استغلال الرياض التطرف والعنف حالة دائمية

إغراء داعش والقاعدة لا يُقاوم!

خالد شبكشي

هل ترغب السعودية فتح صفحة جديدة مع العراق الجديد؟ لقد رحل المالكي كما أرادت، وظهر خطر مشترك يهدد البلدين وهو داعش، وأمريكا تحارب دفاعاً عن نفوذها في البلدين الغريمين، والساسة العراقيون بمختلف توجهاتهم يتمنون بدء علاقة صحية مع السعودية ودول الخليج، فهل الرياض مستعدة لذلك؟

قوى متطرفة عقدياً، جاهلة سياسياً، مغرية لمن يريد استغلالها كآل سعود

في سوريا يطرح نفس السؤال: جميع حلفاء السعودية من الغربين يشيرون الى استحالة اسقاط بشار الأسد عن الحكم، وأن الحلّ السلمي هو المتبقي لدى الجميع، وأن خراب سوريا قد تمّ، إن كان هذا ما تريده اسرائيل والغرب والسعودية. الآن يدور الحديث عما يشبه بجنيف 3، يقوده ممثل الأمم المتحدة دي ميستورا مع الروس بموافقة الغرب، الذي يحاول منع سقوط حلب ـ المدينة الثانية في سوريا ـ بيد النظام؛ وذلك بترتيب سياسي تكون فيه الرئاسة للأسد، في حين تكون الحكومة للمعارضة عبر الانتخابات البرلمانية، وبحيث تبقى السلطة متكافئة متقاسمة بين القوتين: الرئاسة من جهة والحكومة المنتخبة من جهة ثانية. فهل الرياض تريد ذلك، أو تقبل بذلك، على الأقل تماشياً مع حلفائها الغربيين؟ ام انها عالقة في سقف أوهامها وأحلامها المرتفع جداً، وسقف أحقادها وغرورها الأكثر ارتفاعاً، والذي يمنعها حتى من مراجعة سياساتها فضلا عن ان تتخذ قراراً بتغييرها رغم وضوح عوارها وسلبيتها على النظام؟

الحال كذلك بشأن اليمن ولبنان وغيره، والأسئلة المطروحة هي ذاتها.

من اهم مؤشرات التغيير في الموقف هو الإجابة على سؤال ما إذا كانت الرياض قد تخلّت عن استخدام القاعدة وخليفتها داعش في حروبها مع الخصوم؟

بمعنى هل اقتنعت الرياض، بأنه لا يمكن الفصل بين دعم داعش او اجنحة القاعدة والسلفية الجهادية في الخارج، وبين ارتدادها على الداخل السعودي؟ هل يقاوم الأمراء إغراء استغلال الوهابيين المتطرفين العنفيين سواء كانوا دواعش او قواعد، في وقت يشعرون فيه بأمسّ الحاجة لأيّ جهد يُشكّل فرقاً في المواجهة المفتوحة مع الخصوم في العراق وايران وسوريا ولبنان وحتى فلسطين واليمن؟

لا يبدو أن الرياض تقاوم اغراء استغلال وهابييها الدواعش والقواعد، فتمتنع عن فعلٍ مرّ بتجربة استغلال تاريخية ناجحة، منذ التحالف المشؤوم بين محمد بن سعود ـ جد آل سعود، ومحمد بن عبدالوهاب عميد من يسمّون اليوم آل الشيخ في القرن الثامن عشر الميلادي. فلولا ذلك الاستغلال ما قامت لآل سعود دولة، ولما استمروا في الحكم. إذ يبدو ان عدم استغلال الدين بنسخته الوهابية مؤشر انحلال للمُلك السعودي نفسه. عدم استغلال الدين بنسخته الوهابية يعني تحوّل الدولة المسعودة الى دولة عادية غير محصّنة بالدين والقداسة المزعومة، وتالياً تصبح دولة غير مشرعنة دينياً، وبدون عصبيّة قبليّة حامية للمُلك العضوض.

إذن، ماذا عن ملامح التغيّر في الموقف السعودي؟ ألم يلتقِ وزير الخارجية العراقي بنظيره السعودي ويعلن بأن الرياض ستفتتح لها سفارة ببغداد بعد انقطاع دام نحو 24 عاماً؟ الم تستقبل الرياض رئيس البرلمان العراقي، وترسل بعثة كما يقال الى بغداد لاختيار موقع جديد للسفارة السعودية؟ ألم تدخل الرياض في حلف دولي لحرب داعش ـ على الأقل في سوريا؟ الا يشي كل هذا بأن الرياض تعلّمت الدرس؟

بنظرنا، فإن الجواب: كلاّ!

بندر هدد بلير بتفجير لندن منعاً للتحقيق في رشوة لبندر بمليار دولار

كل دول العالم لديها سفاراتها في بغداد، حتى تلك التي تريد بناء سفارة جديدة او ليس لديها في الأساس سفارة، عملت بشكل مؤقت في مبانٍ مستأجرة، فالمصالح تتغلب على هذه العقبة الصغيرة، في حين ان الرياض لديها في الأصل مبنى سفارة كبير نسبياً، لم يصبح غير صالح إلا بعد سقوط نظام البعث، فصارت القضية مجرد حجّة جديدة لتأخير تطبيع العلاقات الى حين يشتري الأمراء أرضاً ثم يبنونها، ثم يعيّنون سفيراً!

الرياض ليست جاهزة وليست راغبة في تطبيع العلاقات مع الحكم في بغداد.

أما الحرب على داعش في سوريا ـ دون العراق ـ فكان الغرض منه الجام الأصوات الحليفة في الغرب التي انطلقت بكل اتساعها وعمقها لتتهم الرياض بأنها وراء نمو داعش المضطرد. والرياض هنا ليست على استعداد (لتخرج من المولد بدون حمص) فتقبل بأنصاف الحلول، حتى لو استدعى ذلك مواصلة دعم النصرة وجيش الإسلام السلفي من تحت الطاولة وفوقها!

وفي اليمن، لا يبدو ان الرياض تعلمت الدرس كما يريد البعض ان يعتقد. فالمؤشرات الأولية تشير الى انها بدأت وعبر رجال قبائل محددين في تنشيط قاعدة اليمن لتواجه خصومها الحوثيين.

مشكلة الرياض أنه ليس لديها بدائل تلبي حاجتها بكلفة قليلة كما تفعل القوى الوهابية الداعشية القاعدية المتطرفة. لهذا يبدو الإستغلال السعودي لها حالة دائمية، لا يعتقد انها ستنتهي قريباً.

الاستغلال ديدن آل سعود، سواء كان لفكرة دينية أو ظاهرة إجتماعية، أو جماعة مسلّحة، أو حتى دولة.. حرّضوا جماعات إرهابية عابرة للقارات بهدف المشاغلة والمشاغبة وتحصين السلطة إزاء أخطار حقيقية ومتخيّلة.. ولكن في نهاية المطاف وجدوا أنفسهم أمام ارتدادات عنيفة تهدّد كيانهم، فهل تسلم الجرّة في كل مرة؟

مع بداية انخراط السعودية في مشروع الجهاد الأفغاني، اختارت أن تشكّل لنفسها «جماعة» تعتنق فكرها وتعمل وفق أجندتها السياسية، فقررت رعاية تنظيم (القاعدة) في أولى مراحله، ونجحت نسبياً في استغلال التنظيم لحاجاتها الخاصة، كما أبعدت شبح الخطر على الكيان لفترة من الوقت، خاصة وأن خشية كبيرة كانت قائمة من تداعيات حركة جهيمان الذي احتل الحرم المكي الشريف.

بيد أن هذا الهدوء المحفوف بالحذر لم يدم طويلاً، فبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها خصوصاً بعد سقوط حكومة طالبان في نهاية 2001 ثم سقوط نظام صدام حسين في العراق في إبريل 2003، بدأت السعودية تشهد أشكالاً متنوّعة من الأخطار المحلية والإقليمية، وكان عليها أن تكيّف نفسها مع الأوضاع الجديدة.

الزرقاوي: حربه الطائفية خدمت آل سعود

خاض آل سعود معركة شرسة بعد سقوط النظام العراقي السابق إذ بدأ مقاتلو القاعدة بالتسرّب الى داخل المنطقة، حيث تأسست مناطق مواجهة جديدة على تخوم المملكة السعودية، بل انتقل عناصر القاعدة الى الداخل وأسسوا «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في عام 2003 وفجّروا الوضع الأمني وأدخلوا البلاد في أتون مرحلة بالغة الخطورة، بالرغم من قلّة عدد المجموعة.

لم تكن الأخيرة معزولة عن خطة السعودية في دعم المقاتلين في العراق ضد النظام السياسي الجديد الذي يسيطر عليه الشيعة وايران. وفيما كانت الحقائب المحمّلة بالأموال السعودية تصل الى مقاتلي «القاعدة في بلاد الرافدين»، و»جيش المجاهدين» و»كتائب ثورة العشرين» وغيرها من الجماعات المسلّحة المحسوبة على السلفية الجهادية، عبر المشايخ الوهابيين، أو خلال مواسم الحج والعمرة، كان على آل سعود دفع بعض ثمن الحريق الذي أشعلوه في ثياب الآخرين.

كان قرار الزرقاوي إشعال حرب طائفية سنيّة شيعية في العراق بمثابة مكافأة مثالية لآل سعود، إذ نجح في توظيف تلك الحرب في شد العصب المذهبي وتحقيق الاصطفاف خلف النظام السعودي، وعزّز الانقسامات الداخلية بما يحفظ وحدة السلطة. وكانت الاموال السعودية تنهمر على الساحة العراقية دماء ودماراً، ولحظت البعثات الدبلوماسية الغربية الدور السعودي الرسمي والشعبي في تغذية الحرب الطائفية، الى حد ان الصحافية الأميركية سوزان جلاسر كتبت في صحيفة «واشنطن بوست» في 2005 بأن نسبة السعوديين في العمليات الانتحارية تصل الىى 60 بالمئة، ثم أكّدت وثائق سنجار التي عثرت عليها القوات الأميركية في 2007 هذه النسبة.

وفي وثيقة سريّة ومثيرة كتبها السفير الأميركي السابق في بغداد كريستوفر هيل عام 2009 وكشف النقاب عنها في أغسطس 2013 اشتملت على معلومات بالغة الحساسية والخطورة حول الدور السعودي في دعم الإرهاب في العراق، وقال بأنها «تمثل التحدي الأكبر والمشكلة المعقدة بالنسبة الى الساسة العراقيين..». وكشف هيل عن ضلوع السعودية بشكل مباشر في دعم الجماعات المسلحة، وتمويل عملياتها الارهابية في العراق تستخدم في ذلك العديد من الوسائل تارة تكون بالأموال، واخرى الورقة الطائفية الى جانب احتضانها للشخصيات المطلوبة قضائيا في العراق، أو عبر اطلاقها الفتاوى التي تحرّض على القتل والعنف، بهدف اشاعة الفوضى واذكاء الفتنة الطائفية في البلاد.

السعودية التي كانت تنظر الى العراق باعتباره جزءاً من مجالها السيادي، لم تشأ ان تتركه يستقر، فحرّضت بالمال والأفراد والفتاوى على تخريب الوضع الأمني والسياسي فيه، بحجة مقاومة النفوذ الإيراني، أو كما عبّر عن ذلك سعود الفيصل، وزير الخارجية، بقوله: «لقد سلمنا العراق برمته لإيران بدون سبب».

وفي مواجهة النفوذ الايراني وتنامي القوة الشيعية في العراق، راحت السعودية تغدق الأموال على شيوخ العشائر السنيّة في ديالى والموصل والمثلث السني بصورة عامة، وكانت الأموال تصل الى فلول النظام السابق وجماعات (القاعدة)، الأمر الذي وفّر فرصة ذهبية لتنظيم «الدولة» في بدايات تشكّله كي يحصد التبرعات السعودية التي تصل عبر قنوات معقدّة ولكنها تقع في نهاية المطاف في «بيت مال» تنظيم «الدولة».

الرياض: لا تغيير في السياسة، بل في الإخراج فقط!

لقد جرى ما يشبه زواج المسفار بين النظام السعودي وتشكيلات «القاعدة» ووريثها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» بإمرة أبو عمر البغدادي، إذ كان التنسيق بينهما يجري في مناطق النزاع داخل العراق ثم في سوريا، وكان دور مشايخ الوهابية نشطاً في إصدار فتاوى تحرّض على القتال باسم الجهاد والدفاع عن «أهل السنة والجماعة» في مقابل خطر «الرافضة» خصوصاً بعد انسحاب القوات الأميركية.

حصدت السعودية مكاسب بلون الدم في العراق وأوقعته في أزمة أمنية شاملة، ولا تزال الأزمة قائمة حتى اليوم. ولكن العراق الذي دعمت السعودية جماعاته المسلّحة أنجب تنظيماً إرهابياً يتفوق على كل التنظيمات التي ظهرت في تاريخ المنطقة على مدى عقود.

في لبنان، وفي مواجهة حزب الله بعد حرب يوليو 2006، دفع بندر بن سلطان، رئيس مجلس الأمن الوطني حينذاك، وبالتنسيق مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مقاتلي «فتح الإسلام» لخوض معركة على الأرض اللبنانية، ولكن الإخراج الخاطىء للمعركة قاده للدخول في مواجهة شرسة مع الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد في الشمال اللبناني في صيف 2007.

بعد ستة شهور من المواجهات اندحر التنظيم وتهدّم المخيم، وتكشّفت حقائق التورط السعودي في المعركة، ومنها النسبة المرتفعة من المقاتلين السعوديين الذين غادروا المملكة في أوقات متقاربة عبر منافذ دبي والمنامة للتمويه على وجهة سفرهم. والأخطر من ذلك أن من بين المقاتلين من تعهّدت السفارة السعودية في بيروت بالتنسيق مع الجهات الأمنية اللبنانية متابعة قضاياهم مع السلطات الأمنية اللبنانية ومع الجيش اللبناني على وجه الخصوص.

وحين اندلعت الثورة السورية والتي جنحت الى العسكرة في مرحلة مبكرة، وجدت السعودية فيها ساحة مناسبة لتصفية حساباتها مع إيران والنظام السوري برئاسة بشار الأسد. وفي صيف 2012 تسلّم بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات العامة الملف السوري من الجانب القطري، وأول قرار يتخذه كان بالتنسيق مع مدير السي آي أيه السابق ديفيد بترايوس كان تجنيد كل مقاتلي «القاعدة» وبقية التشكيلات المسلّحة في العراق والشام من أجل إسقاط النظام في دمشق.

وكما في المرات السابقة، تعهّد بن سلطان بأن المقاتلين لن يخرجوا من نطاق السيطرة، وسيتم ضبط حركتهم في حدود مناطق النزاع، وعلى هذا الأساس احتشد على أرض الشام مقاتلون من ثمانين دولة، وبحسب الأرقام المعلنة أصبح هناك ما يربو عن عشرين ألف مقاتل أجنبي في سوريا، من بينهم 3000 مقاتل تونسي و2500 مقاتل سعودي.

زعمت السعودية بأنها تدعم «المعتدلين» في سوريا، ولكنها في حقيقة الأمر، غذّت الميول المتطرّفة لكل الجماعات المسلّحة، فتمدّدت وفاقت قدرة أي قوة في العالم على ضبطها. كانت الرياض تأمل في حرب تسقط النظام السوري، وأن يكون مقاتلو «القاعدة» و»داعش» بمثابة القوّات البرية التي سيتم الاعتماد عليها في مواجهة النظام السوري وحلفائه.. ولكن قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما بإلغاء قرار الحرب في سبتمبر 2013 قوّض حلم ومخطط آل سعود، وكان عليهم تطويق تداعيات القرار، ومن بينها إعفاء بندر بن سلطان من منصبه كرئيس للاستخبارات العامة، وسحب الملف السوري من يده، وصدور أمر ملكي في 3 فبراير 2014 بتجريم المقاتلين السعوديين المدنيين والعسكرين في الخارج. ولكن الأخطر في ذلك كله هو أن النظام السعودي، وجد نفسه في مواجهة خطر مقاتليه، الذين تخلى عنهم، وباتوا جزءا من مواطني «الدولة الاسلامية»، تحت إمرة أبو بكر البغدادي «القرشي»، الذي يعتنق العقيدة الوهابية ويحقق في نفسه شروط «الإمامة» الشرعية.

بالمختصر المفيد.. فإن المسار الذي مضت عليه السعودية في تاريخها القديم والحديث هو التحالف مع قوى التطرف الوهابي ودعم عنفها كجزء من بسط النفوذ السياسي في الدول الأخرى، وكجيش أعمى يستخدم وقت الحاجة ضد الخصوم السياسيين في الإقليم.

للتذكير: ألم يهدد بندر بن سلطان عام 2008، وحسب صحيفة الغارديان، رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، بدفع القاعدة للقيام بتفجيرات في لندن إن لم توقف الأخيرة التحقيق في رشوات صفقات الأسلحة التي ابرمتها بلاده مع شركة الأسلحة البريطانية العملاقة بي إيه إي سيستمز؟

الصفحة السابقة