نظرة على تأسيس الجمعيات

قبل تشويه مؤسسات المجتمع المدني

أعلن مؤخراً عن تأسيس أول جمعية للدفاع عن حقوق العمال السعوديين في القطاع الخاص، طبقاً لأحكام الجمعيات والمؤسسات الخيرية الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم 107 وتاريخ 25/6/1410هـ، وقواعدها التنفيذية الصادرة بقرار وزير العمل والشؤون الاجتماعية رقم 760 وتاريخ 30/1/1412هـ والتعليمات الصادر بمقتضاها. وعقد المجلس التأسيسي للجمعية في مقر مجلس الغرف السعودية في الرياض في نهاية ديسمبر الماضي، وجاء في اللوائح الداخلية أن الجمعية تستهدف، الى جانب الدفاع عن حقوق العاملين في القطاع الخاص، رعاية مصالحهم، والمشاركة في إعداد وتنفيذ برامج التدريب المهني والتعليم الفني، وتحسين شروط وظروف العمل في القطاع الخاص، ورفع المستوى الثقافي والاجتماعي لدى العمال.

إن أول ما يلحظ على المعطيات الواردة في البيان التأسيسي والنظام الداخلي للجمعية أن نشاطات الأخيرة مقتصرة على منطقة الرياض وحدها، على أن يكون مركز الجمعية في الرياض العاصمة. وهذا قد يلمح الى أن الجمعية أشبه ما تكون بإعادة انتاج لمركزة الدولة من خلال مركزة للنشاط الاهلي، بحيث يتم الانطلاق من المركز والتأكيد على محوريته في مجال عمل المؤسسات الاهلية. وقد يلمح ذلك ايضاً الى أن الجمعيات ستأخذ طابعاً مناطقياً، أي أن لكل منطقة جمعيتها، بحيث تكون للمنطقة الغربية جمعيتها ومركزها جدة، وتكون للمنطقة الشرقية جمعيتها ومركزها الدمام وهكذا، وهذا التكاثر يعتبر تورماً غير حميد حين توضع في سياق عملية الاندماج الوطني والعمل الاهلي العام، وهذا لا يتنافى مع وجود منظمات فرعية ومؤسسات ذات صفة مناطقية ومحدودة، جماعة للدفاع عن المطوّفين في مكة المكرمة أو جمعية للدفاع عن حقوق صائدي الاسماك في الدمام.

غير أن المثير للغرابة في جمعية الدفاع عن العمال السعوديين في القطاع الخاص، أنها أشبه ما تكون بإبن غير شرعي للدولة، فهذه الجمعية رغم أن هدفها الدفاع عن العمال السعوديين في القطاع الخاص، الا أن أهدافها لا علاقة لها بالدفاع كما يظهر في قائمة الاهداف الواردة في بيانها التأسيسي، وثانياً أن كون حقلها الحقوقي مقتصر على القطاع الخاص مصداق للمثل الشائع (كالمستجير من الرمضاء بالنار)، فلماذا يستثنى القطاع العام، ويتم التركيز على القطاع الخاص، وكأن الدولة قد منحت نفسها شهادة براءة سلفاً.

والأشد غرابة أن يتم ربط عمل الجمعية ونشاطها وتنظيمها الاداري بوزارة العدل والشؤون الاجتماعية، فقد جاء في (التنظيم الاداري) للجمعية ما نصه: (تعقد الجمعية العمومية اجتماعاتها في مقر الجمعية ويجوز أن تعقدها في مكان آخر بعد موافقة وزارة العدل والشؤون الاجتماعية على ذلك). كما أن الاجتماعات الطارئة تتم (بناء على طلب من مجلس الإدارة أو من عشر أعضائها العاملين على الأقل بعد موافقة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية المسبقة على ذلك). كما جاء أيضاً بأنه (يجوز للجمعية العمومية - بموافقة أغلبية أعضائها الحاضرين - تحويل الاجتماع العادي - بعد الانتهاء من مناقشة جدول أعماله - إلى اجتماع غير عادي لمناقشة بند أو أكثر من البنود التي تستدعي ذلك شريطة أن يتم ذلك بموافقة الوزارة). أي ان الجمعية خاضعة بصورة وأخرى تحت اشراف وسلطة الدولة.

والملاحظ أن جمعيتي حقوق الانسان والصحافيين السعوديين تكاد تكونا نسخة طبق الأصل من جمعية الدفاع عن العمال السعوديين، فقد أعلن عن تأسيسهما في الرياض، ومن سخرية القدر أن تكون لوزارة الداخلية دخالة شبه مباشرة في تأسيس الجمعيتين، على أن تعملا طبقاً لنظام وزارة العدل والشؤون والاجتماعية، فيما تكون جمعية الصحافيين خاضعة تحت اشراف وزارة الاعلام.

إن أقل ما يقال عن الطريقة التي تأسست بها هذه الجمعيات، أنها تأسيس خاطىء بل وخطير للمجتمع المدني الذي يجب أن تكون لنشاطاته مسافة احترازية ضرورية بعيدة عن الدولة، وأن تكون مؤسساته مستقلة استقلالاً تاماً عن الدولة. في واقع الأمر، أن تأسيس جمعية للدفاع عن العمال السعوديين في القطاع الخاص تكون مرتبطة بالدولة يقلب مفهوم المجتمع المدني رأساً على عقب ويشوّه مهمته بطريقة ساخرة، لأن مهمة المؤسسات الاهلية ليست الاستعانة بالدولة للدفاع عن حقوق المجتمع بل تطوير مؤسسات قادرة على نقل شكاوى المواطنين الى الدولة سواء كان مصدر وسبب المشكلة هو الدولة أو القطاع الخاص.

من المؤسف القول بأن اللجان المعلن عنها في الآونة الأخيرة تثير مخاوف إزاء هيمنة الدولة على مجال عمل المجتمع المدني المراد تدشينه حالياً، والعبث بوظائفه وأهدافه بطريقة تؤدي الى تقويض مهمته المستقبلية. فمنذ الاعلان قبل ثلاث سنوات عن لجنة لحقوق الانسان مرتبطة مباشرة بالملك، والانتقادات تتنامى حيال ما تنوي الحكومة القيام به من الاعلان عن لجان حقوقية ونقابية يفترض أن تكون منبثقة من المجتمع ومنفصلة تماماً عن الجهة المستهدفة من تشكيل هذه اللجان.

قد تستغل الحكومة غياب ثقافة المجتمع المدني وتقاليد عمل نقابي وحقوقي بين الغالبية العظمى من السكان من أجل تعميم هذه الفطريات في مناطق المملكة، وقد تحسب ذلك جزءا من العملية الاصلاحية، الا أن قوى الاصلاح مطالبة بفضح هذا الزيف في مرحلة مبكرة قبل أن يتمدد الورم في الجسد، إذ أن انتشار هذا النوع من المؤسسات قد يؤدي في مرحلة لاحقة الى تحييد دور المجتمع المدني الحقيقي. فالدولة تحاول بتلك الفبركات الامساك أولاً بخيوط اللعبة السياسية الداخلية في مرحلة لاحقة، وثانياً من أجل إجهاض ولادة المنافس المستقبلي، الذي يدفع به المجتمع المدني نحو الواجهة.

قد يغري البعض الاعلان عن لجان ذات طابع حقوقي او حتى نقابي، وقد يعدّه قفزة نوعية للامام، غير أن ما يلزم الانتباه اليه أن لجاناً ترعاها الدولة وتضع نظامها الداخلي لا يمكنها الا أن تكون مسحوبة الفتيل، أي أن تكون مسلوبة التأثير في المسرح السياسي المحلي، بحيث تفقد قدرتها على التحوّل الى جزء من عملية الضغط التي يمارسها المجتمع المدني على الدولة، وهذا بدوره ينعكس على الديمقراطية نفسها، التي بالتأكيد ستتعرض الى تشويه كبير بسبب التشوّهات الخلقية للحاضن الأول، أي المجتمع المدني. فلا يمكن الاطمئنان الى نشأة ديمقراطية صحيحة ونزيهة ما لم يتم تأمين القاعدة التي يرتكز عليها البناء الديمقراطي، وهذا بدوره يقتضي محاربة وفضح محاولات الحكومة النازعة نحو إعطاب مبكر لمفعول مؤسسات المجتمع المدني.

الصفحة السابقة