جمال خاشقجي..

رجلّ الأقنعة ومهندس المشاكل الرابحة!

عمرالمضواحي

بعد نحو 10 ساعات فقط من إطلاق قناة «العرب» التي طال انتظارها، أصدرت السلطات البحرينية أوامرها بوقف بث برامج القناة الإخبارية الوليدة، لتصبح عنوانا لأحاديث الشارع العربي من المحيط الى الخليج. خرج المراقبون والعامة ليدلوا بدلوهم تجاه مهندس القناة ومديرها العام جمال خاشقجي، ليضعوه وقناته الوليدة حيث يُحب دوما في قلب معادلة الضوء والظل!

قليلون الذين أخذتهم الرأفة في وجه قناة لم تكمل يومها الأول في عالم الفضائيات العربية، وصنعوا لها مهدا ملائكيا يليق بطفلة بريئة، وبرروا لها صرخة الحياة الأولى حتى ولو كانت على لسان جمعية الوفاق البحرينية المعارضة. بينما انتظم المتربصون بها وبمديرها ـ صديقهم القديم ـ لنصب أعواد المشانق، وتقديمه بصورة مفزعة كرؤوس الشياطين!

لم ولن يغفروا لجمال خاشقجي أن يطلّ عليهم من جديد عبر برزخ إعلامي مختلف هذه المرّة ، ليقود قناة تلفزيونية تخاطب مشاهديها بالصوت والصورة، لا بالحبر والورق كما تمرّس طوال حياته العمليّة. وطفقوا يرمون الحجارة والعصي في تحديه الجديد والجسور، الذي أعد عدته له ـ خلف كواليس الصمت ـ منذ يوليو 2010 وحتى اليوم!

عفوية جمال خاشقجي وجبلته النازعة إلى البياض ومحبة الناس، تفسر أحيانا على أنها ضرب من الحيلة والمكر والدهاء، والسبب الظاهر أن كل من عرف «أبا صلاح» يحتار في تصنيفه، وتوصيفه، والمربع الذي يقف عليه!.

في السعودية عادة، لا مكان لغير المنتمين. وتبعا لذلك يتوجب على كل شخصية اعتبارية أن تظهر أمام الجميع مناط ولاءها، وتحت أي عنوان واضح يمكن تصنيفها، ليتم التعامل معها وفقا على أدبيات هذا التصنيف ومثالب ذاك التوصيف، لتدفع الثمن دوما من المهدّ وحتى اللحدّ!.

جمال خاشقجي عند جناح الأصوليين هو رجل علماني بنمرة واستمارة، وهو عند رهط الليبراليين حصان طروادة الذي يخفي أجندة حركات الإسلام السياسي اينما حلّ وحيثما ذهب. لكن المفارقة أن جناح الأصوليين ورهط الليبراليين يتفقان معا على توصيفه بأنه (جاسوس قديم) ورجل مخابرات برتبة نقيب!

والأخيرة ألصقت به، بعدما عرف وأشتهر لاحقا عن علاقة متميزة تربطه برئيس الاستخبارات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل، الذي ظل على الدوام مؤمناً بجمال وقدراته، وكان يرعاه دوما كلما كشرت الصحافة أنيابها عليه. وما زاد من تعميق هذه الصفة عندما أختاره الأمير كمستشار إعلامي خلال تسلمه حقيبة سفارة خادم الحرمين في واشنطن، وقبلها في العاصمة البريطانية لندن.

في أواخر السبعينيات انخرط الطالب جمال أحمد خاشقجي في عمل جانبي بمركز المعلومات في صحيفة عكاظ السعودية. لاحظ مدير عام المؤسسة حينها السيد إياد مدني (الذي تسلم لاحقا حقيبة وزارتي الحج والثقافة والإعلام) أن هذا الشاب يعد تقارير المعلومات المطلوبة منه بشكل ملفت. قال له «يا بني جرّب أن تخوض يوما العمل الصحافي». وكانت تلك الكلمة؛ الشرارة التي أطلقت الحلم!

الخاشقجي في أفغانستان

لم يكن طريقه في بلاط صاحبة الجلالة مفروشا بالورود والبساط الأحمر، تماما كما وضح على أول خطوة في طريقه (حتى الآن) في سماء القنوات الفضائيّة بعد وقف بث «العرب» في ليلتها الأولى. فالرجل موعود بكؤوس الخيبة المرّة، ودوما ما تصبّ له في أغلى لحظات الفرح والحبور!

تولى جمال خاشقجي ( 57 عام) منصب رئاسة التحرير 3 مرات. الأولى بالنيابة قرابة العام (صحيفة المدينة العام 1412هـ ـ 1992)، والثانية خلفا للدكتور فهد العرابي الحارثي كرئيس لتحرير صحيفة «الوطن» في مطلع العام 2003م ولم يستمر أكثر من 52 يوما فقط، قبل أن يبعد نتيجة حزمة مقالات جريئة ومواضيع ساخنة، وكاريكاتيرات لاسعة، أهمها مقال شهير للكاتب خالد الغنامي مسّ فيه طوطم السلفيين وشيخهم «ابن تيمية»، ليعود في المرة الثالثة والأخيرة إلى كرسي الوطن الساخن في بداية الربع الثاني من عام 2007م قبل أن يقدم استقالته رسميا في مايو 2010م إثر ضربة خطافية (ملتبسة) وجهت له من تحت حزام صفحة الرأي في الجريدة التي يرأس تحريرها!

يومها؛ قام رئيس قسم الرأي الجديد في مقر الصحيفة بجدة الذي استقطبه من صحيفة عكاظ قبل أسابيع «لغاية في نفس جمال» لينشر في قلب صفحات الرأي مقالا جريئا ومتعدد القراءات للكاتب إبراهيم طالع الألمعي أثناء غياب رئيس التحرير في مهمة خارجية للمشاركة كعضو لجنة التحكيم في حفل توزيع جائزة دبي للصحافة العربية 2009 في الأمارات العربية المتحدة.

حينها فسر القراء المقال المثير بعنوانه العريض والصارخ (سلفي في مقام سيدي عبدالرحمن) بأن كاتبه بالغ عند المقارنة، في تمجيد طرق التصوّف وأتباعها على حساب جهود «المدينة» ومرجعية رجالات الأصولية السلفية في الدولة السعودية. وخاض الجميع في تفاصيل قصة طويلة محفوفة بالأسرار والقراءات المختلفة إلى الآن.

كان أكثر المتخوفين من تبعات نشر المقال ومن ثم الاستقالة، هم العاملين في بلاط صاحبة الجلالة الذين قرأوا في خروج جمال بهذه الصورة زلزالا «هز عرش الصحافة المحلية». وأنه قرار لا ينسجم مع معطيات عصر الإعلام الجديد، وإيذانا بدخول الصحافة الورقية في نفق مظلم، خصوصا أمام منافسة غير متكافئة مع الصحف الإليكترونية، التي تقتات عليها ولا تزال.

كثيرون لخصوا القصة بابتسار مُخلّ، وأن جمال خاشقجي راح ضحية (نيران صديقة)، وأن الطريق إلى استقالته كان مدبرا وممهدا ومستغلا ببشاعة لنواياه الطيبة التي عرف بها مع الجميع طوال مسيرته الصحافية. على كل حال، لم يكن أبا صلاح بريئا في بعض قراراته وتعييناته الإدارية، وحصد ما زرع.

بعد نشر مقال الألمعي، وفي اليوم التالي مباشرة، عاد جمال سريعا من دبي إلى جدة ليحاول ترميم ما يمكن ترميمه من تبعات النشر. كان واثقا أن الشق أكبر من الرقعة هذه المرة أيضا، لكنه كان يأمل أن تتأخر لحظة إخراجه من حظيرة رؤساء تحرير الصحف السعودية 24 ساعة فقط. كان يومها مشغولا بتهيئة نفسه لحفل زواجه الثالث على الدكتورة آلاء محمود نصيف، سليلة البيت السلفي في الحجاز، وابنة الداعية الحنبلية الشهيرة فاطمة نصيف.

بعد أدائه صلاة الظهر، رنّ هاتف مكتبه الفسيح في مقر الصحيفة بالطابق الثالث لمركز المحمدية بلازا في جدة. كان على الطرف الآخر مسئولا كبيرا قال له باختصار: «قدم استقالتك فورا، ولننتظر بعدها ماذا سيحدث». بالكاد وضع جمال سماعة الهاتف، ورفع بيد مرتعشة كوب قهوته المفضلة لفمه، كان السائل الأسود ينساب على أعطاف ثوبه الأبيض من دون شعوره. وكان لسان رماد سيجاره الكوبي يدفن آخر خيوط دخانه الأبيض في منفضة فضيّة اللون. مسح بمناديل مبللة حرارة وحبيبات القهوة التركية من كم ثوبه وعبه، قبل أن يُمسك بلوح الكيبورد ليباشر كتابة حروف الاستقالة المطلوبة، قبل أن يتولى سكرتاريته طبعها وإرسالها إلى رقم الفاكس المنتظر.

خرج جمال إلى غرفة الأخبار، ودلف سريعا إلى مكتب رئيس قسم الرأي الجديد الذي هبّ واقفا لاستقباله بخجل مصطنع. قال له بأدب جم: «ماذا فعلت بنا يا فلان!». أجابه: «كانت زوجتي مريضة في المشفى، وقرأت ليلتها المقالة على عجل، وأعجبني سبك لغتها وبنائها اللغوي الأخاذ». قبل أن يضيف: «اعتذر يا أستاذ جمال عن أي ضرر ألحقته بك أو بالصحيفة، وأعرض الآن استقالتي الفورية إذا كان في ذلك حلا للمشكلة». قال له قبل أن يغلق باب المكتب الزجاجي: «سبق السيف العذل، قدمها لرئيس التحرير الجديد»، ثم مضى ليلحق موعدا مسبقا في صالون للحلاقة الرجالية وتجهيز العرسان!

خلال الـ 72 ساعة التالية خرجت التحليلات وظهر المفسرون بروايات متباينة، بعد أن شاع نبأ اهتمام الامير الوليد بن طلال بخدمات جمال خاشقجي وضمه الى مجموعته الإعلامية، وهو ما تأكد لاحقا. منهم من قال أن الخاشقجي لابد وأنه كان في حياة سابقة، مهندسا معماريا بامتياز، فالرجل يجيد حتى معادلات تحسين المساقط، وأنه كان يعرف جيدا طرق رسم السقوط إلى أعلى!

فيما أقسم آخرون أنه تعرض لركلة لاعب حرّيف، أخرجته من مربعه القديم، إلى مربع كبير تم إعداده له بعناية منذ زمن، إلى حين تأتي فرصة مناسبة. أما وقد حانت الفرصة فإن المربع جاهز للحبيب المنتظر. وهناك من بين أصحاب الرأي التقليدي من ردد: «يالثارات لحوم العلماء المسمومة»، وأن «العين بالعين، والسن بالسن، والبادئ أظلم!»، قبل أن يخلصوا إلى تأكيد أن المؤسسة الدينية نجحت في إبعاد أحد أكبر مناوريها في تاريخ الصحافة الورقية.

لم تنته القصة بخروج جمال خاشقجي من باب سدّة الرئاسة في أشهر الصحف الورقيّة، ليعود مجددا من نافذة قناة العرب الفضائية.

لا يُعرف الكثير عن تجربته التلفزيونية الجديدة، وأسرار استعداداته لها. وحتى لو تجاوز أزمة عسر الولادة، فالمؤكد أن في انتظاره رحلة كسر عظم بدأت ولن تنتهي في المدى المنظور. فقناته الإخبارية الجديدة، كما يقول جمال إنها «تحاول أن تأخذ مكانا بين يمين قناة الجزيرة، ويسار قناة العربية»، وهو خيار من الصعب تصور نجاحه سريعا، دونما إعداد خطة برامج مبتكرة، تراعي الواقع الجديد، وتحترم التنازلات المنتظرة، وفوق ذلك ترغم المشاهد على تحريك «الريموت كونترول» لاختيار مشاهدة قناة العرب الخضراء!

اللافت أن جمال خاشقجي في أسلوبه، وبشكل واضح، يجيد صناعة مشاكله بيديه في شكل هادئ ومدروس. ثم لا يلبث أن يحول مشاكله التي أتقن صناعتها إلى أوراق تفاوض يطرحها لاحقا على طاولة رؤسائه، ليشعرهم أنه على أتم الاستعداد للتخلص منها مقابل حصوله على مكتسبات جديدة تعزز أسلوبه الإداري الخاص. كان جمال خاشقجي على الدوام يصنع مشاكله بيده، ولا يسمح لأحد أن يفعل ذلك معه. والشواهد كثيرة!

الصفحة السابقة