قراءة في رسائل محمد بن عبد الوهاب

رسـول الـتـكـفـيـر

ما يضفي أهمية خاصة على رسائل محمد بن عبد الوهاب الى العلماء وقادة البلدان والمناطق داخل
الجزيرة العربية وخارجها، أنها تشتمل على الرؤية الكونية، والتصورات العقدية الأصلية التي
أسست لمشروع دولة الدعوة. في رسائله ما يحتوي على توجيهات، خطط، وسياسات
إجتماعية على صلة بحركته الدعوية وأهدافها النهائية.


الجزء الثالث


سعد الشريف

في القسم الخاص من رسائل إبن عبد الوهاب والمعنونة (توجيهات عامة للمسلمين في الاعتقاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، رسالة بعث بها الى القاضي الإحسائي عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف أسماها (الفاضحة). نشير الى أن الإحساء نالت من تكفير ابن عبد الوهاب في رسائل عديدة، ومن منظور أتباع ابن عبد الوهاب فإن الاحساء خضعت تحت تأثير التيارات الثقافية والدينية إبان الحقبة العثمانية وارتباط الإحساء ببغداد والبصرة إدارياً، ما سهّل دخول التصوّف والتشيع عليها والتنوّع المذهبي حيث يتواجد فيها المذاهب الأربعة حتى اليوم، وإن أهل الإحساء يرون أن الحركة الوهابية طارئة ولا تنسجم مع الواقع التعددي الذي عاشته الإحساء زمناً طويلاً وان ابن عبد الوهاب ما جاء الا لتخريب هذا الواقع.

في تفسيرات أتباع الوهابية ما يشي برؤية عقدية، حيث يرى هؤلاء بأن رفض الإحساء لدعوة ابن عبد الوهاب هي نتيجة «الحسد»، وأن علماء الإحساء جلبوا على ابن عبد الوهاب وكاتبوا علماء بغداد والحجاز والبصرة من أجل التحريض عليه، ووضع أتباعه ذلك في خانة محاولة «لإطفاء نور الله».. واعتبروا تلك الرسائل التي كتبوها بأنها «عار»، وأن رسائل الشيخ عبدالله بن محمد بن عبد اللطيف الإحسائي هي محاولة «لصد الناس عن سبيل الله» وتندرج في إبقاء الناس «على ماهم عليه من الشرك» و»دعاء غير الله»..

في ضوء تلك التصوّرات الحادّة عن الشيخ الإحسائي، يمكن فهم رسالة ابن عبد الوهاب إليه، إذ بدت حادّة وموتورة في عنوانها ولغتها وأحكامها.. أظهر في مقدمة الرسالة ليونة مفتعلة ما لبث أن انقلبت الى صلابة وخشونة حادة. يقول:

«أما بعد، فقد وصل إلينا من ناحيتكم مكاتيب، فيها إنكار وتغليظ عليّ، ولما قيل: إنك كتبت معهم، وقع في الخاطر بعض الشيء..» ولفت الى أن له محبة عند الناس، ولعل في ذلك إشارة الى السبب وراء مكاتبته، وهو ما أفصح عنه شرّاح رسالته حين تحدّثوا عن نوع الأشخاص الذين عارضوا ابن عبد الوهاب بأنهم ليسوا عوّام الناس بل العلماء والقضاة والدعاة والمفتون والوجهاء، الأمر الذي أغاضه وأهل دعوته..

في تفسير أنصار ابن عبد الوهاب للإنكار عليه بعد ديني، لاعتقادهم بأنه جاء بالتوحيد! وليس طلباً لسلطة ما. وقع في قلب ابن عبد الوهاب شيء على الشيخ عبد اللطيف لأنه كان يتوقع منه خلاف ذلك، أي التوافق معه على دعوته «لما يذكر عنك في مخالفة من قبلك من حكام السوء»، في إشارة الى ما يعتقده منكرات من حكّم الأتراك في الإحساء وكذلك حكّام البوادي الذين كانوا يحكمون الإحساء بالنيابة عن العثمانيين. ولأن الشيخ عبد اللطيف كان قاضياً في الإحساء، فكانت له هيبة ومكانة عند الناس وعند الاتراك. حاول ابن عبد الوهاب استدراجه بكلمات خارج سليقته الحادة «وأيضاً لما أعلم منك من محبة الله ورسوله، وحسن الفهم، واتباع الحق ولو خالفك فيه كبار أئمتكم». ويشير هنا الى مذهبه الشافعي، فقد وصفه عبد الرحمن بن صالح الحجي شارح رسالة (الفاضحة) بأنه «كأنه اشعري وشافعي من متأخري الشافعية المتعصبين». في ذلك تعريض بالشيخ الاحسائي بأن مجرد انتمائه للمذهب الشافعي كاف للحكم بانحرافه، ولابد من اعتناقه دعوة ابن عبد الوهاب.. ثم يذكّره بما جرى بينهما قبل عشرين عاماً حين تذاكر أجزاء من التفسير والحديث، وقال ابن عبد الوهاب بأن الشيخ الإحسائي أخرج له كراريس من البخاري وكتب على هوامشها شروحاً ، وزاد على ذلك بأنه قال في مسألة الإيمان كما وردت في البخاري في أول صحيحه: «هذا هو الحق الذي أدين الله به، فأعجبني هذا الكلام، لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين» حسب ابن عبد الوهاب.

يتحدّث ابن عبد الوهاب عن تجربة طويلة كافية لمعرفة مستوى علمه، ولكن اللافت في المقطع أنه يتذكر بأنه قبل عشرين عاماً بأن الشيخ عبد اللطيف قال كلاماً في التوحيد فأعجبه ولكنه «خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين»، وفي ذلك تعريض بالطريقة الأشعرية والمذهب الشافعي، وجاء من شرح تعريض ابن عبد الوهاب وقال عن أئمة الشيخ عبد اللطيف بانهم من «الأشاعرة والمبتدعة».

ثم يقول «وذاكرتني أيضاً في بعض المسائل، فكنت أحكي لمن يتعلم مني ما منّ الله به عليك من حسن الفهم، ومحبة الله والدار الآخرة. فلأجل هذا، لم أظن فيك المسارعة في هذا الأمر». وفي هذه الفقرة وماسبقها يؤسس ابن عبد الوهاب لرؤيته الإيمانية، إذ يفترض أن الشيخ عبد اللطيف ينسجم مع فهم ابن عبد الوهاب، ويقيم على العقيدة التي هو عليها، وهنا يبدي موقفاً من الآخر المختلف يخلص الى قاعدة (إما أن تكون معي أو أنت كافر)، وبحسب شرح الشيخ عبد الرحمن الحجي «لو كنت أنا ـ أي ابن عبد الوهاب ـ المخطىء فطريقتك أنت خطأ وان كنت أنا مصيب فأنت مخطىء»، بما يتجاوز التبرير الديني للنظرة الى الآخر ـ المختلف، بل قد يحمل في طيّاته أبعاداً أخرى ليست، بالضرورة، دينية، بالنظر الى التجسيدات المادية لعقيدة الوهابية واستخدامها المفرط لسلاح التكفير، والتي أفضت الى الانتقال من العقيدة الى السلطة، بأبعادها كافة..

بدا واضحاً نزعة التمحوّر حول الذات لدى ابن عبد الوهاب، إذ يضع نفسه ـ الشخص معياراً للحقيقة الدينية في مقابل الآخر ـ المختلف الذي يقع حكماً في دائرة الخطأ «لأن الذين قاموا فيه مخطئون على كل تقدير، لأن الحق إن كان مع خصمهم ـ إشارة الى نفسه ـ فواضح وإن كان معهم فينبغي للداعي إلى الله أن يدعو بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم». ويشرح عبد الرحمن الحجي الاستثناء بالرجوع الى أقول علماء السلفية السابقية بالقول بأن الجدال مع الذين ظلموا بالسيوف.

يتمثّل ابن عبد الوهاب طريقة الأنبياء، ليس على سبيل الاقتداء، بل في تقمّصها كمقام وامتياز فيما ينظر الى المختلفين معه باعتبارهم كفّاراً ومشركين وفراعنة «وقد أمر الله رسوليه موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى».

وعلى الطريقة نفسها، وكما يقول شارح الرسالة، فإن ابن عبد الوهاب حاول استمالة الشيخ عبد اللطيف الاحسائي في البداية ولكّنه حين وجد فيه إعراضاً عن دعوته عنّف في القول وقال له بأنه «وإنّي لأظنّك يا فرعون مثبوراً»، واستخدم الشارح الآية ليضع ابن عبد الوهاب مكان موسى وهارون والشيخ عبد اللطيف مكان فرعون «كذلك الشيخ تلطف مع هذا الرجل لعله يتذكر أو يخشى لما تبين منه الصد والإعراض أغلظ عليه».

وأسهب ابن عبد الوهاب في عرض صفات المنافقين والفاسقين في سياق مناصحته بعدم الاستماع اليهم والتأثّر بهم، ما يعكس رؤيته الدينية وتشخيصه للواقع الايماني في منطقة الاحساء..ولذلك أنكر عليه بالقول «فكيف يجوز من مثلك أن يقبل مثل هؤلاء؟ وأعظم من ذلك: أن تعتقد أنهم من أهل العلم، وتزورهم في بيوتهم وتعظمهم». وفي ذلك تحريض واضح على علماء آخرين من بلدته، ينفي عنهم صفة العلم، ويأمر بعدم زيارتهم واحترامهم. وفي شرح هذه الفقرة يقول الشيخ عبد الرحمن الحجي «هذا القاضي كان يزورهم ويعظّمهم وهم يحاربون الله ورسوله ويحاولون إطفاء دعوة التوحيد». ورغم أن ابن عبد الوهاب لا يقصد شخصاً محدّداً بل يشمل بكلامه أكثر الناس بحسب فهمه لكتاب الله وما فيه من سياسة الدين والدنيا ثم يقول «لأن أكثر الناس قد نبذه وراء ظهره».

في تعريفه لدعوته، بدا ابن عبد الوهاب نافياً لكل ما هو آخر «ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم..». ومع أنه ينفي اتباعه لعلماء السلفية السابقين وأنه متّبع الكتاب والسنة، الا أنه لا يلبث أن يثبّت موقعيّة نوع محدد من العلماء ونفي ما سواهم، على أنه يذكر ذلك في سياق الحكم على عامة الناس بالجهل في الدين والخروج عنه كما يظهر بوضوح في الفقرة التالية:

«وغير خاف عليكم ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث، وما خالفوا فيه طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غيّر وبدّل، وسادتهم وأئمتهم وأعلمهم وأعبدهم وأزهدهم مثل ابن القيم والحافظ الذهبي والحافظ العماد ابن كثير والحافظ ابن رجب قد اشتد نكيرهم على أهل عصرهم الذين هم خير من ابن حجر، وصاحب الإقناع بالإجماع..». وكلمة «إجماع» هنا تبدو مضلّلة لأن ما يقصد به هو اتفاق بعض علماء السلفية على أمر ما، وليس إجماع الإمة أو فقهائها من المذاهب كافة.

يتمثّل ابن عبد الوهاب سيرة علماء السلفية السابقين في انكار مجتمعاتهم عليهم في سياق تموضع في حركة دعوية موصولة بالماضي، واستدراج مشروعية تاريخية لدوره الرسولي «فأعلم المتأخرين وسادتهم منهم ابن القيم قد أنكروا هذا غاية الإنكار، وأنه تغيير لدين الله..».

يشير ابن عبد الوهاب بطريقة عابرة وبما يحمل دلالة عميقة «أكبر شبههم على الإطلاق أنا لسنا من أهل ذلك، ولا نقدر عليه ولا يقدر عليه إلا المجتهد..». وهذا المقطع يشير الى أن علماء عصره وجدوا بأنه قليل المعرفة، وغير حائز على ملكة الاجتهاد في الشريعة، ولكنّ ابن عبد الوهاب نقل موقف علماء عصره خصوصاً في الإحساء من ذخيرته العلمية الى ساحة حربه الإيمانية (الايمان والكفر والتوحيد والشرك)، فألبس موقفه معنى دينياً متعالياً بأن رفض العلماء لدعوته ليس لأنه غير أهل للاجتهاد بل لأنهم متّبعون لملة آبائهم وآجدادهم، كما الكفار تماماً «وإنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون». ونصح ابن عبد الوهاب الشيخ عبد اللطيف الإحسائي بأن يرجع الى كتاب ابن القيم (أعلام الموقّعين) ليدينه «وسرد من شبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم». وهنا يؤكد رؤيته الكونية بأن أهل زمانه ومن سبقهم كانوا على الضلال.

فابن عبد الوهاب، وهو يكاتب القاضي الإحسائي، ينطلق من موقف عقدي يفيد بأن الأخير على الضلال والشرك ولذلك يقول في ختام رسالته «وأتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم..». وأن الذي منعه من المكاتبة في المرات السابقة هو حسب قوله «ظني أنك لا تقبل وتسلك مسلك الأكثر». بل حاول ابن عبد الوهاب أن يستميله إليه وأن يحارب معه في جبهته «فإنك لو تكون معنا لانتصفنا ممن أغلظ علينا».

وحين طالبه بقراءة كتاب ابن القيم (إعلام الموقّعين) اشترط عليه التسليم بما فيه، وحتى طرق الاستدلال، أو الآيات القرآنية التي استدل بها وتفسيرها له يجب أن تكون بحسب منهج ابن القيم. ولذلك، فإنّه حذّره من الاصغاء الى القائل بأن «الآيات التي استدل بها ـ أي ابن القيم ـ ليس هذا معناها فأضرع إلى الله وأسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق وتجرد إلى ناظر أو مناظر، واطلب كلام أهل العلم في زمانه..» والأزمنة التي سبقته أيضاً.. وإذا كان الحال على هذا النحو، فإن ابن عبد الوهاب يؤكّد مبدأ الإتّباع والتقليد هنا ويرفضه في مكان آخر، لا سيما وأن دعوته تقوم حسب زعمه على العودة المباشرة الى الكتاب والسنّة وليس الى أقوال البشر..

يحذّر ابن عبد الوهاب الشيخ الاحسائي من العودة الى طائفة من المفسّرين غير التي ذكرها «وإياك وتفاسير المحرّفين للكلم عن مواضعه وشروحهم فإنها القاطعة عن الله وعن دينه..». ولكنّه لم يذكر من هم هؤلاء المحرّفون؟

يوجّه ابن عبد الوهاب اتهاماً للقاضي الاحسائي بمخالفة طريقة السلف في اتباع الكتاب والسنة ويخاطبه مباشرة «وأنتم مقرّون أنّكم على غير طريقتهم وتقولون ما نقدر عليها ولا يقدر عليها إلا المجتهد فجزمتم أنه لا ينتفع بكلام الله وكلام رسوله إلا المجتهد..». وبدا واضحاً أن نفي صفة الاجتهاد عنه قد تسبّبت في إحداث مشكلة بالنسبة له ما دعته الى النيل من العلماء والتطاول عليهم بكلمات نابية أحياناً كثيرة..ولذلك أيضاً، نفهم التفسير المشوّه لكلامهم حول فقدانه الأهلية العلمية التي تخوّله الاجتهاد في الدين، فاتهمتهم بأنهم يخالفون سيرة الأولين «وشهدتم أنكم على غير طريقتهم معترفين بالعجز عن ذلك». وعاد وكرّر ذلك لاحقاً «وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم أنّكم لا تقدرون على فهم كلام الله ورسوله والسلف الصالح». ورفض ابن عبد الوهاب من يفتي الناس بحسب مذاهبهم التي يتبعونها ويعتبر ذلك من باب «العلو والرياء وأكل أموال الناس بالباطل». واتّهم ابن عبد الوهاب مخالفيه بالشرك الأكبر بقوله: «وبعض الذين أنكروا علي هذا الأمر وادعوا أنهم من أهل العلم ملتبسون بالشرك الأكبر ويدعون إليه ولو يسمعون إنساناً يجرد التوحيد ألزموه بالكفر والفسوق».

وختم رسالته بتخيير الشيخ عبد اللطيف الإحسائي بل وكل مخالفيه الى أحد أربع: القرآن، السنة، إجماع أهل العلم، أو المباهلة.

وفي رسالة عامة بعث بها الى «من يصل إليه من الإخوان». وهو مصطلح يستعمله للمقرّبين منه والمؤمنين بدعوته الذين يصفهم بأوصاف خاصة كقوله: «المؤمنين بآيات الله المصدقين لرسول الله التابعين للسواد الأعظم من أصحاب رسول الله والتابعين لهم بإحسان، وأهل العلم والإيمان المتمسكين بالدين القيم عند فساد الزمان، الصابرين على الغربة والامتحان».

وفي هذا النوع من الرسائل، يخاطب ابن عبد الوهاب أتباعه بلغة مختلفة كما يخاطب «الصفوة» و»الرهط الأول» الذين تحوّلوا فيما بعد إلى «دعاة» و»مبشّرين» و»محاربين»، ولذلك يصف لهم أحوال وأهوال الزمان الذي يعيشون فيه.. فهو يستحضر الظرف التاريخي الذي ظهر فيه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكيف كان حال مجتمعه الذين «خرجوا عن ملة إبراهيم وأقبلوا على الشرك بالله..». ثم يخبر عن ردود الفعل التي صدرت عن المجتمع إبان انطلاق الدعوة «فلما دعا إلى الله ارتاع أهل الأرض من دعوته وعادوه كلهم جهالهم وأهل الكتاب عبادهم وفساقهم..» سوى ثلّة قليلة مثل أبو بكر وبلال وخديجة وعلي..

يذكر ابن عبد الوهاب هذا السياق التاريخي بهدف طمأنة أصحابه الى الخيار الايماني الذي اعتنقوه باتّباع دعوته، كما يظهر في كلامه «فاصبروا يا إخواني واحمدوا الله على ما أعطاكم من معرفة الله سبحانه ومعرفة حقه على عباده ومعرفة ملة أبيكم إبراهيم في هذا الزمان التي أكثر الناس منكر لها..».

يبشّر ابن عبد الوهاب حوارييه بالنصر على الخصوم، وينقل اليهم بشارة من السماء «وقد منَّ الله عليكم بإقرار علماء المشركين بهذا كله سمعتم اقرارهم أن هذا الذي يفعل في الحرمين والبصرة والعراق واليمن أن هذا شرك بالله فأقرّوا لكم أن هذا الدين الذي ينصرون أهله ويزعمون أنهم السواد الأعظم أقروا لكم أن دينهم هو الشرك؛ وأقرّوا لكم أيضاً أن التوحيد الذي يسعون في إطفائه وفي قتل أهله وحبسهم أنه دين الله ورسوله، وهذا الإقرار منهم على أنفسهم من أعظم آيات الله ومن أعظم نعم الله عليكم، ولا يبقى شبهة مع هذا إلا للقلب الميت الذي طبع الله عليه وذلك لا حيلة فيه». لا يخبر ابن عبد الوهاب عن مصدره في أخبار العلماء بذلك، فهو يسوق بشارته الى أهل دعوته كما لو أن ذلك في حكم المسلّمة. ثم ينبّهم الى شبهة واحدة يطالبهم بالتنبّه اليها لمواجهتها، وهي الاقرار له بكل ما قال سوى «التكفير والقتال»، ويجيب على هذه الشبهة بالقول: «والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا إذا أقرّوا أن هذا دين الله ورسوله كيف لا يكفر من أنكره وقتل من أمر به وحسبهم؟ كيف لا يكفر من أمر بحبسهم؟ كيف لا يكفر من جاء إلى أهل الشرك يحثهم على لزوم دينهم وتزيينه لهم ويحثهم على قتل الموحدين وأخذ مالهم؟ كيف لا يكفر وهو يشهد أن الذي يحث عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكره؟ ونهى عنه وسماه الشرك بالله ويشهد أن الذي يبغضه ويبغض أهله ويأمر المشركين بقتلهم هو دين الله ورسوله».

وبدا ابن عبد الوهاب متمسّكاً بمبدئي التكفير والقتال، لارتباط ذلك بنجاح دعوته ومشروع الدولة التي يروم إقامتها..ولذلك طمأن أنصاره لثبات موقفهم التكفيري وأراد حسم أي خلاف قد ينشأ نتيجة لذلك بأن بالغ في تكفير المسلم «واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين ولو لم يشرك أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم كلهم».

ومن الواضح أن مشكلة ابن عبد الوهاب ليس مع المشركين الأصليين بدرجة أساسية بل مع المسلمين الذي يعتقد بأنهم مشركون، ونزع صفة الاسلام عنهم كفيل بشرعنة الحرب عليهم..يقول «وأنا أذكر لكم آية من كتاب أجمع أهل العلم على تفسيرها وأنها في المسلمين وأن من فعل ذلك فهو كافر في أي زمان، قال تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) إلى آخر الآية وفيها : (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة لما فتنهم أهل مكة وذكروا أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه مع بغضه لذلك وعداوة أهله لكن خوفاً منهم أنه كافر بعد إيمانه فكيف بالموحد في زماننا؟ إذا تكلم في البصرة أو الأحساء أو مكة أو غير ذلك خوفا منهم لكن قبل الإكراه، وإذا كان هذا يكفر فكيف بمن صار معهم وسكن معهم وصار من جملتهم؟ فكيف بمن أعانهم على شركهم وزينه لهم؟ فكيف بمن أمر بقتل الموحدين وحثهم على لزوم دينهم؟».

يسوق ابن عبد الوهاب ذلك للحيلولة دون تسرّب الريب الى قلوب أنصاره، وخاطبهم بما جرى بينه وبين علماء عصره الذين وصفهم بـ «أعداء الله» فكان حين يطالبوه بالكف عن التكفير والقتال يشهر في وجوههم دعوته التي تحوّلت عقيدة قهرية.

وفي رسالة بعث بها الى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى، ابن قاضي الدرعية في عهد الأمير محمد بن سعود، مؤسس السلالة السعودية، وقد قتل في بلدة ضرماء سنة 1164هـ، وقد جئنا على سيرته في الجزء الثاني من «رسول التكفير». اما إبنه عبد الوهاب فتوفي في الجبيلة، ولا يعرف عن ذريته شيء، وقد ورد إسمه في أحد الصكوك الشرعية لدى أعمامه أسرة آل حمد في الجبيلة. وقد غادر عبد الوهاب مع أبيه عبد الله الدرعية إلى ضرماء بعد لجوء ابن عبدالوهاب إلى الدرعية، فاختار أن يضعن الى الجبيلة والعيينة حيث تقطن عائلته وأنسابه، ولكن نزح الى ضرماء دون إبلاغهم، وتزوّج هناك وأنجب فيها إبنه عبد الوهاب..

رسالة ابن عبد الوهاب إلى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى بدت وديّة وحميمية كما يظهر في سؤاله عن أحواله وأحوال والده وطلبه منه إبلاغ والده السلام، وإن كان عبّر له عن معاتبة «في نفسي عليه بعض الشيء» وتتعلق برسائل كان يبعث بها اليه وقد أطلع عليها أناس لا يرتضيهم ابن عبد الوهاب «سمعنا بعض الناس يذكر أنه معطيها بعض السفهاء يقرءونها على الناس..». وكان يمرّر ذلك كله بطريقة وديّة «وأنا أعتقد فيه المحبة، وأعتقد أيضا أن له غاية وعقلاً، وهو صاحب إحسان علينا وعلى أهلنا..»، الأمر الذي يكشف عن علاقة وثيقة بين الرجلين. مرّر أيضاً معاتبة أخرى بقوله: «ذكر أيضا عنه بعض الناس الكلام الذي يشوش الخاطر..» ولكن حاول أن يجد له في ذلك عذراً : «فإن كان يرى أن هذا ديانة ويعتقده من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأنا ولله الحمد لم آت الذي أتيت بجهالة..».

ولكن ابن عبد الوهاب لم يستطع كتم غيضه بصورة كاملة رغم لغة الود التي كست رسالته في البداية، إذ راح يتحدث عن «طرف ثالث» يحاول إفساد العلاقة الوديّة بينه وبينهم : «فإن كانت مكاتيب أولياء الشيطان وزخرفة كلامهم الذي أوحي إليهم ليجادل في دين الله لما رأى أن الله يريد أن يظهر دينه غرته وأصغت إليه أفئدتكم فاذكروا لي حجة مما فيها أو كلها أو في غيرها من الكتب مما تقدرون عليه أنتم ومن وافقكم..». وهنا بدا ابن عبد الوهاب كما لو أنه خصم في مقابل من يفترض أن يكونوا أهل دعوته، حين طالبهم بتقديم الحجج التي لديهم، بل عقدة مجادلة على أساس ان عبد الوهاب وأباه في الضفة الأخرى.

حسم ابن عبد الوهاب نتيجة الجدل ابتداءً وأخبر صاحبه بأنه سوف يقدّم جواباً حاسماً سوف يعلم الأطراف التي باتت مستعدة لتلقي الدعوة الوهابية بأنه «الحق وأن تلك هي الباطل»، بل زاد على ذلك ثقة بالنفس مفرطة بقوله «عندي من الحجج الكثيرة الواضحة مالا تقدرون أنتم ولا هم أن تجيبوا عن حجة واحدة منها، وكيف لكم بملاقاة جند الله ورسوله؟».

ينزع ابن عبد الوهاب الى تقويض المرجعية الفقهية والعقدية التي يستند اليها مخالفوه، ولذلك كان يشدّد على إضعاف مكانة علماء المذاهب الأخرى. فكان ينقد اتباع العلماء من المدارس الأخرى، مع أنه لا يكف عن الاستدلال بما قاله الامام احمد وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وبن رجب وغيرهم من أئمة الحنابلة..فيستشهد بدليل من ابن تيمية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، وزعم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده فسّروها «بهذا الذي تسمونه الفقه وهو الذي سماه الله شركاً واتخاذهم أرباباً»، ثم يعقّب «لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافاً»، وغريب توصيم ابن عبد الوهاب الفقه بالشرك، وقد يفسر ذلك، جزئياً على الأقل، عزوفه عن دراسة الفقه والاكتفاء بالعقيدة.

وحطّ ابن عبد الوهاب من قدر العلماء الذين قرأ عبد الله بن عيسى وإبنه عبد الوهاب كتبهم وقال «أن من رزقه الله العلم يعرف أن هذه المكاتيب التي أتتكم وفرحتم بها وقرأتموها على العامة من عند هؤلاء الذين تظنون أنهم علماء كما قال تعالى : (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ) إلى قوله: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) لكن هذه الآيات ونحوها عندكم من العلوم المهجورة، بل أعجب من هذا أنكم لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله ولا تنكرون هذه الأوثان التي تعبد في الخرج وغيره التي هي الشرك الأكبر بإجماع أهل العلم، وأنا لا أقول هذا». لم يكتف ابن عبد الوهاب بالتأكيد على محورية علم العقيدة على حساب العلوم الأخرى قاطبة، بل عاد إلى لغة التعالي والاتّهام والتكفير، حين افترض ان لا أحد من المسلمين في زمانه يفهم شهادة أن لا إله الا الله، وأن ثمة أوثاناً تعبد من دون الله في الخرج وغيره وهي الشرك الأكبر الموجب للتكفير ثم القتال، والأنكى أن ذلك كله يحصل ولا أحد ينكر ما يجعل فاعل المنكر والساكت عنه والراضي به كفّاراً بناء على أحد نواقض الإسلام «من لم يكفّر كافراً فهو كافر» ومن شكّ في كفره فهو كافر..

وفي رسالة ثانية الى عبد الوهاب بن عبد الله عيسى جاءت للرد على اتهّام الأخير له بسوء الظن وإرسال الجواسيس والاصغاء الى الوشاة وقبول أخبارهم عنه. ردّ ابن عبد الوهاب بطريقة توحي وكأنه اعتراف بوقوع ذلك ولكن لديه تفسيره المختلف كما تشير الى ذلك عبارته «فكل هذا حق وأريد به باطل». بل كشف ابن عبد الوهاب عن إصراره على إساءه الظن به بقوله «والعجب منك إذا كنت من خمس سنين تجاهد جهاداً كبيراً في رد دين الإسلام..». وأيضاً، كشف ابن عبد الوهاب عن حقيقة إرساله الجواسيس بحسب توصيف عبد الوهاب فيما يعتبرهم ابن عبد الوهاب دعاته وموفدين من طرفه «فإذا جاءك مساعد أو ابن راجح وإلا صالح بن سليم وأشباه هؤلاء الذين نلقنهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن عبادة المخلوقات كفر وأن الكفر بالطاغوت فرض قمت تجاهد وتبالغ في نقض ذلك والاستهزاء به..». وراح ابن عبد الوهاب يعدّد من ينقلون له عن عبد الوهاب وحاله «وليس الذي يذكر هذا عنك بعشرة ولا عشرين ولا ثلاثين ولا أنت بمتخف في ذلك ثم تظن في خاطرك أن هذا يخفى علي ..».

بدا ابن عبد الوهاب في ختام رسالته متودّداً في محاولة لتخفيف وطأة ما قاله عنه في الفقرات السابقة، فساق إليه عبارات من قبيل «فإن كان إني أدعو لك في سجودي وأنت وأبوك أجل الناس إلي وأحبّهم عندي..». وقال كلاماً لافتاً في السياق نفسه «وأمرك هذا أشق علي من أمر أهل الحسا..»، إذ يبدو أنه قد داخله شيء ما في نفسه إزاء الإحساء التي رفض علماؤها الإذعان له ولمزاعمه، ولأن فيها من العلماء من أفسد عليه محاولاته في استقطاب الأنصار والمؤيدين بمكاتباته الى البصرة وبغداد والحجاز بل وحتى داخل نجد، ونعلم مافعله الشيخ ابن العفالق كما أسلفنا..

وقال أيضاً عبارة أخرى ذات مغزى بما نصّه «بعد ما استركبت أباك وخربته..»، إذ يشير الى أن عبد الوهاب هو من سيطر على والده عبد الله بن عيسى وغيّر في عقيدته. رسالة تبدو أنها خالية من السياسة والحكمة، يختلط فيها مد يد والصفع بأخرى، وكأنه بذلك يجمع بين نزوعين: الاستمالة والتجريح..

وكان ابن عبد الوهاب قد بعث برسالة الى عبد الله بن عيسى وابنه عبد الوهاب بعد أن نما الى علمه بأنهما في حال غضب عليه، فردّ عليهما بغضب مضاد، وقال لهما «أني زعلان زعلاً كبيراً وناقد عليكم نقوداً أكبر من الزعل، ولكن وابطناه واظهراه، ومعي في هذه الأيام بعض تنغص المعيشة والكدر مما يبلغني عنكم..». والسبب في الخلاف كما يبدو هو معارضة بن عيسى وابنه عبد الوهاب لتصدي محمد بن عبد الوهاب للفتيا، وقد اعتبر ذلك محاولة منهما لمنعه (عن نفع المسلمين في المسائل الصحيحة).

ما أثار ابن عبد الوهاب أن ابن عيسى وابنه عبد الوهاب وبعد أن دخلا في دعوة محمد بن عبد الوهاب، وبشّرا بها بين الناس عادا وانقلبا «أنكم ترتدون على أعقابكم»، بسبب غمزه في قناتهما في أحد مجالسه وبين أهل دعوته واتهامه لهما باستحلال الرشوة، ونفى أن يكون صدر منه ذلك وقال «كيف أعنيكم به وأنا كاتب لكم تسجلون عليه وتكونون معي أنصاراً لدين الله؟».

وأيضاً، انتقدا غلظته في إبلاغ الأحكام، مرجعاً ذلك إلى أن الناس يستنكرون كل أمر لم يألفوه. الغريب أن ابن عبد الوهاب بدلاً من التخفيف من غلظته، عاد وأقسم بأنه «لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله ووجوب قتلهم كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم لا أجد في نفسي حرجاً من ذلك..». في هذا النص يكشف ابن عبد الوهاب عن خبايا تشدّده، وإن ما يمنع من تطبيق الأحكام التي يؤمن أن الناس لم يألفوها «إن أراد الله أن يتم هذا الأمر تبين أشياء لم تخطر لكم على بال..».

وعاد ابن عبد الوهاب وذكّر عبد الله بن عيسى وابنه عبد الوهاب بما يعتمر بداخله من غضب «لا يخفاكم أن معي غيظ عظيم ومضايقة من زعلكم..»، ولفت الى أن مصدر غضبه هو تسرّب الريبة اليهما بعد أن كانا مؤمنين بدعوته «وأنتم من قديم لا تشكّون فيَّ والآن غايتكم قريبة وداخلتكم الريبة..». الطريف أن ابن عبد الوهاب وهو يسهب في نقده تنبّه الى أنه قد يفقد توازنه في الكلام فقال «وأخاف أن يطول الكلام فيجري فيه شيء يزعلكم وأنا في بعض الحدة..». ولكنّه أشار عليهما بأن يأتي عبد الوهاب اليه لمواجهته مباشرة ولقطع الخلاف، وفي حال رفضه يوصي أحداً ليأتي عنده ويبلغه بما لديهما من اشكالات ويقوم بحلها. يفعل ذلك كله للحفاظ عليهما بكونهما من وجوه دعوته: «فإن الأمر الذي يزيل زعلكم ويؤلف الكلمة ويهديكم الله بسببه نحرص عليه..».

وبعث ابن عبد الوهاب رسالة الى أحمد بن محمد بن سويلم وثنيان بن سعود. ونذكر هنا طرفاً من سيرة آل سويلم، لأهمية الدور الذي لعبته في دعوة ابن عبد الوهاب وفي تاريخ الدولة السعودية في أطوارها الثلاث. فآل سويلم هم من اهالي ثادق وهي من الأسر العريقة وسط نجد، وتعود فروع الأسرة الى البدارين في نسبها الى سويلم بن محمد بن بن سليمان بن فوزان بن عمران البدراني الدوسري، ونزلت القصيم أواسط القرن العاشر الهجري، واستوطنوا ثادق في القرن الحادي عشر وحكموها أكثر من مائة وخمسين عاماً..وكان أمراء ثادق من آل سويلم يعيّنون من قبل أمراء آل سعود. وكانوا يقاتلون إلى جانبهم في الأطوار الثلاثة من تاريخ الدولة السعودية.

كان يتولى إمارة الدرعية محمد بن سعود منذ عام 1139هـ الى عام 1157هـ وهو تاريخ انتقال محمد بن عبد الوهاب اليها قادماً من العيينة، فنزل ضيفًا على عبد الله بن سويلم، وابن عمِّه أحمد بن سويلم، وكانا من تلاميذه أثناء إقامته في العيينة، لكن ابن سويلم خاف على نفسه من محمد بن سعود، لاعتقاده أنه خالف أوامره وآوى في داره من لا يرغب، وحاول ابن عبد الوهاب طمأنته. وقام بن سويلم بإيصال خبر الى أخوي محمد بن سعود، وهما ثنيان ومشاري، وزوجته موضي بنت أبي وهطان، ويبدو أنهم اجتمعوا للتشاور في إبلاغ خبر وجود محمد بن عبد الوهاب في دار أحمد بن سويلم، فذهب أخواه إليه وقالا له: «..إن هذا الرجل غنيمة ساقه الله إليك، فاغتنم ما خصَّك الله به». كما أشاروا عليه بزيارة ابن عبد الوهاب، فأتاه في بيت أحمد بن سويلم بصحبة أخويه ثنيان ومشاري، فسلَّم عليه، وفي هذا البيت عقد التحالف التاريخي بين الرجلين، وفيه أيضاً تعهّد له بالحماية وأنه «يمنعه بما يمنع بنه نساءه وأولاده».

وبعد أن عرض ابن عبد الوهاب على محمد بن سعود أصول دعوته، وقبل محمد بن سعود منه ذلك وقال له: «فابشر بالنصرة لك ولما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد. ولكنه اشترط عليه: نحن إذا قمنا في نصرتك، والجهاد في سبيل اللهن وفتح الله لنا ولك البلدان، أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا، والثانية: أنّ لي على الدرعية قانوناً آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئاً. فقال ابن عبد الوهاب: أما الأولى فابسط يدك: الدم بالدم والهدم بالهدم، وأمّا الثانية: فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوّضك الله من الغنائم ما هو خير من هذا». فلما ردّ ابن عبد الوهاب على شرطي محمد بن سعود، بسط الأخير يده، وبايعه على دين الله ورسوله والجهاد في سبيله، وإقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم اصطحب محمد بن سعود ابن عبد الوهاب الى الدرعية واستقر عنده، وباشر مهمته كمسؤول عن الشؤون الدينية في الإمارة..

ويعتبر أحمد بن محمد بن سويلم وثنيان بن سعود من أوائل المناصرين لدعوة ابن عبد الوهاب، وقد خصّهما بالتقدير والتبجيل لمواقفهما الداعمة لحركته. في الرسالة التي بعث بها اليهما بدا كما لو أنه زعيم حزب يتواصل مع كوادره، فيبلغهم الأوامر والتوجيهات، وما يجب عليهم فعله في الشؤون الحركية والمالية، إلى جانب القضايا العقدية..

في الرسالة يجيب ابن عبد الوهاب عن مسألة نسبت إليهما وهي إنكار بعض أتباع الدعوة الوهابية على أهل الإحساء في التعامل مع أحد الأشراف ويدعى عبد المحسن الشريف، ومنها أنهم كان يحبون على يده وأنه يلبس عمامة خضراء..وأظهر ابن عبد الوهاب توازناً في مقاربته لهذه المسألة حين طالب بعدم إنكار أمر دون معرفة «فأول درجات الإنكار معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله» وقال بأن تقبيل اليد مسألة خلافية، وأخبر بن سويلم وثنيان بأن يبلغا الأتباع عدم «إنكار كل مسألة لا يعرفون حكم الله فيها». كما أوضح مسألة «لبس الأخضر» وهي للتمييز قديماً لأهل البيت «لئلا يظلمهم أحد أو يقصر في حقهم من لا يعرفهم» وأضاف: «فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم ويظن أنه من التوحيد بل هو من الغلو ونحن ما أنكرنا إلا إكرامهم لأجل ادعاء الألوهية فيهم..». وطالب بعدم التعجّل في الانكار.

ما يلفت أن مرونة غير معهودة بدت في رسالة ابن عبد الوهاب منها قوله على سبيل المثال: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منافقين بأعيانهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله..». فأين منه في رسائله السابقة التي كان يطلق فيها أحكاماً بالتكفير على الأعيان والعموم، وكان يصنّف من يشاء في خانة المنافقين وآخرين في خانة الكفّار بل ومنهم من قطع بارتكابه كفراً أكبر يوجب القتل.

وفي الأخير طلب ابن عبد الوهاب من احمد بن سويلم أن يرسل اليه «المجموع» من مال الزكاة مع أول من يفد عليه، وأخبره بأن يأخذه من سليمان ووبّخه بسبب تراخيه وغفلته، وقال له «تراك خالفت خلافاً كبيراً في هذا المجموع»، في إشارة الى تقصيره في تحصيل المال وإرساله إليه..

وفي رسالة بعث بها ابن عبد الوهاب للمصالحة بين عبد الله بن سويلم وابن عمه أحمد بن سويلم بسبب خلاف حول شدّة كلام الأخير «في بعض المنافقين» حسب قوله. يحيل ابن عبد الوهاب الى ابن زيدان، وهو من المقرّبين منه، والأذرع التي يعتمد عليها في قضاء حوائجه وتواصله مع أنصاره..

الجدير بالإشارة أن إبن عبد الوهاب كان مهتّماً بإقامة علاقة وثيقة وراسخة مع زعماء القبائل الكبرى والرئيسة في نجد، فكان يكرّس جهداً خاصاً لهذه الغاية، وفي حال معارضة أي قبيلة لدعوته وعجزه عن إقناعه بمعتقداته يعمل على إضعاف دورها ومكانتها بل وتشويه صورتها.

على سبيل المثال، كان ابن عبد الوهاب يعتمد على قبيلة آل عسكر وكان يرأسها فوزان بن زيدان الملقب بـ «الدبيجة»، وقد رحلوا مع من تبقى من قبيلة الظفير بعد واقعة الخرج. وكانت الظفير قامت سنة 1139هـ بالهجوم على الإحساء وحاصرت بعض أحيائها وقتلت رجالاً كثيرة ونهب ابن صويط قائد الهجوم من قبيلة الظفير قرى الأحساء الى ان صالحها أهلها ورجع عنها..

وفي رد فعل، وفي العام التالي، 1140هـ، وقعت مواجهة بين محسن الشريف أبا نمي ومعه قبائل عنزة وعدوان وغيرهم من جهة وقبيلة الظفير من جهة أخرى على ساقي الخرج، حيث نوّخ الشريف وحلفاؤه عليه شهراً وأرغم عساكر الظفير فرحلوا عن الخرج. وكان أفراد من عساكر الظفير من ضمن فرقة الحماية التي رافقت محمد بن عبد الوهاب حين انتقل من العيينة الى الدرعية، وقد أمر حاكم العيينة عثمان بن معمر سنة 1158هـ أحد الفرسان يقال له الفريد الظفيري ومعه عدّد من الخيّالة بمرافقة إبن عبد الوهاب الى حيث يريد، وسأله ابن معمر عن وجهته فقال: «أريد الدرعية، فأوصلوه الى هناك». وقد تناقصت أعداد آل عسكر بسبب الحروب فقلَّ عدّدهم واضطروا في زمن محمد بن زيدان للتحالف مع أبناء عمومتهم من العريفق والعلجانات وجميعها يعود الى الظفير..

في رسالة ابن عبد الوهاب الى أبناء سويلم ينقل عن ابن زيدان أن عبد الله بن سويلم زعل على إبن عمّه أحمد على خلفية تشدّد الأخير في موقفه من بعض من يصنّفهم ابن عبد الوهاب بالمنافقين. ويعتقد بأن التشدّد هو التزام «طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم». وقال بأن «من أفضل الجهاد جهاد المنافقين في زمن الغربة..». وفي ذلك موقف مستغرب يتناقض مع كلامه السابق حول القبول بظاهر الناس والله يتكفّل بسرائرهم، وإن القول بأن جهاد المنافقين أفضل الجهاد مستغرب إذ لا سند له من الكتاب والسنة.

على أية حال، فإن ابن عبد الوهاب، يتوسط في خلاف بين إثنين من أنصاره، كما يظهر من اللغة الناعمة التي يعتمدها والمناصحة التي يقدّمها لهما إذ يفترض تلك «الاخوانية» أن لغة خاصة تسود بين الأنصار والمتماثلين فكرياً..

وفي رسالة بعث بها الى جماعة من أهل شقراء، وتقع على بعد 190 كيلو متراً من الرياض، وهي تابعة لإقليم الوشم وأكبر بلدانها، وقد لعبت دوراً كبيراً في حركة ابن عبد الوهاب، إذ تعد شقراء معقلاً للوهابية بعد الدرعية، وقد ناصر أهلها دعوته، وأصبحت مأوى لمقاتليه الذين كانوا يغيرون على الدرعية، بحسب الشيخ حسين خلف الشيخ غزعل في «تاريخ الجزيرة العربية».

الطريف أن مؤرخي الدعوة الوهابية حين يأتوا على ذكر شقراء، شأن مناطق كثيرة في نجد وغيرها من مناطق الجزيرة العربية، يستخدمون عبارة «الدخول في الدين»، وكأنها كانت كافرة قبل دخول الوهابية إليها. وقد فعل ذلك محمد بن عمر الفاخري في كتابه (الأخبار النجديّة) حين جاء على أخبار سنة 1168هـ قال: «أجملوا أهل شقراء في الدخول في الدين».

كما يبدو أن شقراء كانت بمثابة قاعدة انطلاق للوهابية في الهجوم على المناطق الأخرى في نجد، فقد استخدمت لايواء المقاتلين وتجهيزهم لمقاتلة الدرعية، وفي وقت لاحق كاتبهم ابن عبد الوهاب وحثّهم على محاربة أهل ثرمداء، وهي من بلدان الوشم، وكان يصف أهل شقراء بأنهم «صماميم بني زيد».

في ظل هذه المكانة المتميّزة لشقراء، يمكن وضع سياق لرسالة ابن عبد الوهاب الى جماعة منها، حيث أظهر حرصاً مبالغاً في توجيههم، والتأكيد على الصبر مع ضيق الحاجة، في محاولة لتعزيز تعاليمه في نفوسهم فكان يخاطبهم «فيا اخواني لا تغفلوا عن أنفسكم..». وذكّرهم بما أصاب مناطق أخرى حيث نعمت بأوضاع معيشية أفضل ولكنها خرجت عن تعاليمه كقوله «مصداق قولي فيما ترونه فيمن ارتد من البلدان أولهن (ضرما) وآخرهن (حريملا) هم حصلوا سعة فيما يزعمون أو ما زادوا إلا ضيقاً وخوفاً على ما هم قبل أن يرتدوا». وعليه، بدا ابن عبد الوهاب خائفاً من تمرّد أحد المعاقل الرئيسية على دعوته وخروجه عن السيطرة كما حصل بالنسبة لمنطقتي ضرما وحريملا اللتين لم يترددا في إتهام الخارجين عن دعوته بالردّة..

يكشف ابن عبد الوهاب لمن راسلهم عن تأثير قبائل العناقر على أهالي شقراء حين كانوا في جاهلية وإن هذا التأثير بقي حتى بعد انخراطهم في دعوته «المعروف منكم إنكم ما تدينون للعناقر وهم على عنفوان القوة في الجاهلية فيوم رزقكم الله دين الإسلام الصرف وكنتم على بصيرة في دينكم وضعف من عدوكم أذعنتوا له حتى أنه يبي (= يريد) منكم الخسر ما يشابه لجزية اليهود والنصارى..».

والعناقر من بني سعد، وينتشرون في مناطق متفرقة من الجزيرة العربية وقرى في نجد مثل المجمعة والرياض وعنيزة والزلفي والدوادمي إلى جانب موطنهم ثرمداء، ولهم امتداد في الكويت..وكانت لهم سطوة في منطقة نجد كما يظهر من كلام ابن عبد الوهاب.

يوجّه ابن عبد الوهاب عتاباً شديداً لمن راسلهم بأنهم في الوقت الذين يذعنون لمطالب العناقر فيدفعون لهم الأموال، فيما يعلنون الحرب على الشيخ ابراهيم بن سليمان، عم إبن عبد الوهاب وأحد مشاهير علماء العيينة حريملاء.

وفي الأخير، حرّض ابن عبد الوهاب جماعة شقراء على محاربة العناقر في ثرمداء وخاطبهم قائلاً: «فتوكلوا على الله وشمروا عن ساق الجد في دينكم، وحاربوا عدوكم وتمسكوا بدين نبيكم وملة أبيكم إبراهيم، وعضوا عليها بالنواجذ..».

وفي رسالة بعث بها إلى جمع من أنصاره من أهل سدير، بسب خلاف بين أهل الحوطة، أو حوطة سدير وهي المركز التجاري كونها تقع في قلب سدير. وسبب الخلاف يعود الى طريقة إنكار المنكر والذي أدّى الى وقوع الفرقة بينهم. اللافت أن ابن عبد الوهاب يؤسس لمنهجية في الدعوة مستمدة من أقوال السابقين في تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي: «أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه صابراً على ما جاء من الأذى» وأضاف الى ذلك بأن «إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره»، ما يؤكّد بذلك على أفضلية وحدة الجماعة على ممارسة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

وفي مثال انكار المنكر على الأمير حدّد ابن عبد الوهاب مستويات منها:مناصحة السر «أن ينصبح برفق خفية»، أو تفويض شخص ما يناصحه خفية «استحلق عليه رجلاً يقبل من يخفيه»، الانكار الظاهري «الانكار ظاهراً»، وهناك خيار رابع في حال فشل الخيارات الثلاثة السابقة وهو أن يرفع الأمر اليه «فيرفع الأمر يمنا خفية» بوصفه المرجعية النهائية لشؤون الدعوة والدولة. أرسى ابن عبد الوهاب في هذه الرسالة سياسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخيارات الانكار وطالب بتطبيقها في المناطق الأخرى الخاضعة تحت سيطرة السلطة السعودية ـ الوهابية: «وهذا الكتاب كل أهل بلد ينسخون منه نسخة ويجعلونها عندهم ثم يرسلونه لحرمة والمجمعة ثم للغاط والزلفي».

وفي رسالة بعث بها الى أحمد بن يحيى مطوع من أهل رغبة، في إقليم المحمل، وتقع شمال غرب الرياض وتبعد عنها 130 كيلومترا، وكان بن يحيى مخالفاً لابن عبد الوهاب، وقد اتهمه أتباع الأخيره بأنه يظهر العدواة «لتوحيد الألوهية والاستهزاء بأهل العارض».

ويظهر من فحوى الرسالة أن ابن عبد الوهاب كان يتودّد لابن يحيى على أمل دخوله في دعوته، فكان يناصحه بلطف. وكان يخبره بأمور تكشف عن رغبته في استمالته اليه قربه منه كقوله: «ولا يخفاك أن الذي عادانا في هذا الأمر هم الخاصة الذين ليسوا بالعامة..»، وذكر له أشخاصاً مثل ابن إسماعيل والمويس وابن عبيد (وقد جئنا على ذكرهم سابقاً). بدا ابن عبد الوهاب مصرّاً على اتهامهم بالخروج عن الاسلام وقال «جاءتنا خطوطهم في إنكار دين الإسلام..» وزعم بأنه كاتبهم ونقل له أقولاً لعلماء وردت في «الاقناع» ولكن النتيجة سالبة «ما زادهم ذلك إلا نفورا»، ونقل عنهم قولهم «أن أهل العارض ارتدوا لما عرفوا شيئاً من التوحيد..». وهنا يبدو كما لو أن ابن عبد الوهاب يردّ التهمة بتهمة مضادة، فهذا النوع من الأحكام مألوف في صدوره عنه وعن أهل دعوته، ولم يعرف عن خصومه تكفيرهم للعموم.

كشف ابن عبد الوهاب عن هدفه من الرسالة بقوله «وإن تفضل الله عليك بفهم ومعرفة فلا تعذر لا عند الله ولا عند خلقه من الدخول في هذا الأمر»، وتمثّل هذه المرحلة الأولى، أي اعتناق دعوة ابن عبد الوهاب، ومن ثم تأتي الصدع بها وتعميمها بين الناس «فإن كان الصواب معنا فالواجب عليك الدعوة إلى الله وعداوة من صرح بسب دين الله ورسوله». وترك له هامش التحرّك بأن يناصح إذا وجد ما يستوجب التنبيه على خطأ أو باطل وجده في الدعوة أو عند خصمه «ولا نعذرك من تأمل كلامنا وكلامهم..».

وفي رسالة بعث بها الى عبد الله بن عيسى، قاضي الدرعية سالف الذكر، خيّره بين أمور ثلاثة مستنداً في ذلك على كتاب إبن القيم في (أعلام الموقّعين) في التعامل مع المخالفين وهي: الاستجابة للرسول، وإمّا اتباع الهوى، أو التحاكم الى الطاغوت. وعرض لأقوال أئمة السلفية في هذا الصدد، ثم طالبه بالتأمّل فيه وأن ينزله على أحوال الناس وحاله، وأن يعرض ما أشكل عليه من مسائل «فإن كان عندك شبهة فاذكرها فأنا أبينها إن شاء الله تعالى، والمسألة مثل الشمس..».

وفي رسالة بعث بها الى أحد وجوه القبائل النجدية يدعى نغيمش وجميع أنصاره، بارك فيها التحاقهم بدعوته ومناصرته، وفي الوقت نفسه ذكّرهم بما سوف يلحق بهم من البلاء وطالبهم بالصبر وتحمّل التحديات، على أساس أنهم يمثّلون الصفوة المؤمنة، متأسيّاً بتجربة الرسول صلى الله عليه وسلم في بدايات دعوته حيث يعيش وسط مشركين، يقول: «أن من اتبع هذا الدين لابد له من الفتنة، فاصبروا قليلا، ثم ابشروا عن قليل بخير الدنيا والآخرة..». لم يخطىء ابن عبد الوهاب في اختياره كلمة «الدين» وليس «الدعوة»، لأنه يرى في دعوته هي الدين الكامل، والحقيقة الدينية التي يجب على الناس اعتناقها..

لقد أرسى ابن عبد الوهاب بين أتباعه عقيدة اصطفائية تقوم على فكرة «الغربة» المستمدة من حديث نبوي: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل : يا رسول الله من الغرباء ؟ قال : «الذين يصلحون إذا افسد الناس»، ويرى بأن هذا الحديث ينطبق عليه وعلى أهل دعوته، بقوله: «وصرتم من الغرباء الذين تمسكوا بدين الله مع ترك الناس إياه..»، فهو هنا يجعل أتباعه في خانة المسلمين وغيرهم من الذين تركوا الدين، إما ردّة أو كفراً به.

وفي سنة 1184هـ/1770م كتب ابن عبد الوهاب رسالة مشتركة مع عبد العزيز بن محمد بن سعود الى والي مكة الشيخ عبد العزيز الحصين رسالة. نشير الى أن عبد العزيز خلف أباه محمد بن سعود بعد وفاته سنة 1179هـ/1765 وبقي في الحكم حتى اغتياله في رمضان 1218هـ/1803م.

بدأ ابن عبد الوهاب وعبد العزيز بن سعود رسالته بدون إلقاء السلام الذي عادة ما يبدأه في رسائله لمقربيه وأهل دعوته، ولكن بدت لغة الرسالة مختلفة تماماً عن سابقاتها، وكأنها خطاب ملوكي من الطراز الرفيع، حيث ينتقي الرجلان عباراتهما بعناية فائقة، طمعاً في استمالته الى الدعوة الوهابية، وقرّرا تلبية طلب الشريف أحمد بأن يبعثا اليه أحد الشيوخ للإجتماع بعلماء مكة بحضور الشريف وفي حال الاختلاف يحضر كتب العلماء وعلماء الحنابلة لحسم الخلاف، وفي حال غلبة فريق على آخر يكون أولى بالإتّباع. واللافت أن ابن عبد الوهاب وابن سعود أبديا استعداداً أولياً للتنازل للشريف على قاعدة أن أحق الناس بالأمر هم الأقرب الى النبي صلى الله عليه وسلم «وأحق الناس بذلك وأولادهم به أهل البيت الذي بعثه الله منهم وشرفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم». في إشارة الى أحد شروط الإمامة وهو القرشيّة.

وفي رسالة بعث بها الى عبد الله بن علي ومحمد بن جماز يقول فيها «وأهل القصيم غارهم إن ما عندهم قبب ولا سادات، ولكن أخبرهم أن الحب والبغض والموالاة والمعاداة لا يصير للرجل دين إلا بها ماداموا ما يغيضون أهل الزلفي وأمثالهم فلا ينفعهم ترك الشرك ولا ينفعهم قول: (لا إله إلا الله )..». وهو في الوقت الذي يشير الى وجود قبب وسادات في الزلفي وغيرها من بلاد نجد، استثنى منها أهل القصيم، ولكنّه عدّ ذلك غير كاف لانطباق شروط المسلمين عليهم، إذ لا بد أن يظهروا البغض والإنكار لأهل الزلفى لما هم عليه من مظاهر الشرك.

الصفحة السابقة