دولة النهب

من علامات اخفاق الدولة العجز عن إدارة المال العام وثروات البلاد ومصالح العباد، وقد عيب على بعض الخلفاء أنهم اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولا، فقد أساءوا التصرف في المال العام، وأهدروا خيرات البلاد على الملذات الخاصة وبطانة السوء وشراء الذمم والجواري والليالي الحمراء. إنها سيرة اتصلت منذ القدم وحتى يومنا، فما نقرأه في كتب الأولين يكاد يحكي قصة حكامنا وهم يهدرون الثروة الوطنية ويبددون موارد البلاد الاستراتيجية، بل زادوا على الأقدمين بأن حمّلوا العباد تبعات ما قصّروا فيه، فألزموهم بتسديد من أموالهم ما فرّط فيه الحكام.

يضرب عهد الملك سعود مثالاً في السفه المالي، حيث جفف الثروة الوطنية بفعل النفقات الباهضة على شؤون القصر الى حد إفراغ بيت المال، مما أثار نقمة شعبية عارمة وصلت تموجاتها الى داخل العائلة المالكة. ولكن مهما قيل عن إسراف الملك سعود، فإن من خلفه من ملوك لم يفارقوا ما كانت عليه سيرة السلف غير الصالح، فقد حذوه القذة بالقذة بل فاقوا عليه. في عهد الملك فيصل جرى إقفال بيت المال في وجه الرعايا، حتى جاء الملك خالد الذي إنطلقت في عهده شهية الامراء في السيطرة على مصادر الثروة، وكان دور الملك فهد في هذا المجال غير خافٍ على أحد، فقد بدأ عصر الاشقاء السديريين في التمدد والسيطرة على مفاصل الدولة الاساسية، وبدأت المنافسة غير الشريفة بين الاشقاء على عقارات، وموارد الدولة، وجاء أبناؤهم ليستفيئوا ظل أطماع الأباء.

رحيل الملك خالد كان ايذاناً بانفجار الجشع داخل العائلة المالكة، حيث بدأ التكالب على خيرات البلاد وثرواتها، وبدأت ظاهرة السيطرة على الاراضي المشاعة، ومصادرة الأملاك من أراضي وبساتين، والمشاركة التجارية الاجبارية مع تجار البلاد، ومزاحمة الرعايا في مصادر رزقها. وليس مصادفة أن يؤرخ للعجز المزمن في ميزانية الدولة مع وصول الملك فهد الى العرش، إذ لم يكن إنهيار سعر البترول وحده المسؤول عن هذا العجز بل كان لعمليات النهب الواسعة والفساد المالي والاداري دور أساسي فيه.

إن قائمة الاعفاءات الخاصة بالأمراء تزايدت بدرجة مقلقة وأضرّت بالمرافق الحيوية للدولة، وهذه القائمة تبدأ بآلاف تذاكر سفر مجانية للأمراء ومن يلوذ بهم على الخطوط السعودية التي عانت من عجز خطير منذ سنوات عديدة، وتمر القائمة بعشرات الآف من الهواتف المجانية الموصلة الى قصور وفيلات الأمراء والأميرات، الى حد أن خبراً نشر مؤخراً يفيد بأن شركة الاتصالات تطالب الوزارات الحكومية والأمراء الذين يوضعون تحت مسمى (كبار الشخصيات) لأهداف معروفة، تطالبهم بمديونية تناهز تسعة مليارات ريال ومنذ سنين طويلة، وقد تسببت هذه المديونية في تأخير وتخلف أداء شركة الاتصالات ومشاريعها التوسعية. نشير هنا الى أن بعض قصور الأمراء تضم ملاحق تشتمل على كبائن تلفون يرتادها العمال الأجانب ويعود مردودها الى هذا الأمير وتلك الأميرة، يضاف اليها مصاريف المياه التي تتدفق بصورة مجانية الى قصور الأمراء دون حسيب أو رقيب، وهكذا محوّلات الكهرباء الضخمة التي تعمل في هذه القصور دون أن تكون لشركات الكهرباء الاقليمية سلطة قانونية على مطالبة الأمراء بتسديد فواتير الكهرباء.

في المقابل، تتجه هذه المرافق (الهاتف والمياه والكهرباء..) الى رفع معدلات الأجور والرسوم من أجل سد النقص الحاصل بسبب ما تتكبده هذه المرافق من خسائر ناجمة عما يستهلكه الأمراء، المعفيين ليس من الرسوم فحسب بل من دفع الفواتير الاصلية. فلماذا يعيش المواطن كابوساً طويلاً مع اقتراب موعد تسديد الفواتير التي أصبحت مصدر قلق لغالبية المواطنين، فيما يهنأ الأمراء برغيد العيش دون كدر الفواتير، أو هم الثروة الوطنية المهدورة.

حتى قرار السعودة المؤجل صدوره حتى الآن يدخل ضمن مشاريع النهب الذي يديرها الأمراء، فهناك عشرات الآلاف من العمالة السائبة التي تدر ملايين الريالات عليهم جاءوا بموجب رخص عمل مستصدرة من قبل أمراء وأميرات، وكثير منهم على علاقة وثيقة وقرابية مع كبار الأمراء الماسكين بزمام صناعة القرار في مشروع السعودة. ولاننسى فئات المنتفعين الصغار والمحتكرين والطفيليين الذين يتقاسمون المنفعة مع الامراء، فتلك الفئات تقوم بأدوار النيابة (البروكسي) وتستحلب من بقرة الوطن لاخفاء المدبّر الرئيسي، وحيث تتولى مهمة التغطية على الفساد وتبرير والافادة منه.

في موازنة العام الماضي ولأول سنة منذ عام 1982 كان هناك فائض مالي يقدر بنحو 39 مليار ريال، ولكن لم يتحدث أحد عن مصير هذا الفائض، فيما كانت البنوك المحلية تستغيث من اجل استرداد بعض ديونها على الدولة.

تتحدث عرائض الاصلاح عن مشكلة هدر المال العام والفساد الاداري وتحقيق مبدأ الشفافية من أجل محاسبة الضالعين في تبدد الثروة الوطنية، في ظل تفاقم الازمة الاقتصادية الداخلية وارتفاع معدلات البطالة وتضخم الدين العام بوتيرة خطيرة. ولاشك أن الرسالة غير المعلنة التي تريد هذه العرائض إيصالها هي فتح ملف الفساد، الذي باتت أوراقه متناثرة حتى ظهرت في مشاريع عملاقة يشيّدها الأمراء في زمن يتكاثر فيه المحرومون والمطحونون في دوامة دولة النهب.

الصفحة السابقة