟ لا شك أن شريحة القرّاء هي في مكان آخر، وأن هذا سبب إضافي للتشكيك في أصل الهدف. وعلى طريقة التخطيط الاعلامي الاستخباري، أن تضع خبراً في صحيفة هامشية في أقصى العالم ثم تعيد نشرها في جريدة كبرى بنسبتها الى تلك الصحيفة كي تضيع أثر المصدر الأول..فإن النقيدان اختار الصحيفة الاماراتية كي ينفي أي انطباع عن ضلوع أي جهة رسمية محلية بأن تكون هي المحرّض على المقالات..

النقيدان في مقالته «المسألة الشيعية في المملكة» المنشور في 20 أكتوبر2014 في جريدة «الاتحاد» يستعرض فترة إقامته في مدينة القطيف لمدة ثلاثة أيام..بدأها بكذبة «في فترة من الهدوء النسبي، وشبه انعدام لنقاط التفتيش وسلاسة الحركة..»، ليؤسس عليها باقي الأكاذيب. هو يريد القول بأن الانطباعات التي أخذها من الأهالي تمّت في أجواء هادئة وليست متوترة، وأنهم قدّموا آراءهم بعيداً عن أي ضغط..في مواقع التواصل الاجتماعي كلام كثير عن المضايقات التي يتعرض لها سكّان هذه المنطقة من نقاط التفتيش المزروعة في مداخل المدن وعلى الطرق السريعة فكيف صار «انعدام نقاط وسلاسة الحركة».

راح النقيدان يتفنن في نقد الحراك الشعبي الذي يصفه بالاضطرابات وينقل عن من يوهم الرأي العام بأنهم الممثلون الحقيقيون للشارع القطيفي. تناسى سقوط أكثر من 22 شاباً برصاص الأمن السعودي في مظاهرات سلميّة خالصة، وأضاء على ما وصفها بـ «الاعتداءات الأمنية» من «الذين جلبوا الكوارث والمصائب على أهالي القطيف..». كوارث ومصائب؟! أوصاف لا تصدر عن مجرد مراقب جاء في فترة هدوء يفترض أن لا يراها، خصوصاً وهو يتحدث عن أمر مختلف عليه. وأما الاعتداءات الأمنية التي تحدث عنها فهي بالتأكيد لم تكن خلاصة «شهادة عيان» وإنما مسبقات «أمنية» غالباً.

قدّم مطالعة إطرائية للحكومة تبّز «كتّاب القصر»، حتى ليشعرك النقيدان وكأنه يكتب من جنيف، لفرط سخاء ولاة الأمر على أهل القطيف، ولكنّهم عضّوا اليد التي مدّت لهم..أليس هذا ما يحاول النقيدان تمريره في مقالتيه؟

دهشات النقيدان لا تنقطع في القطيف، فمن دهشة الى أخرى، ومن بينها أنه حظي بفرصة نادرة بمرشد يدله «على الأماكن التي استهدف منها رجال الأمن في الفترات التي شهدت توتراً ومسيرات في السنوات الثلاث الماضية، وكيف استفاد بعض المسلحين من بعض الأماكن للتمركز فيها لإطلاق الرصاص أو رمي قنابل «المولوتوف»». من يقرأ هذه الفقرة يأخذه الخيال الى جبهات الحروب الساخنة، والدموية، حتى بات هناك نقاط خاصة للقنص، ودشم، ومتاريس، ومراكز رصد..وكم سقط من جنود الأمن بفعل هذه الاستعدادات والتجهيزات العسكرية الهائلة؟!

لا ذكر مطلقاً لضحايا المظاهرات السلميّة، وكأنهم لم يقتلوا برصاص قوات الأمن، بل ثمة حالة انكار لوجودهم في الأصل، بينما الكلام يدور حول «الاعتداءات الأمنية»، ولكن لم يرد ذكر لا لحوادث ولا أسماء ولا تواريخ ولا صور..هي اعتدءات وكفى وعلى الجميع تصديق كذبة الداخلية والنقيدان من ورائها..

نعم ذكرت المصادر الأمنية إسمين من رجال الأمن، قتلوا في ظروف غامضة في القطيف، وقد يكون هناك من صوّب الرصاص عليهم من حملة السلاح المنتشرين في كل أرجاء المملكة السعودية، ولكن محاولة تحريف الحقائق وتوجيه الاتهام للمتظاهرين في القطيف بأنهم هم من أطلقوا الرصاص على رجال الأمن وهم وهم. هي لتبرير الجريمة التي ارتكبها رجال «الداخلية» ليس إلا...

النقيدان جمع ما في جعبة «الداخلية» ورمى بها في مقالته، بما فيها «قصة» الخلية الاستخبارية التابعة لإيران، وهي خلية لم يخضع أفرادها لا للمحاكمة حتى الآن فضلاً عن توفير بيئة قضائية مناسبة لتوفير شروط المحاكمات العادلة. النقيدان تلقّف كل ما ذكرته «الداخلية» ووضعها كمسلّمات دون مجرد التوقف عند أي من جزئياتها، وكيف أن سنّة من أهالي القصيم ووافدين من سنة إيران يدرسون في الجامعات السعودية، ومن شيعة أهالي المنطقة الشرقية، يجتمعون في خلية واحدة وايرانية ويتم رصدهم وهم يتخابرون مع المخابرات الايرانية..أليس في هذه القصة ما يثير سؤالاً ولو واحداً؟ لا يمكن لصحافي عاقل أن تمرّ مثل هذه المعلومات دون سؤال، مجرد سؤال، ما لم يكن الصحافي على علاقة بالجهة التي تقف وراء إصدار التقرير.

ينتقل النقيدان الى فقرة «تحميل المسؤوليات» ويغمز في الجهات التي أوكل بذكرها وعلى رأسها «جماعة الصفار ـ السيف». هو لا يتحدث من باب التقييم والتحليل بل من باب التعريض والتشويه، ولا يقارب موضوعاً فيه طرفان الحكومة وأهالي القطيف، فقد حسم النتيجة قبل أن تطأ أقدامه هذه المحافظة، بأن أهلها مخطئون آثمون وأن الحكومة وادعة سخيّة نقيّة ثيابها ضحيّة أفعال إجرامية على ايدي أبناء القطيف..

يقول النقيدان بأن مشكلة شيعة القطيف تكمن، جزئياً على الأٌقل حسب منطقه المعتدل جداً «في بعض من رموزهم الذين تآكلت شعبيتهم، وذوَى تأثيرهم، فهم يحرصون على التشبث المرَضي بأن يبقوا هم وحدهم من دون غيرهم في الصورة وأن يحتكروا وسائل التواصل والقنوات مع المسؤولين وأصحاب القرار».

كلام قوي جداً، ولا يصدر هكذا من مجرد صحافي يبتغي الحقيقة، فقد انغمس في الخلاف القطيفي ـ القطيفي حتى الركب. يتحدث النقيدان وكأنه للتو قد خرج من مجلس «جماعة الديوانية» أو من أي مجلس آخر، وأراد بذلك الفتنة دون سواها. ما يقوله النقيدان لا شك كان متداولاً في أوساط ما أهلية، ولكن أن يسوقها النقيدان وكأنها خلاصة قراءة، بل وأن تأتي وكأنها من متبنياته السياسية، كما توحي الفقرة نفسها تخرجه من حياديته وتقذف به في أتون معركة داخلية يريد منها تحقيق منجز شخصي وأمني في آن.

يحاول النقيدان إيصال رسالة واضحة من الحكومة الى جماعة الصفار ـ السيف، بعبارات شبه واضحة بما نصّه :»تحتاج سياسة الدولة التي انتهجتها عبر عقود من إسباغ الحظوة على فئة من ذوي التاريخ المعارض من الناشطين السياسيين، الذين عادوا إلى البلاد في عام 1993 إلى إعادة نظر، فقد صنعوا صورة مبالغاً فيها عن أنفسهم من أنهم هم صمام الأمان ومرتكز التوازن الاجتماعي في المنطقة، وحين عاشت المنطقة انفلاتاً أمنياً أعلنوا عجزهم عن القيام بدورهم».

في التفسيرات المباشرة أن النقيدان يريد القول بأن جماعة الصفار ـ السيف أخفقت في الاصطفاف إلى جانب الحكومة خلال التظاهرات الشعبية وعليها أن تدفع الثمن، أي باستبدالها بجماعة «الديوانية». وفي التفسير غير المباشر، يريد النقيدان السلطوي «عملاء» في القطيف للدولة، وليس «شركاء» في وطن، وهذا يلخّص وباختصار العقل المأزوم المزروع في جمجمة النقيدان وأقلام «الداخلية».

يواصل النقيدان تحليله بتجاوز المسألة الشيعية وحصرها في النيل من جماعة الصفار ـ السيف، محور مقالته. كل فقرة في مقالته تستحق التوقّف، وتثير أسئلة، فهو هنا غادر صفته الاعلامية والثقافية وتحوّل الى رجل أمن في رداء صحافي. يوجّه نقداً الى جماعة الصفار ـ السيف بأنها أدمنت لعب دور الوجيه الذي يستأثر بدور الوساطة مع الحكومة في كل شؤون الشيعة صغيرها وكبيرها. وكاد يضفي طابعاً شخصياً وهو يتحدّث عن «الوجيه» الذي يكاد يحدّده في شخص ما في الجماعة المستهدفة. يريد القول بأن هذا الوجيه و»مجموعة صغيرة من أتباعه ومريديه والدائرين في فلكه والمنتفعين بما يمنحهم» كان يحتكر التمثيل الشيعي أمام الحكومة، فيما جرى «إقصاء آخرين هم أكثر حكمة وثقة وخوفاً على أمن بلدهم وحدباً على مصالح مواطنيهم»، في إشارة الى «جماعة الديوانية».

ولأن قضية الشيخ نمر النمر لابد من إقحامها بمناسبة أو بدونها، فإن «شيطنة» القطيف وتجريم حراكها السلمي يتطلب موقفاً وجماعة تمتثل لاملاءات «الداخلية». وحسب النقيدان فإن ثمة حاجة «لتكثيف التوعية للأهالي في القطيف على أن العنف والإرهاب تجب إدانته من الجميع». يريد القول بأن عملية اختطاف لوعي القطيفيين جرت من جهة ما، وإن الوعي لا يستعاد الا بإدانة «العنف والإرهاب»؟ هل حقاً يعي النقيدان معنى هذين المصطلحين، ودلالاتهما، ومصاديقهما؟ هل يمكن لمراقب للحراك الشعبي في القطيف أن يصفه بالعنف والارهاب؟ وعلى فرضية مقتل إثنين من رجال الامن خلال ثلاث سنوات من بدء انطلاق التظاهرات السلمية، هل يصح توصيف ما جرى بالعنف والارهاب؟ كيف وإذا به يقول بأن «العنف والسلاح والفوضى» هو ذريعة المطالب الاجتماعية. هل يعي حقاً ما يقول؟!!

الفقرة التالية كانت رسالة أمنية شديد الوضوح، وكأننا أمام بيان للداخلية يتلوه اللواء منصور النقيدان: «على كل سعودي أياً كانت ديانته أو نحلته أو فكره، وعلى كل من يعيش على أرض الجزيرة العربية، وعلى كل من تعبث به حميا العمالة والخيانة أن يعي تماماً أن المملكة العربية السعودية صمدت ثلاثمائة عام، وستبقى شامخة قوية، وأرضاً خصبة ولادة للعظماء...الخ». لابد أن يلي تلاوة الفقرة تصفيق حار لإبن نجيب من أبناء «الداخلية» المخلصين، ولا أظن أن هناك من سوف يتردد في فهم رسالة المقالة طالما أن من يريدهم في القطيف مجرّد أبواق وأقلام مأجورة تعمل بالإشارة لطاعة ولي الأمر.

لم يخف النقيدان هدفه «الأمني» ولا الخلفية السياسية التي ينطلق منها، بل حسم أي نقاش حول الغاية من ترجيح طرف قطيفي على آخر، حين ختمها بمقطع من بيان سياسي ممجوج يطيح النقيدان ويحيله الى مجرد قلم أمني بامتياز.

شعر النقيدان بأنه لم يشبع من وجبة التشفي التي تناولها في مقالته، فألحقها بمقالة أخرى بعنوان «اكتشفوا تنوع القطيف» نشرت في «الاتحاد» الاماراتية في 3 نوفمبر الجاري. دعوة جميلة لأن يكتشف القارىء «الاماراتي!» التنوّع في القطيف، وكان حريٌ بالنقيدان أن يفتح الدعوة على بلد بأكمله ويطالب القراء في كل أرجاء العالم بأن يكتشفوا تنوّع المملكة، التنوع المذهبي، والثقافي، والسياسي، والاجتماعي.. فليست القطيف وحدها التي تتميّز بالتنوع ويراد اكتشافها بل المطلوب اكتشاف التنوّع في كل المناطق وعلى مستوى المملكة عموماً.

هنا لابد من سؤال: لماذا يريد النقيدان الحديث عن التنوّع في القطيف، ويطالب القارىء باكتشافه؟ هل يريد مثلاً أن يقول بأن التنوّع هو القانون الطبيعي وهو الحالة الواقعية في كل بلدان العالم، وعليه لا بد من احترام التنوّع وصونه، وتوفير كل الضمانات القانونية التي تحول دون اختراقه، ومنع التعدي الذي يطال هذه الفئة الغالبة المتغلّبة على بقية الفئات، أم يريد القول مثلاً بأن التنوّع يفرض على الدولة توزيعاً عادلاً للسلطة والثروة، وعليها عدم الافتئات على بقية الفئات والمناطق والطوائف..؟

مهلاً..مهلاً.. لا يبدو أن النقيدان في وارد الحديث عن هذا النوع من «التنوّع» ولا هذه رسالة مقالته. هو يقارب الموضوع من زاوية أخرى على النقيض من فهمنا للتنوّع. افتتح مقالته بزيارة المرجع الشيعي محمد حسين فضل الله في لبنان والحديث عن ضرورة التركيز على طاقات الشباب، وزيارته للضاحية وحارة حريك في لبنان بعد تدميرها بالكامل من قبل الاسرائيليين في حرب تموز (يوليو) 2006. ثم قفز مباشرة الى زيارة قام بها للقطيف بعد عام أو عامين وقابل «عشرات من الشباب الساخطين». حتى الآن لا يبدو الربط وثيقاً بين كلام فضل الله والشباب الساخطين ما لم يكن أراد بذلك القول بأن ثمة «توجيهات خارجية» يتلقاها شباب القطيف.

الشباب الذين التقاهم النقيدان من نوع خاص حسبما يظهر في مقالته «انهال علي اثنان منهم بالهجوم والنقد القاسي»، وأوضح «كان ما سمعته سخطاً مزدوجاً، على الدولة من جهة، وعلى رموزهم الذين عادوا من المنفى، ولكنهم في نظرهم قد خانوا القضية، وتخلوا عن مبادئهم، وولوهم ظهورهم..». من الواضح هنا أن الكلام عن جماعة الصفّار ـ السيف التي عادت الى البلاد بعد حوار مزعوم مع الحكومة في العام 1993، ويبدو أن الشباب إما أن يكونوا على خلاف مع الجماعة هذه، أو أنهم ساخطون لأمور شخصية تتعلق بجواز سفر وفي أحسن الحالات أنهم «لاموا شيوخهم الذين احتكروا ما أسبغته الدولة عليهم من منافع ومنح على أتباعهم، ومريديهم الأقربين، أي قصروا كل الخير على الخط السياسي الذي ينتمون إليه».

إذن واحدة من ملامح التنوّع الذي يريد النقيدان تسليط الضوء عليها هي ما يتصل منها بالخلافات في الداخل القطيفي. فالنقيدان يريد تظهيرها بعنوان التنوّع، وأن القطيف ليس جماعة سياسية واحدة بل هناك جماعات.

النقيدان يصف من التقى بهم بأنهم في الغالب «كانوا من كوادر «حزب الله» في الحجاز..»، وأنه في زيارته للعوامية عام 2002 يقول بأنه كان يجد «صور حسن نصر الله أوشاماً على أجساد الشباب أو ملصقات على أعمدة الإنارة، وبالتأكيد كنت تجد صور الخميني أو خامنئي». صور نصر الله أوشاماً؟! في منطقة تبدو ظاهرة الوشم على الأجساد غريبة، وأن تكون صورة نصر الله وشماً؟ هذه ليست واردة حتى في الضاحية الجنوبية، وهي معقل حزب الله، فكيف تجدها في العوامية؟ فضلاً عن صور الخميني وخامنئي وفي العوامية أيضاً، والمعروف عن الشيخ نمر النمر يرجع الى الشيرازي، كما تذكر ذلك مواقع مقرّبة من النمر نفسه كالعوامية.

يتحدث عن التنوّع السياسي داخل القطيف والتحوّلات التي شهدتها بعض الجماعات وتموضعات الأفراد فيها لناحية التخلي عن هذه الجماعة والالتحاق بأخرى أو البقاء على الحياد، أو التمرّد على طريقة النقيدان نفسه، بالتخلي عن الالتزام الديني، وهو من يصفهم بطريقة مواربة «فأنت أمام أشخاص يرون أنفسهم فوق الانتماءات الضيقة مذهبياً وسياسياً..». وهذا كلام خطير للغاية، خصوصاً في الحديث عن الانتماء المذهبي الذي يجعله النقيدان مادة جدلية، ويضعه في سياق تجريمي، الى حد اعتبار الانتماء لمذهب ما جريمة، وعلى سكّان القطيف ومن أجل أن يكونوا مواطنين صالحين أن يتخلوا عن معتقدهم، وفي أحسن التأويلات أن يكون هذا المعتقد مروّضاً ويؤسس للتماهي مع السلطة.

وعليه يتحدث النقيدان عن تلك الفئة التي تحرّرت من الانتماء السياسي والمذهبي «الضيق» والاجندة باعتبارها الأٌقرب الى الحكومة بمعنى آخر أن أفرادها «معنيون بتنمية المنطقة، يهمهم هدوؤها وتفريغها من الأجندة السياسية التي أظهرت السنوات اللاحقة، تأثيرها البالغ السوء في أرواح وعقول ونفوس شبابهم». فهو يريد هذا النوع من الشباب الذين ليست التنمية تعنيهم، ولكن يعنيهم التخلي عن أي نشاط سياسي، وأن يظهروا الولاء لآل سعود، والمساهمة في مشروع «غسيل دماغ» لأهالي القطيف..

يحزن النقيدان لأولئك الذين لم يحظوا بالرعاية والاهتمام من قبل جهتين الحكومة والإعلام وهم «النابهين الشباب من المنشقين ذوي الأفكار الإصلاحية» حيث يقابلون بالتجاهل والتهميش. قال كلاماً مثيراً بعد ذلك وهو «شأن كل أقلية دينية مغلقة». لا ندري إن كان يقصد ما كتب، لأن الأقلية الدينية المغلقة لا تنطبق على من لم يعد تعنيه الانتماءات السياسية والمذهبية ولا يملك أجندة سياسية بل يميل الى طريقة النقيدان في الانفتاح الفاضح..

يورد النقيدان تجربة في «العمالة» للسلطة السعودية ويقول بأنه بعد الاحتجاجات التي اندلعت في المدينة المنورة عقب اعتداء رجال الأمن بملابس مدنية على زوّار مقبرة البقيع في العام 2009، كان هناك «اثنان من أهالي القطيف عملا كمستشارين لأمير منطقة المدينة المنورة» وأن جهودهما مع مجموعة أخرى هي التي أسهمت «في تخفيف التوتر». في المقابل، حمل النقيدان على جماعة الصفّار ـ السيف لأنهم «أصحاب الأسطوانة المشروخة بأنهم صمام الأمان، وأنه لولاهم لاضطربت الأحوال»، وبأنهم «كانوا أول المشككين في خطبهم برغبة القيادة السياسية في حماية الوطن والمجتمع من الاختراق وتلاعب أجهزة المخابرات ببعض ضعاف النفوس».

بصرف النظر عن مزاعم جماعة الصفّار ـ السيف بأن تتحوّل الى مجرد متراس للسلطة في الداخل القطيفي، فإن النقيدان كان متحاملاً ومبالغاً والأسوأ من ذلك كله أنه كان «سلطوياً» قبيحاً حين يريد من كل فرد في هذا البلد أن يتحوّل الى مدافع عن سلطة وهبها كل المكرمات وحرم الناس من مجرد الحق في الاعتقاد الحر دون إكراه أو اضطهاد..

في الاخير يقدّم النقيدان زبدة مقالتيه البائستين، بدعوة أهالي القطيف الى نقل خيارهم من «مجموعة صغيرة من السياسيين المعممين وغيرهم وتقديمهم على أنهم رموز الطائفة» الى جماعة لا تكاد تذكر الا في الاعلام وفي ارتباطها بالحكومة، وهذا بالنسبة للبائس النقيدان هو «غنى القطيف» وتنوّعه.

رسالة النقيدان تتلخص في الجملة التالية: «اكتشفوا «أبناء الديوانية» تجدوا الشيعي في أبهى صوره وأكثرها وطنية وبساطة»! إنها دعوة مفتوحة للعمالة لنظام آل سعود، وإدانة واضحة لجماعة الصفّار ـ السيف لأن تجربتهم في العلاقة مع السلطة لم تحقق أهدافها.. فالأخيرة تريد عمالة بشروطها.

الصفحة السابقة