الدولة المنخفضة

أصدر (مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية) الذي يتخذ من واشنطن العاصمة مقرّاً له تقريراً في 14 نوفمبر الماضي من إعداد الباحث أنتوني كوردسمان بعنوان (أمن الخليج، الاستقرار والإرهاب) يتألّف من أكثر من 200 صفحة. اعتمد التقرير مجموعة معايير في تقييم كل دولة من الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى اليمن (ودول أخرى لها تأثير على المنطقة، مثل إيران ومصر)، وللفائدة نذكر المعايير وتشمل:

1- الصوت والمحاسبة: المدى الذي يمكن لمواطني دولة المشاركة في اختيار حكومتهم إلى جانب حرية التعبير، حرية التجمع والإعلام الحر.

2- الاستقرار السياسي وغياب العنف/ الإرهاب: إحتمالية تقويض استقرار الحكومة من خلال الوسائل غير الدستورية أو العنيفة، من بينها الإرهاب.

3- فاعلية الحكومة: جودة الخدمات العامة، كفاءة الخدمات المدنية واستقلالها عن الضغوطات السياسية، وجودة التشكل السياسي.

4- الجودة التنظيمية: قدرة الحكومة على صوغ سياسة وقواعد جيدة تساعد على تطوير وتعزيز التنمية في القطاع الخاص.

5- سيادة القانون: قواعد المجتمع، من بينها جودة إنفاذ العقود والحقوق العقارية، الشرطة، والمحاكم، جنباً إلى جنب احتمالية وقوع الجريمة والعنف.

6- كبح جماح الفساد: المدى الذي يمكن من خلاله ممارسة السلطة العامة من أجل تحقيق منفعة شخصية، من بينها أشكال الفساد الكبيرة والصغيرة، بالإضافة إلى سيطرة النخبة والمصالح الخاصة على الدولة.

وفي ضوء تلك المعايير، احتلت كل من البحرين والإمارات تصنيفات منخفضة من حيث تطبيق معايير الشفافية وأيضاً الصوت والمحاسبة. وحصلت الكويت على تصنيف «منخفض»، وعمان وقطر»منخفض جداً»، في حين حصلت السعودية على تصنيف «منخفض للغاية» في ضوء المعايير الواردة أعلاه.

ما يظهر من التقرير وتقارير أخرى مماثلة أن السعودية كانت على الدوام متميّزة ولكن في السوء والتراجع، بل هي الأسوأ من بين دول مجلس التعاون الخليجي. فمثلاً يذكر في المعيار الأول: مستوى منخفض للغاية في مجال الشفافية و(الصوت والمحاسبة) دونما مؤشرات إيجابية. ويذكر في المعيار الثاني: مشاكل خطيرة في الاستقرار السياسي ومعدل العنف مدفوعاً الى حد كبير بواسطة الارهاب والتوتر السني الشيعي والضغط من اليمن.

يتحدث كوردسمان عن غياب مؤشرات إيجابية في مجال السيطرة على الفساد وحكم القانون. ومن جهة ثانية، فإنه بالرغم من حصول المملكة السعودية على الترتيب الأعلى في مؤشرات التنمية المتبعة في هيئة الامم المتحدة الا أن لا معلومات عن تعديل في عدم المساواة. بينما تبدي قاعدة المعلومات لدى المركز عن تنامي أنماط العنف والارهاب منذ العام 2010 وإن لم تصل حتى الآن الى المستوى الذي وصلت اليه في 2003 ـ 2005.

المعايير الواردة في التقرير تعين على فهم واقع المملكة السعودية ومستقبلها أيضاً، على المدى القصير في الحد الأدنى، بالنظر الى التطوّرات الأخيرة إذ تميل السلطات السعودية الى تقويض كل الأسس التي تسمح للمواطن بالتعبير عن رأيه. وحتى مواقع التواصل الاجتماعي التي تمثّل الفضاء الحر وربما الأخير للمواطنين من أجل البوح بآرائهم في سياسات بلادهم على المستويين المحلي والخارجي تخضع حالياً الى تهديد من المؤسسة الأمنية التي تلاحق الناشطين على مواقع (تويتر) و(فيسبوك) من أجل كبت الأصوات الناقدة للسياسة السعودية..

يتعرض كثير من المدافعين عن حقوق الانسان في المملكة لمضايقات شديدة وتهديدات متواصلة من الأجهزة الأمنية، الأمر الذي أدّى الى تراجع حاد في النشاط الحقوقي نتيجة اعتقال العشرات من الناشطين في مجال حقوق الانسان، وخضوعهم لأحكام بالسجن تصل الى ما يربو عن عشر سنوات كما حصل لأعضاء جمعية (حسم)..

لقد تزايدت معدّلات تراجع سيادة القانون، فيما تلجأ السلطات السعودية الى اعتماد الإسلوب الشخصي في إصدار القرارات ورسم السياسات على المستوى الوطني، ما ساهم في تعزيز أركان الدولة العميقة، وارتفاع معدلات الفساد في الدولة كما تكشف عن ذلك أرقام «هيئة الوطنية لمكافحة الفساد» والمعروفة باختاصر «نزاهة». نائب رئيس الهيئة سالفة الذكر عبد الله العبد القادر وفي ندوة بعنوان (دور مهنة المحاسبة والمراجعة في مكافحة الفساد) التي عقدتها كلية الاقتصاد والادارة بجامعة الملك عبد العزيز بجدة في 4 ديسمبر الجاري قال بالحرف: «نعم لدينا فساد مالي واقتصادي وإداري على جميع المستويات والأطر».. كلام العبد القادر جاء بعد يوم فقط من صدور التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية التي وضعت السعودية في المرتبة الـ55 ضمن مؤشرات مدركات الفساد لعام 2014 في القطاع العام من بين 175 دولة في العالم.

في واقع الأمر أن عبد القادر ألقى بظلال من الشك على إجراءات مكافحة الفساد في بلاده، ما دفعه للمطالبة بصلاحيات واسعة التي ينحصر دورها في مجرد «الضبط والتحرّي» منذ تأسيسها في مارس 2011. ويقترح عبد القادر إعطاء الهيئة حق التحقيق الأمني مع «الأشخاص الفاسدين ومحاكمتهم والبت في قضاياهم بشكل سريع، والتشهير بهم». عبد القادر كان أمام حقيقة كارثية على الأرض المتمثلة في سيول جدة التي تكرّرت رغم الفاجعة الكبرى في عام 2009 حيث نجحت الحكومة في التغطية على الفساد و»لفلفة» القضية بطريقة تبعث على السخرية خصوصاً وأن المأساة تكرّرت في جدة ومكة والرياض والدمام وتبوك والجوف. بل أمكن القول بأن في كل أرجاء مملكة النفط فضيحة مكتملة الأركان، لأن المشكلة ليست موضعية بل هي على مقاس دولة، التي تأتي دائماً في مستوى منخفض. الطريف أن عبد القادر أشار الى أن عدم ثقة الناس في جديّة الحكومة في ملاحقة ومعاقبة الفاسدين «أدى إلى انخفاض عدد المبلغين عن قضايا فساد إلى أدنى مستوى منذ تأسيسها».

وبالرغم من تفادي عبد القادر تقديم أرقام حول حجم الفساد المالي، إلا أن صحيفة (الرياض) ذكرت في عددها الصادر في 23 يونيو الماضي بأن حجم الخسائر الناجمة عن التستر التجاري بلغ 300 مليار ريال (84 مليار دولار)، بينما بلغ تسبب تعثر المشاريع الحكومة بحسب ارقام «نزاهة» ما يربو عن تريليون ريال أي (300 مليار دولار).

وما يقال عن الفساد وسرقة المال العام ينسحب على بقية المجالات لا سيما الحريات والحقوق التي باتت اليوم في عهدة فئة تقامر بمصير شعب بأكمله من أجل إشباع نزواتها الخاصة.. فهل بعد القاع انخفاض؟.

الصفحة السابقة