أزمة نفط.. أزمة نظام!

يحي مفتي

هي مغامرة جديدة، ولكنها كبيرة جداً، هذه المرّة.

مغامرة على (رأسمال النظام) نفسه.

ايرادات النفط، تمثل العامل الأساس لاستقرار النظام السياسي، وعدم استقرار الأسعار، باتجاه خفضها، لأهداف سياسية خارجية، قد يتبعه انهيارات سياسية داخلية.

لطالما تحدثت النخب في المملكة المُسعودة، بأن إيرادات النفط المرتفعة تمثّل عنصر حماية أخيرة للنظام. فآل سعود يكاد يكونوا لا شيء بدون النفط. لن يجدوا موالين في الداخل، ولا حماة من الخارج، إن لم يتمكنوا من الدفع وشراء الذمم.

النفط بنظر النخب المُسعودة عامل تأجيل ـ إن لم يكن إلغاء ـ لأي تفكير في الإصلاح السياسي.

الدولة السعودية بوصفها (دولة ريعيّة) تكاد تضع كلّ رهانها على (الرّيع) لا على (المنجز) ولا على (شرعية دينية) أو (شرعية تاريخية) مزعومة.

حتى (القمع) لا يمكن أن يكون فاعلاً بدون ذلك الريع، وبدون إيرادات نفطية عالية. لعلنا نذكّر هنا بأن نحو مائة وخمسة وأربعين ألف عنصر جديد قد أضيفوا الى ملاك وزارة الداخلية خلال السنوات الخمس الماضية، ما يثبت أن (القمع) السعودي يتكيء هو الآخر على (النفط وإيراداته) ولا يمكن أن يكون بحال من الأحوال بديلاً عنه.

هذا أمرٌ يدركه الأمراء جيداً.

اشار وزير الدفاع السابق الأمير سلطان بأن الناس (لن يحبّونا اذا ما أعطيناهم). هذا القول يمثل جوهر السياسة السعودية المحلية، وهو ينطبق بصورة مماثلة الى السياسة الخارجية، ولهذا فإن تقليص اعتماد الدعم للدول والجماعات خارجياً، والذي جرى تطبيقه بعد حرب الكويت ١٩٩١، أدى ـ في واحد من أهم أسبابه ـ الى تقلص نفوذ السعودية الإقليمي وعلى مستوى العالم الإسلامي، وعلى مكانة الرياض وزعامتها. 

الملك عبدالله نفسه تحدّث علناً بنكتة قالها لمسؤولين (وزراء). قال لهم: قولوا الله يطوّل في عمره! كرر ذلك ثلاث مرّات عليهم، وهم يسألون: الله يطوّل في عمره، ولكن من هو؟! فأجاب: البترول!

النفط ـ كما يقول الباحث الأميركي ندّاف سفران ـ عنصر جوهري في تماسك النظام وتعضيد لُحمَتِه.

من ايراداته، يدفع الأمراء ثمن الحماية الغربية، على شكل صفقات سلاح لم تتوقف، واستثمارات ضخمة في سندات الخزانة الأميركية بمردود ضعيف للغاية، ومستهلكات غربية تملأ الأسواق السعودية.

أيضاً بإيرادات النفط، تتوسع ماكنة القمع، وتشترى الأقلامُ والدفاتر، وتروج أجهزة الدعاية أكاذيب النظام، ويُشترى رجال القبائل، والمثقفون والكتاب والمشايخ، وأيضاً يُشترى صمت المواطن في كثير من الأحيان.

نذكّر مرة أخرى وأخرى، بالعطاءات التي تقدّم بها الملك عبدالله بعيد قمع محاولات التظاهر في مارس ٢٠١١.

كان يُقال، بأن الأمراء لا يغامرون على رأسمالهم الأكبر، وهو النفط.

ولكنهم فعلوها تواطؤاً عام ١٩٨٦ حينما أطاحت الرياض بأسعار النفط الى ما يقرب من العشرة دولارات بالبرميل، عبر ضخّ المزيد من النفط في السوق.. وكلّ ذلك نكاية بإيران، وإجبارها على إيقاف الحرب.

يومها تضرّرت ايران بلا شك، ولكن لم يقل الضرر الذي أصاب الرياض عن غريمتها، حتى أنها في تلك الفترة لم تستطع أن تدفع رواتب موظفيها، وأخذت بتأجيلها، ثم عمدت الى الإقتراض المحلي الذي وصل الى أكثر من ثلاثمائة مليار ريال، لم تسدده الرياض إلا بعد ان ارتفعت أسعار النفط تدريجياً وسددته بعد اكثر من عقدين من الزمان، وتحديداً بين ٢٠٠٥، و٢٠٠٧.

الآن، وفي حالة يأس شديد، تكرّر الرياض تجربتها مرّة أخرى، لمعاقبة روسيا وإيران، على مواقفهما من أزمات المنطقة وبينها الأزمة السورية ـ كما يروّج في الإعلام المحلي، دون أن تنبس الرياض رسمياً ببنت شفة.

في نوفمبر الماضي، أفشلت الرياض اجتماع اوبك الذي سعى لتقليص الإنتاج، وصرّح وزير النفط السعودي علي النعيمي بأن بلاده لن تخفض انتاجها، وانها تنظر الى المشكلة بأن يصلح السوق النفطي نفسه وفق قاعدة العرض والطلب، دونما تدخّل. والمعنى: إبقاء وتيرة الإنتاج بين الدول المصدرة للنفط اوبك، والذي يصل الى ثلاثين مليون برميل يومياً.

يجزم المحللون السعوديون وبإجماع منهم بأن هناك أزمة تنتظر المواطن السعودي العادي، شبيهة بأية أزمة تصيب دولاً تعاني ميزانياتها من العجز.

لقد ثبت أن هناك عجزاً كبيراً حتى قبل أن يحلّ موعد اعلان الميزانية الجديدة في السعودية.

ذلك ان الرياض ورغم الوفرة المالية لديها، عوّدت نفسها على إنفاق مبالغ فيه جداً، بل يكاد يكون بلا حدود او تدبّر.

في عام ٢٠١٥، سيزداد العجز، بمئات المليارات من الريالات، فالنفط ـ عماد الإقتصاد ـ انخفضت اسعاره الى ما يقرب من ٤٥٪ حتى الآن، ومن غير المستبعد أن ينخفض أكثر ما دون الستين دولاراً، بل ان هناك من بشرنا بأن سعر النفط قد يصل الى أدنى من الخمسين دولاراً للبرميل.

هي تعني أن ميزانية الرياض ستعاني عجزاً شديداً، بحيث سيتم الإعتماد على فوائض الأعوام الماضية من جهة، مع تقليص لحجم الميزانية، اضافة الى زيادة الضرائب على المستوردات، أو رفع الدعم عن بعض المواد الاستهلاكية، ما يزيد شريحة الفقراء، ويقلّص حجم الطبقة الوسطى.

تقليص حجم الإنفاق العام سيكون هدفاً، وسيصيب بضرره الشركات الكبرى، ووزارات الدولة ومؤسساتها، بشكل سيزيد نسبة البطالة، المتضخمة أصلاً.

أخطر من هذا، فإن انهيار اسعار النفط بالشكل الذي رأيناه، أصاب مدخرات المواطنين بشكل حادّ، حيث هبط سوق الأسهم السعودي الذي يستثمر فيه كثير من المواطنين مدخراتهم، متأثراً بهبوط أسعار النفط نفسها. تراجع سوق الأسهم في واحدة من اسوأ حالاته منذ سنوات بنسبة زادت أحيانا عن عشرين بالمائة.

ان الإنعكاسات السلبية لتراجع أسعار النفط على حياة المواطنين، ستزاد مع مرور الوقت، كما يتوقع الخبراء، ولكنها في نفس الوقت ستصيب النظام نفسه على صعد مختلفة، منها ما يتعلق بتصاعد الجريمة التي يتوقع لها أن تتصاعد بسبب المشاكل الإقتصادية والاجتماعية التي تخلّفها الأزمة؛ بحيث أن ما يزعم انه استقرار امني، لا يعدو ان يكون نكتة سمجة، لازال المواطنون يتداولونها تحت يافطة شهيرة صارت هاشتاقاً في موقع تويتر: (بلد الأمن والأمان).

الحكومة السعودية التي فشلت وهي في قمة الثراء، وكان تحت تصرفها تريليونات من الريالات.. في حلّ الأزمات العادية للمواطنين: من توفير سكن او عمل او حتى خدمات صحية وتعليمية، كيف لها ان تلبّي هذه المتطلبات او تبقي الأزمة ضمن السيطرة، في حال شدّ الحزام؟ والفقر الذي جعل نحو ثلاثين بالمئة من المواطنين تحت خطّه الأحمر، دون ان تنجح حكومة الأمراء في التخفيف من غلوائه، كيف لا يتمدد حين تقلّ الإيرادات؟!

السخط الشعبي المتصاعد سيزداد اكثر وأكثر، وعدم الاستقرار الأمني متشابكاً مع الأزمة الإقتصادية، سيقود حتماً الى مزيد من عدم الإستقرار السياسي، والى انكماش اكبر في شرعية النظام. بمعنى آخر، فإن مفاعيل الدولة الريعية قد تتعطّل فترة الأزمة، ما يسمح بتصاعد المطالبات بالإصلاح السياسي مجدداً رغم اجواء القمع الحادّة.

وهكذا، قد يتحول التلاعب بأسعار النفط، من اجل التوظيف في السياسة الخارجية، الى مشكلة داخلية أكثر خطراً من تلك التي يراد حلّها.

ويبقى السؤال مطروحاً: هل هناك أفق لنجاح سياسة الرياض في كسر شوكة خصومها (روسيا وايران بشكل خاص) عبر إغراق سوق النفط، وتعمّد تحطيم أسعاره؟!

لا يبدو الأمر ناجحاً. فالضرر سيصيب كل الدول المنتجة للنفط؛ وبقدر ما تزداد نسبة ايرادات النفط في الناتج الاجمالي القومي، يكون الخطر عليها أكبر. وهنا تأتي السعودية في فوهة البركان أكثر من الدول التي تريد محاربتها، لأن اعتمادها ع النفط ومنتجاته البتروكيماوية اكثر من ايران وروسيا. 

الضرر المشترك سيصيب ايران وروسيا، ولكنه ضررٌ لن يؤدي بأيّ حال الى كسر عظم، وتغيير راديكالي في السياسة العامة للدولتين. بمعنى أن الرياض إن كانت تعتقد بأن الدولتين الغريمتين ستسلمانها مفاتيح نفوذها الضائع اقليميا فهي واهمة. بل قد يرتد عليها عداءً، وتشبّثاً بذات المنهج السياسي الذي قصم لها ظهرها السياسي.

لن تكسب الرياض نفوذاً اكبر لا في سوريا ولا في العراق ولا حتى في لبنان واليمن، فضلا عن غيرها.

نعم ستؤدي اسعار النفط المنخفضة الى إزعاج وربما الى استنزاف إقتصادي، لكن سرعان ما سيتم التغلّب عليه بالنظر الى حجم اقتصاد الدولتين الكبير.

لو كانت الضغوط السعودية ستؤتي اكلها، لكانت العقوبات الاقتصادية الغربية الشديدة على ايران. ولكن العقوبات تلك نجحت في الحد من اندفاعة النفوذ الايراني، ولم تستطع ايقافه. فماذا سيكون الحال بالنسبة لدولة عظمى مثل روسيا لها علاقات استراتيجية مع مستهلك مثل الصين، او حتى اوروبا نفسها التي لاتزال الى الآن بحاجة الى الغاز الروسي؟

ملخص القول، بأن ما قامت به الرياض عبر الإطاحة بأسعار النفط، يمثل مغامرة برأسمالها كلّه، وليس بجزء قليل منه. مغامرة من أجل تحصيل خدمة سياسية مشكوك في نتائجها؛ ولكن من المؤكد أن المغامرة نفسها لها انعكاسات سلبية على آل سعود أنفسهم، بأسوء ـ ربما ـ مما حدث في أزمة الثمانينيات والتسعينيات الميلادية الماضية، التي قفزت بوعي المواطنين، وبطموحاتهم ومطالبهم. وهذه المرة قد لا يتحمل الامراء نتائج مغامرتهم.

الصفحة السابقة