قناة العرب.. يا فرحة ما تمّت!

هاشم عبد الستار

كان التفكير بإنشائها ابتداءً في عام 2010، وأن تنطلق من لندن؛ ثم انتقل التفكير الى إطلاقها من القاهرة، فدهمها الربيع العربي، قبل أن يصبح خريفاً، ولم يكن الأمراء يحبّذون القاهرة في العهد الإخواني، فأعادوا النظر، وقرروا اطلاقها من الأردن ـ الدولة الملكية المقرّبة من الأمراء ـ ولكن ما أنْ بدأت الإستعدادات حتى تبلّغ مالك القناة الأمير الوليد بن طلال باقتراح من ملك البحرين بأن يُطلق قناته من المنامة، مع وعد بالدعم، وهكذا كان. كان ذلك عام 2012، وكانت البحرين بحاجة الى أية اشارات تبيّن ان وضعها السياسي طبيعي، وانها ملاذ آمن للإستثمارات، وأن الثورة الشعبية فيها تحت السيطرة، وأن الأمور تسير الى خير!

مائة مليون دولار، هو ما وعدت به البحرين دعماً للقناة، على مدار عشر سنوات من انطلاقها، بمعدل عشرة ملايين دولار سنويا!

وفي المقابل ستستفيد البحرين من الزعم بأنها بلد الحريات الإعلامية! وكأن ذلك سيكون رداً على سيل لا ينضب من التقارير الحقوقية الدولية التي تبيّن انها دولة استبداد، وقمع للحريات.

لم يكن يدر بخلد أحد أن القناة ستموت في مهدها.

فالأمير الوليد بن طلال ـ هكذا تصوّر حكام البحرين ـ لا يمكن أن يكون عدوّاً لنظام الحكم في البحرين، ولا عدواً لحكم عائلته الحاكمة في الرياض!

إذن.. لماذا كان الوليد يريد أن يتملّك قناةً فضائية سياسية المبنى والمعنى والهدف؟ خاصة وان هكذا قناة اخبارية سياسية لا يمكن أن تكون قناةً تجارية بأيّ حال من الأحوال، ولا يفترض ـ نظرياً ـ أن تكون صفقة تجارية او مغرية لرجل أعمال مثله؟

هذا السؤال لم يكن أحد يمتلك قبل سنوات اجابة حاسمة بشأنه؛ لنقل ان الاجابة كانت عمومية أشبه ما تكون تحليلاً سياسياً مؤقتاً. فالوليد بن طلال يمتلك قناة الرسالة وهي دينية مع انه لا علاقة له بالدين والتديّن، وهي أيضاً لم تكن قناة تجارية، اللهم إلا إذا تمّ النظر اليها من زاوية التغطية على قنواته الأخرى (روتانا) والتي تواجه بنقد مجتمعي غير قليل. ربما قيل أيضاً ان قناة الرسالة كانت تستهدف التبشير بفهم ديني أكثر اعتدالاً من فهم المدرسة الوهابية، التي ينظر اليها الوليد بن طلال وأبوه وكثيرون بأنها سبب رئيس في تدهور الوضع الداخلي السعودي على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية حتى.

قبل ان تنطلق قناة العرب بأربع سنوات، يوم كانت مجرد قرار، لم يكن هنالك وضوح في تقييم الوليد بن طلال من حيث اهدافه من قناة العرب، بالنظر الى ان طموحاته السياسية لاتزال ضامرة او مستترة الى حد كبير، إذ لم تنكشف بوضوح على النحو التي هي عليه حين بدأ العد العكسي لانطلاق القناة.

قناة العرب فرض حكومة البحرين شروطاً جديدة (سياسية) على القناة

خلال السنتين الماضيتين تحديداً، أظهر الأمير الوليد بن طلال الكثير من المواقف السياسية المعارضة او المتأففة من السياسات التي يقوم بها أعمامه في المملكة. كان عبر موقعه في تويتر او التصريحات الصحفية، او المقابلات التلفزيونية، يقول ما لا يود أعمامه وأبناء أعمامه سماعه، سواء تعلق الأمر بالإصلاحات، او بإدارة اقتصاد الدولة، أو تجاه المؤسسة الدينية، أو المبادرات الاجتماعية التي يقوم بها.. في كل الظروف والأحوال كانت السنوات الماضية حافلة بالمواقف، ما يكشف أن الرجل كان يمارس عملاً سياسياً بامتياز.

أواخر عهد الملك عبدالله كان يبشّر بقناته التي ستبث من البحرين، وأنها ستكون مختلفة وانها ستهتم بالشأن المحلي السعودي، بل وكانت تبشر بأن مساحة الحرية لديها مرتفعة.. كل هذا كان يشي بشيء من الشرّ ـ بنظر امراء الطبقة الحاكمة ـ من قبل ان تنطلق القناة. لكن الملك عبدالله ومَنْ هُم حوله لم يهتموا بالأمر كثيراً؛ ولربما كان من سوء طالع قناة العرب أن الملك عبدالله مات قبل انطلاق القناة بأيّام.

اصبح سلمان ملكاً، وسار على ذات نهج الملك عبدالله في تعيين الموالين وتصعيد الأبناء، وزاد على ذلك ان اتجه يميناً اكثر باتجاه توثيق التحالف مع المؤسسة الدينية الوهابية، فعزل من أراد وجاء بمتشددين أكثر على المؤسسات الدينية (ازاح رئيس الهيئات، وأزاح وزير العدل، وأزاح وزير الشؤون الاسلامية، وجاء بمن هم أكثر تشدداً). وبديهي أن يتوقع سلمان وأبناؤه أن الوليد بن طلال صاحب الطموح السياسي الذي لا يخفى على الأمراء، وهو الذي قال ذات مرّة لمجلة فرنسية: (لا أستطيع الإنتظار لأكون ملكا).. بديهي ان يتوقعوا ان يسبب لهم الوليد إزعاجاً كما فعل والده الأمير طلال ولازال. فطلبوا من ملك البحرين ان يوقف القناة قبل ان تنطلق وفي الحال.

الحكومة البحرينية التي تقتات على المعونات السعودية والحماية السعودية، والتي ارتاحت لوصول الجناح الاكثر تشددا الى الحكم في السعودية، استجابت للرياض، ووعدت بإغلاقها في أول خطأ ترتكبه ولأي سبب يعتبر تبريراً.

وهكذا كان!

في الأول من فبراير الجاري بدأت القناة (العرب) بثها.

وفي اليوم التالي الثاني من فبراير تم ايقافها وهي لمّا تُكمل 24 ساعة بث.

قالت القناة ان ايقاف البث سببه فني وإداري، وانها ستعاود البث خلال ساعات!

ومضت الساعات سريعة الى اليوم التالي. صحيفة (أخبار الخليج) البحرينية التي يمتلكها رئيس الوزراء البحريني المتشدد قالت أن أسباب ايقاف البث لها علاقة (بعدم التزام القائمين على المحطة بالأعراف السائدة في الدول الخليجية، ومنها الحياد في المواقف الاعلامية، وعدم المساس بكل ما يؤثر سلباً على روح الوحدة الخليجية وتوجهاتها). كلام عام، يُفهم ان التوقيف سببه سياسي بامتياز.

قيل ان السبب هو اللقاء الذي أجرته القناة مع الأستاذ خليل المرزوق، القيادي في جمعية الوفاق البحرينية. لكن الحقيقة الصافية هي أن كل ما فعلته حكومة البحرين هو الاستجابة لمطالب السعودية بإغلاق القناة. إذ بات واضحاً ان الوليد بن طلال كان يريد من القناة أن تصبح أداته السياسية للتأثير في صناعة القرار في المملكة. فهو ـ شأنه شأن عدد كبير من الأمراء المهمشين ـ يبحث عن دور، وغير راضٍ بشأن توزيع السلطة السياسية على احفاد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود. ولخشية الملك سلمان وأبنائه من أن تتحول القناة الى مخلب سياسي مؤذٍ قرر إغلاقها، ومنعه من توتير الوضع القائم الذي يجهد فيه هو وأبناؤه للسيطرة على مفاصل السلطة.

(العرب) رفضت شروطاً جديدة تقدمت بها البحرين؛ فأغلقت للأبد؛ وبدأ الوليد بن طلال يبحث عن حل.. عن مكان آخر!

بعد أيام من توقف البث، أعلنت القناة أن إدارتها رفضت قائمة جديدة بالشروط والضوابط فرضتها وزارة الإعلام البحرينية عليها بعد قرار الأخيرة إيقاف بث القناة. وأضافت بأن تلك الشروط تخالف الاتفاق السابق.. وتحد من قدرتها على المنافسة. وكان رئيس مجلس إدارة القناة فهد السكيت تقدم بخطاب لوزير شؤون الإعلام البحريني أكد فيه أن الشروط الجديدة تتنافى مع العقد المسبق الذي أبرم بمباركة ملك البحرين والأمير الوليد، مضيفا: (وبالتالي يؤسفني إبلاغكم بعدم إمكانية قبول هذه التعديلات على اتفاقنا السابق). ووصف السكيت في خطابه شروط البحرين الجديدة على القناة بأنها تكبل القناة وتلغي استقلاليتها وتحد من قدرتها على منافسة القنوات الإخبارية الأخرى.

وهكذا انتهى عمر قناة العرب في البحرين الى الأبد. هذا ما أعلنته الحكومة البحرينية علناً ومن جانب واحد، ما دفع بالأمير طلال الى البحث عن بدائل، وأخذ مسؤولو القناة بإخلاء مقرها بمجمع مودا بالمنامة. واتهمت الكاتبة البحرينية سوسن الشاعر التي تتحدث عادة بلسان الجناح الاكثر تشدداً في العائلة الخليفة الحاكمة، والأكثر قربا للرياض، اتهمت قناة العرب بأنها لم تكن مشروعاً اعلامياً او استثمارياً، مؤكدة انها (كانت أداة لمشروع سياسي صرف، يخدم طموح صاحبها ومشروعه السياسي بالدرجة الأولى). واضافت بأن البحرين لم تكن على علم بطموحات الوليد بن طلال السياسية، ولم تكن تظن انها باجازتها لقناة العرب انما تجيز اقامة مشروع آخر يشبه مشروع حمد بن جاسم، الذي قالت انه مشروع مزعج ويبتز الانظمة العربية.. في اشارة الى رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها، والى قناة الجزيرة تحديداً.

ويبدو حالياً أن كل خيارات الوليد بن طلال سيئة جداً.

فمن جهة يصعب على القاهرة وعمّان ان تقبلا ببث قناته دون ان تغامرا بالعلاقة مع الرياض ومساعدتها المالية الكبيرة.

وحتى بيروت لا يبدو أنها ستقبل لذات الأسباب. وقالت اوساط صحفية لبنانية بأن المفاوضات بين الوليد بن طلال ومسؤولين لبنانيين لم تؤد الى حسم خيار انتقال القناة وطاقمها اليها، مع أن الوليد بن طلال يفضل بيروت، كونه يحمل الجنسية اللبنانية ووالدته لبنانية، كما ان لديه استثمارات كبيرة فيها.

وعليه لا يتبقى سوى العودة بها الى لندن أو أية عاصمة أوروبية اخرى، كما كان مخططاً لها بادئ ذي بدء.

لكن هذا الخيار سيكون صعباً تطبيقه، فيما يتعلق بانتقال كادر القناة نفسها، اذ يصعب تحصيل إقامات عمل لهم جميعاً، فضلا عن ان هذه الخطوة قد تؤدي الى اعتبار الحكم السعودي للوليد بن طلال معارضاً سياسياً، ويضيّق عليه الخناق اقتصادياً، ولربما صودرت امواله وممتلكاته.

هذا ولازال المصير الوظيفي لمئات الموظفين في قناة العرب غامضاً، رغم ان رواتبهم لاتزال مستمرة، كما يقال.

التوتر بين الوليد بن طلال وآل خليفة بلغ ذروته، خاصة مع الملك البحريني وولي عهده، ويقال انه وصل حدّ القطيعة، الى حد أن الوليد بدأ بتصفية أعماله ومشاريعه كليّة في البحرين، وليس فقط تصفية ونقل مقر قناته العرب.

الصفحة السابقة