فنّ التبرير (السعودي)!

محمد قستي

لا يوجد فنّ في التبرير وإلقاء المسؤولية على (الآخر) يمكن أن تجده بأفضل حالاته وتوصيفاته ووضوحه إلا في المملكة السعودية.

فحكومة هذا البلد، أي العائلة السعودية المالكة، لا تعترف بأيّ مسؤولية عن أي سياسة تتخذها، وهذه من أهم سمات الدول المستبدة الطاغية، يقابلها نسبة كل منجز الى تلك العائلة، حيث لا تكتفي بتحميل المسؤولية في الفشل او الخطأ الى الآخرين.

حين تغيب المؤسسات التشريعية، وتكمم حرية الأفواه، وتخنق حرية التعبير، لا يبقى عَلَمٌ إلا عَلمَ العائلة المالكة ومنجزها، ولا يبقى مطهّرٌ من الدّنَس والخطأ والتقصير والفشل إلا هي. فالجميع ـ داخلاً وخارجاً ـ فاشلون مخطئون متآمرون، ولا يوجد نجاح يمكن أن يُشار اليه بالبنان إلا في مملكة (المنجزات والمعجزات).

في مثل هذه الحال، يُصبح صانع المنجزات ملتحماً مع الضحيّة؛ بل هو الضحية نفسه، وكأن المتآمرين ـ بنظره ـ في الداخل والخارج جعلوه ضحية بغرض التعتيم على منجزاته الخارقة.

أينما وجدتَ منجزاً او مشروعاً طور التأسيس ـ ولو وهمياً ـ ستجد أميراً في المقدمة، ليقوم هو الاخر بنسبة المنجز الى (خادم الحرمين الشريفين) وعبقريته.

وأينما وجدت فشلاً أو خطأً، فسيوجّه اللوم ابتداء الى (البطانة الفاسدة) في الداخل، او الى (إيران) المتآمرة في الخارج، أو الى (الإخوان المسلمون)، أو (الحوثيين) أو غيرهم، فالقائمة تطول دائماً، ولكن ليس بينها (الصهاينة)، فهؤلاء مُبرّؤون من التآمر على حكم آل سعود.

من المسؤول عن الفشل السعودي في اليمن؟

من المسؤول عن جرائم القاعدة وداعش؟

ماذا عن الفساد، والبطالة، وأزمة الإسكان؟

من المسؤول عن فكر التطرف والإرهاب ومناهج التكفير التعليمية؟

من المخطئ في الأزمة مع قطر، أو إيران، أو حتى السودان والجزائر، فضلا عن سوريا والعراق وتركيا؟

لن تجد جواباً يشير الى دور أمراء آل سعود في هذا كله، ولو بصورة جزئية.

آل سعود فنّانون في إلقاء تبعية فشلهم على الآخرين.

منذ ثلاثة عقود ـ وتحديداً بعد حرب الكويت ـ تعمل سلطات آل سعود على تحميل جماعة الإخوان المسلمين، كل بلاوي السلفية الوهابية: فالتطرف جاء من فكر الإخوان، وليس الوهابية البريئة جداً، والتكفير والعنف كذلك، يهندسه الإخوانيون، في حين أن السعودية هي مزرعة الإرهاب، والتكفير، والعنف، وشبابها ينتمون ويقودون ويفجرون منتحرين أكثر من أي شعب آخر. والفتاوى السلفية تمثل روح الفكر الوهابي، يعتمد عليها داعش والقاعدة كما هو معروف. لكن آل سعود، وفي محاولة تبرئة ايديولوجيتهم، لم يجدوا من يعلّقوا عليه فشلهم وتآمرهم إلا الإخوان، ليظهروا هم بمظهر الضحيّة، وليفوز مجرموهم بصفة (المغرر بهم)، أي ضحايا ايضاً، مثل حكامهم الأمراء.

إيران هي الأخرى مشجب آخر يعلق عليه النظام كل اخطائه في السياسة الخارجية: في لبنان، فإن الرياض لم تخطئ أبداً، الخطأ في الآخر فقط الذي كسر احتكارها؛ وفي اليمن الذي حكمته الرياض نحو نصف قرن، فراحت تعيّن رؤساءه وتشتري سياسييه وزعماء قبائله، لم تخطيء الرياض هناك أبداً، بل هو الحوثي/ الإيراني، مع شرطيها الصغير علي عبدالله صالح! اضافة الى الإخوان (حزب الاصلاح). في سوريا كما العراق، لا دخل للمال السعودي ولا مقاتلي وانتحاريي السعودية ولا ايديولوجيتها فيما آلا اليه. كل اللوم على الآخرين الذين يخالفون الرياض او يختلفون معها.

وحتى أسعار النفط التي هبطت الى ما يقارب من النصف، لا دخل للإنتاج السعودي، والسياسة النفطية السعودية، في كل ذلك. الرياض بريئة، وتكاد تكون ضحية، وهي ترفض ان تخفض انتاجها الذي وصل في مرحلة من المراحل ما يقرب من ثلاثة عشر مليون برميل نفط يومياً.

في الداخل، فإن من يتحمل أزمة الإسكان ليس الأمراء، سرّاق الأراضي، ولا وزارة الإسكان التي على رأسها أمير منذ أن تأسست! حتى وقت قريب.. إنما اللوم يُلقى على اولئك الذين توجه لهم السهام والذين يسمون بـ (هوامير العقار)؟ فمن هم هؤلاء؟ لا أحد يعرف أسماء كثيرة، وجلّهم مجرد وكلاء وسماسرة يبيعون أراضي الأمراء التي سرقوها، ويرفضوا مجرد دفع (الزكاة) عليها! يعضدهم في ذلك ثلّة من مشايخ الإنحطاط والفساد والتخلّف، الذين يطوّعون نصوص الدين يبيعون آخرتهم، لخدمة دنيا غيرهم.

والفساد، النهب للميزانية، وتقاسم مبيعات النفط بين الأمراء والأميرات، واحتكار العقود الحكومية التي لا ينفذ منها سوى العشر حسب احصاءات رسمية، فإن الأمراء غير مسؤولين عنه. المسؤول هم (الحاشية) او (البطانة) اما الأمراء فهم يفيضون أيماناً، ويقطرون تقوى وزهداً. واذا ما كان هناك من لوم، فعلى مؤسسات مكافحة الفساد التي وضعها الأمراء لذر الرماد في العيون، وهيئة مكافحة الفساد (نزاهة) هي آخر نسخة من تلك المؤسسات، وهي الآن تتلقّى اللوم عن فساد الأمراء وفشلهم، وكأن هذه الهيئة وغيرها التي يقف على رأسها شخص من العامّة، يمكن ان تنجح في إيقاف طبقة من عشرات الألوف الفاسدين من الأمراء وحاشيتهم. ربما كان يجب تطبيق اقتراح الأمير خالد بن طلال، بأن يتولّى (نزاهة) أمير!!

حتى التشريعات والقوانين يصدرها الأمراء بلا إبالية، وإذا ما خشوا من رد الفعل، أمروا مجلس شوراهم (المُعيّن) بأن يقترحها بالنيابة عنهم، ثم يرفعها كتوصية ليوافقوا عليها، وكأنهم استجابوا لها! لهذا تجد شتائم الجمهور تنهال على أعضاء الشورى، ويقوم البعض ـ نكاية ـ بتبرئة من يسمونه بـ (ولي الأمر). اما التوصيات التي لا يريدها الأمراء فيتم تجميدها، كالتوصية بإقرار قانون الجمعيات الأهلية، فرغم أنه قانون قد تمّ تفصيله حسب متطلبات وزارة الداخلية، إلا أنه دخل مرحلة التجميد. ومثل ذلك رفض المجلس حتى مجرد مناقشة قانون عقابي ضد من يثير الكراهية والعنف والتحريض الطائفي وغيره.

مشايخ المؤسسة الدينية، أدوات النظام في القمع وفي شرعنة الحكم القائم، هم أيضاً واحدة من المصدّات التي تشكل القفص الصدري الذي يحمي قلب آل سعود. يأمرهم آل سعود، فتصدر الفتاوى، ثم يأتي التنفيذ، وفي الحالات التي يرفضون اصدار فتاوى، او لديهم فتاوى مضادة (مسألة البنوك الربوية مثلاً) فالنظام يضرب برأيهم عرض الحائط. اذا شكا الناس من اختناق اجتماعي، وجّه النظام التهم الى مشايخه، فالأمراء عصريون حداثيون، ولكن المشايخ هم السبب ولا يستطيع تجاوزهم، كما يزعم.

حتى في الرياضة التي يتولى مسؤوليتها الأمراء، كمؤسسة أو كأندية، فإن الفشل يحوّل دائماً على (المدرّب) خاصة ان كان أجنبياً، ولذا تجدهم بعد كل هزيمة رياضية قد حددوا ضحيتها، وهو غيرهم!

في محصلة الأمر، وفي كل قضية، فإن آل سعود برءاء براءة الذئب من دم يوسف! ومن لا يصدّق ويوجه اللوم لهم مباشرة، كما فعل عدد من الإصلاحيين والناشطين الحقوقيين، فإن سجون النظام تتسع لهم، وهو لازال يبني الكثير منها في خطط خمسية لاتنتهي واحدة إلا وتبدأ أخرى.

نحن بإزاء أمراء حكام، لم يتعودوا إلا أن يكونوا آلهة تعبد من دون الله، أو هكذا هم يرون أنفسهم.

لا منجز تمّ او يتمّ إلا ونسبوه لأنفسهم.

لا خطأ أو خطيئة أو جريمة أو فشل أو فضيحة إلا ونسبوها لغيرهم.

بهذا هم يرون أنفسهم (أهل المنجزات)؛ وفي ذات الوقت ضحاياها، ضحايا الحسد لهم، والتآمر عليهم، وغير ذلك.

النظرة النرجسية للذات، جعلت الأمراء أنصاف آلهة، أو آلهة، لا يقبلون بنقد، ولا ان يُشار اليهم بمسؤولية، ولا بتحميلهم خطأ ارتكبوه، او اساءة فعلوها.

لكن عمر هذه السياسة ليس طويلاً، ونجاحها نسبي، كانت هكذا، وهي في طريقها الى الإنكشاف التامّ.

ولهذا، فإن الأمراء يتكئون على القمع بشكل متزايد وتصاعدي مهول؛ فحين يفشل (التضليل) يزداد الإعتماد على (القمع).

ايضاً فإن القمع عمره قصير، وقريباً ما سيولّد التوسع في استخدامه، مزيداً من الناقمين ومزيداً من الإنكشاف لحكم طال ظلام ليله.

الصفحة السابقة