دولة الكراهية

جاء في الخبر المنشور في 8 نوفمبر الجاري أن وزارة الشؤون الإسلامية أصدرت وثيقة خاصة بتعيين خطباء الجمع مشروط باختبار فكري على كل المتقدمين لشغل وظيفة خطيب جمعة..

قرار صائب، لأنه أولاً ينطوي على اعتراف بوجود مشكلة في هذا البلد تتمثل في انخراط شريحة كبيرة من أئمة الجمع في أدوار تحريضية والتشجيع على الكراهية والعنف باسم الجهاد، وهذه أول خطوة صائبة من بين خطوات أخرى ضرورية لابد أن تعقبها لمعالجة أزمة «خطاب» الدولة المسؤول عن توليد كثير من المشكلات على المستويين المحلي والخارجي..

ما هو غير صحيح وخطير هو هوية اللجنة الاستشارية المعنية بالتقييم الفكري، والتي هي مسؤولة عن المصادقة على شروط القبول. فإذا كان أعضاء اللجنة ينتمون الى نفس المدرسة الفكرية فإننا سنكون أمام حالة تشبه «الباب الدوّار» يطوف المتطرّفون من جهة ويعودون من جهة أخرى، دون أن يحدث أدنى تغيير، لأن المشكلة حينئذ تكون في المرّبي وليس في المرتبي، فما فائدة أن يعترف أهل الحكم بوجود مشكلة ولكن يجري معالجتها بنفس أدوات المشكلة..

يقول الخبر بأن الوزارة اختارت لجنة استشارية لتقييم المتقدّمين لوظيفة خطيب جمعة فكرياً والتأكّد من «اعتناقهم رؤى دينية معتدلة»، فهل تأكّدت الوزارة أولاً من أن أعضاء اللجنة تنطبق عليهم صفات الاعتدال، أم أنها نفس مواصفات أعضاء لجان «المناصحة» و»السكينة» وأضرابهما حيث يتساوى التطرّف لدى المستهدفين مع المرّبين. وتتسع المشكلة لتشمل الوزارة نفسها والقائمين عليها، حيث الجميع ينتمي الى العقيدة السلفية الوهابية، أصل المشكلة ومصدرها.

مؤشر سلبي جاء في خبر شروط تعيين خطباء الجمع، يتمثل في: التأهيل الجامعي الشرعي، فإن كان هذا الشرط وفق المواصفات السعودية فإن المتقدّمين هم من المتخرّجين في الجامعات والمعاهد الدينية في الرياض والمدينة المنورة ومكة المكرمة.. وهؤلاء جميعاً تعلّموا المنهج التكفيري، ويدرّسون الطلاّب الذين يتحوّلون الى مقاتلين في الخارج..أما بقية الشروط فلا نجد سوى أنها تقنيّة بحته ولا تحتاج الى لجنة استشارية مثل معرفة أحكام العبادات ومواقيتها، وقراءة القرآن الكريم دون لحن مع تجويده، وحفظ ما لا يقل عن خمسة أجزاء، والقدرة على إلقاء خطبة الجمعة وإجادة إعدادها.. والسؤال: ألهذا يتم تشكيل لجنة استشارية، في وقت تحتاج الوزارة بل والدولة من ورائها الى استراتيجية دعوية جديدة تقوم على نبذ الكراهية القائمة على تكفير الآخر (المسلم أولاً)، والتحريض على العنف عبر خطاب ديني اقصائي..

(وثيقة منسوبي المساجد) التي أعدّتها وكالة الوزارة لشؤون المساجد والدعوة والإرشاد ووافق عليها وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ تفتح الباب على نقاش واسع في الخطاب الديني الرسمي ودوره في تقويض أسس الدولة الوطنية. إن التجارب السابقة التي كان فيها الخطاب الديني حاضراً بكثافة تؤكد على حقيقة أن هذا الخطاب كان مسؤولاً عن الانقسامات الاجتماعية والسياسية، بل عمل في مراحل كثيرة على هدم العناصر المتوافرة لناحية بناء دولة وطنية حقيقية. ولم يتم ذلك في الغالب خارج مظلة الدولة وبعيداً عن عيونها بل كان الخطاب الانقسامي يعمل بتأييد منها أو في الحد الأدنى بصمتها المريب غالباً.

تتحدث الوثيقة عن المهام والواجبات والمسؤوليات المطلوبة من منسوبي المساجد، وفي الواجبات العامة وضعت قيوداً صارمة على جمع التبرعات أو الصاق المنشورات أو الحديث في المساجد من قبل أي شخص «ما عدا دعاة الوزارة الرسميين»، أو إقامة محاضرة أو درس بدون موافقة إدارة شؤون الدعوة بفرع الوزارة..وهي قيود تبدو في ظاهرة إيجابية، وتنطوي على اعتراف بدور التبرعات والمحاضرات الدينية والأحاديث غير المنضبطة في تشجيع الكراهية والعنف، الا أنها قد تمنح الحكومة مبررات لقمع الحريات كما هي عادتها الذميمة..

في المهمات جاء في البند الخامس المتعلق بمضمون الخطبة وألزمت الوثيقة أئمة الجمع بالاقتصار على «مفهوم الوعظ والإرشاد، وتذكير الناس بأحكام الدين والفضائل» وفي المقابل أن يلتزم الخطيب «بعدم الخوض في مسائل السياسة أو العصبية أو الحزبية، أو التعرض لأشخاص أو دول أو مؤسسات تصريحاً أو تلميحاً»، ولكن غاب من هذا البلد أي كلام عن التحريض على الكراهية المذهبية والدينية، وهي المسألة الأشد إلحاحاً في هذه المرحلة على المستويين المحلي والخارجي، ولكن الظاهر أن ما يعني آل سعود ليس الناس بل سلطانهم ولذلك يطالبون خطباءهم بعدم الحديث السياسي! وأن يستبدلوا ذلك بـ «الدعاء لولي الأمر في الخطبة» كما جاء في البند السابع من المهمات..

المطلوب اليوم ليس مجرد تنظيم الخطب والخطباء بل الأهم من ذلك كله هو تنظيم الخطاب، لأنه مصدر المشكلات الكبرى في هذا البلد، وهو الذي ينتج المتطرّفين والمقاتلين والانتحاريين..

المشكلة اليوم في دولة ترعى مؤسسة دينية تنتج خطاب الكراهية، الذي أنجب مقاتلين ظلاميين ودفع بهم لارتكاب جريمة وحشية في قرية دالوة الوادعة في محافظة الإحساء لا لذنب اقترفه أهلها، ولكن لأن ثمة مصابين بمرض «الوصاية» على الكون، والمدفوعين بنزعة استئصال الآخر الذي يرونه كافراً يستحق الموت الرخيص..

دولة الكراهية لم تعد فرضية بل هي حقيقة مادية تتحرك على الأرض، تهدد في ظل خطاب ظلامي تحريضي بإشعال حرب أهلية، ولا حل لوقفها الا بمراجعة شاملة للايديولوجيا الدينية الرسمية بكونها مسؤولة عن كل قطرة دم تسفك في الداخل والخارج..

الصفحة السابقة