(شام السعودية ويمنها)!

الجنـون السعـودي.. عهـد الحـروب

محمد قستي

لقاء جمع مسؤولاً أميركياً كبيراً مع أحد كبار الأمراء في العائلة المالكة قبل أسابيع، ودار نقاش حول خيارات السعودية في المرحلة المقبلة، عقب التحوّل في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. فاجأ الأمير ضيفه بالقول أن بلاده على استعداد لخوض حرب منفردة ضد إيران، ودون طلب الإذن من أحد، ولا الاستعانة بالولايات المتحدة أو أي دولة أخرى. الضيف تساءل مستغرباً: ولكن الايرانيين سيقومون بالرد، وقد يدمّرون مدنكم، فهل أنتم مستعدون؟ فرد الأمير على الفور: لا مشكلة لدينا، ليفعلوا ما يشاؤون. ولن نسمح باستمرار هذا الوضع.

سرّبت مصادر خليجية أخباراً تتعلق بالمشاورات بين الرياض وواشنطن حول الحرب على اليمن. تقول المصادر أن السعودية كانت مستعجلة في الذهاب الى الحرب مهما كلّف الثمن، ودون انتظار الحسابات السياسية والعسكرية، وأخبر الأمراء السعوديون أصدقاءهم ـ بل حلفاءهم ـ الأميركيين: (إننا ذاهبون الى الحرب بكم أو بدونكم).

وحين اندلعت الحرب، كان الأمراء السعوديون مندفعين بطريقة مجنونة، ولم يكونوا يكترثون لا لردود الفعل على الدمار والدماء التي تسببّها طائراتهم الحربية، ولا الى موقف المجتمع الدولي والهيئات الدولية، الى درجة أن السعودية تحوّلت الى دولة مارقة، وتجاوزت كل القوانين والاعراف الدولية في التعامل خلال الحروب. كل ذلك لم يكن يعنيها بشيء، بل ازداد جنونها حين تبلّغت قرارات باكستان ومصر بعدم المشاركة في عدوانها (البرّي).

جمال خاشقجي، الاعلامي المقرّب من آل سعود، خاصة من تركي الفيصل الى الوليد بن طلال.. كان من بين الذين انخرطوا في الأيام الأولى من العدوان السعودي على اليمن في الترويج لعواصف آل سعود، وبشّر بمشروع تحرير كوني يبدأ باليمن، ويمرّ بالشام، وينتهي بطهران، وربما بعواصم أخرى في هذا العالم. بقي خاشقجي، رغم انسداد أفق الحرب، متمسّكاً بموقفه «الحازم» من أن السعودية انتقلت الى مرحلة جديدة، وأنها تصنع المعاجز.

خاشقجي كتب كثيراً عن العدوان السعودي على اليمن، وأسفّ كثيراً، وبالغ حدّ الإسراف في تصوير القوة السعودية، ولكن ما هو لافت في كل ما كتب مقالته في (الحياة) في 6 يونيو الجاري بعنوان: (هل ستقع حرب بين السعودية وإيران؟).. بدأها برؤية كونية حول الحرب على اليمن وعنوان (عاصفة الحزم)، وعدّها بأنها ليست «كمجرد عملية عسكرية سعودية عابرة ضد الحوثيين». حسناً ماذا هي إذن؟ يقول: «إنها سياسة سعودية تجمع بين الديبلوماسية والحرب، لوقف ثم دفع النفوذ الإيراني خارج شام السعودية ويمنها».

ليس الجمع بين الدبلوماسية والحرب ما يلفت في هذا المقطع المثير، بل جملة: «شام السعودية ويمنها»، فهنا يكمن ما هو أكبر وأخطر من مجرد دفع نفوذ، فهو يستحضر المسوّغ التاريخي لغزوات عبد العزيز داخل الجزيرة العربية وخارجها، أي «ملك الآباء والأجداد». فحين تصبح الشام واليمن بمثابة ملك سعودي أصيل، نكون ليس أمام شكل من أشكال الوصاية فحسب، بل تلك النزعة الاستئصالية الأصيلة في العقل السياسي السعودي، الذي يرى في الآخر مجرد ملحق وتابع له، ويحرمه من حق تقرير مصيره. اللافت أن عبد العزيز نفسه لم يتجرأ على ادّعاء ملكية اليمن؛ ولكنه رشّح ابنه فيصل ليكون ملكاً لسوريا، مقابل فيصل ابن الشريف حسين.

يذكر جلال كشك في كتابه (السعوديون والحل الإسلامي) ما يلي: «بعد توقيع اتفاقية الطائف بين عبد العزيز وابن الوزير، والتي أنهت حرب اليمن، وأعادت الحديدة لليمن، سمع بكاء خارج الخيمة الملكية، فتساءل الملك: من هذا الذي يبكي؟ قالوا: عبد الله فيلبي، يبكي قائلاً: هل تتاح لأحد فرصة ضم اليمن ويتركها؟ ضيّعت ملك أجدادك يا عبد العزيز».

فناداه الملك وقال له: أولاً، آبائي وأجدادي لم يملكوا اليمن، ولا استطاع أحد أن يوفر الأمن والاستقرار فيها، فمن يحكم اليمن بزيودها ومشاكلها؟.

ثانياً: إن حربي هذه لم تكن لضم اليمن، بل لإنهاء المطالب والمشاكل اليمنية في عسير ونجران وجيزان وكل الأراضي السعودية، التي لم تعترف بها اليمن، وهذا ما حققناه.

فما يروّج له خاشقجي يفوق ما يعتقده آل سعود أنفسهم، والكلام ليس عن «صراع نفوذ» بين ايران والسعودية، ولكن اللاملفوظ في كلام خاشقجي يصل الى مستوى الغرور المنفلت، والتعالي بنزوع عنصري يذكّر بتلك النظرات الشوفينية التي تفجّرت في أوروبا في نهاية القرن السابع عشر، وأسست لمشاريع استعمارية اجتاحت العالم.

المنطلق السعودي في سؤال الحرب ضد ايران بات واضحاً، ويقوم على الإحساس بالخطر الوجودي، الأمر الذي يجعل من خوض الحرب قراراً حتمياً وسبيلاً لا مفر منه. خاشقجي يتبنى نياية عن معظم السعوديين بأنهم يؤيّدون خوض حرب ضد ايران، مهما بلغت كلفتها المادية الباهظة؛ وينقل عن هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، من كتابه (النظام العالمي) الصادر في سبتمبر 2014، لتأكيد حتمية الحرب بين السعودية وايران، وقوله بأن «الصراع مع إيران بالنسبة إلى السعودية وجودي، إنه يشمل استمرار النظام الملكي، وشرعية الدولة، وبالتأكيد مستقبل الإسلام».

ما يتجاهله خاشقجي، طوعاً أم كرهاً، أن كيسنجر في مقاربته للمسألة السعودية يعبّر عن الرأي الإسرائيلي السائد بالحفاظ على النظام السعودي مهما كلف الأمر. المقاربة الاسرائيلية التي تباينت مع الاميركي مؤخراً تقوم على فكرة أن التحالف مع السعودية ليس مقتصراً على النفط، بل يجب تطويره الى حد التماهي وعدم تخلي أحد الطرفين عن الآخر. كيسنجر المحثوث بالرؤية الاسرائيلية، يرى في السعودية حليف الضرورة الدائمة بالنسبة لاسرائيل أولاً وللغرب ثانياً وعاشراً، ولذلك لا بد من توفير كل الضمانات من أجل استمرار التحالف وترسيخه.

وهنا يفترق أوباما وكيسنجر في تشخيص مشكلة السعودية، هل هي مع ايران؟، أم مع شعبها الذي يعاني الفقر والبطالة والحرمان السياسي والاجتماعي؟، وهذا ما يدفع كيسنجر للتحذير من مخاطر حدوث قلاقل أو انتفاضات في المملكة، لما يمكن أن يحدثه ذلك من ضرر على المصالح الغربيّة (ص 141). هو بكلام آخر، حسب أسعد أبو خليل، يدعو للحفاظ ولو بالقوّة على النظام السعودي، من أجل عين إسرائيل والإمبراطوريّة الأميركيّة. ويحذّر في هذا السياق بالتحديد من التعويل على أي خيار ديمقراطي غير موجود.

الطريف أن خاشقجي يصرّ على سعودة اليمن والشام على امتداد مقاله الحربي، فهو حين يتهكم على دفاع الإيراني عن حليفه السوري، يفترض سيناريو (ما) من بين سيناريوهات أخرى، بأن يتم تشكيل دولة علوية ويتساءل هل: «يريدونها موطىء رجل لهم في «شامنا»؟ «شامنا»، كلمة مدججة بكل الدلالات الممكنة، إذ تبدو هنا العلاقة الحيميمة مستحدثة، فقد كانت غائبة طيلة عقود، وتفجّرت بصورة مباغتة مع اندلاع صراع النفوذ السعودي الإيراني.

في لحظة عقل بدا خاشقجي واقعياً، ولربما توصّل في حسابات سريعة الى عدم تكافؤ القوة بين الرياض وطهران، فاضطر الى استدعاء العامل التركي في معادلة الحرب، فقد بدا مرتاباً في طبيعة الرد العسكري السعودي على الإيراني نتيجة محاولات سليماني تحقيق مفاجآت ميدانية في سوريا، فجلب العنصر التركي: (ولكنني متأكد أن المملكة ومعها تركيا ترفضان وفي شكل قاطع أي وجود إيراني مباشر هناك أو تقسيم لسورية، وبالتالي يمكن اعتبار «مفاجآت سليماني» إحدى نقاط التماس التي قد تؤدي إلى مواجهة مباشرة سعودية - إيرانية، تضاف إلى نقطة تماس اليمن، وثالثة تلوح في الأفق البعيد في الموصل(.

خاشقجي يتحدّث بلغة الوصاية والإلغاء، فهو يجعل العراق والشام واليمن كيانات معطّلة، لا إرادة لشعوبها، ولا قرار لنخبها، وله ولأسياده من أمراء آل سعود أن يرسموا لهذه الكيانات مسارها ومصيرها.. والغريب أنه يبشّر بتماس في الموصل، في استبطان خطير يشي باستدعاش خفي، وكأنه يريد القول بأن تحرير الموصل من داعش يعني تفجير حرب بين إيران والسعودية. ولكن أين العراق في المعادلة؟ إنها لغة المستعمر والمحتل والمثقف الشمولي.

خاشقجي يعتنق مقاربات في اليمن وسوريا والعراق، وربما في أماكن أخرى، تقوم على الإعتقاد بأن الإيراني يزاحم السعودي فيها، وكأنه ناظر مدرسة. في اليمن مثلاً هو لا يتحدث عن إرادة الشعب اليمني التي تقرر شكل السلطة وطرق إدارة الدولة. يتحدّث عن حكومة «تعدّدية وتشاركية» فقط حين يكون العنصر الغالب خصماً، أم حين يكون حليفاً، فلا تسمع لا بتعددية ولا تشاركية بل شمولية واستبدادية مسلوبة الإرادة. وهذا بالدقة ما يريدونه في الشام واليمن والعراق وكل بلدان العرب.. إنها الثورة المضادة.

الزخم الذي بدأ به خاشقجي مقالته في موضوع الحرب على ايران، تراجع تدريجاً ولم يبد متأكداً بأن «السعودية لا تريد بالتأكيد مواجهة مفتوحة مع إيران لإدراكها كلفتها الباهظة.. لدى البلدين أيضاً من الأسلحة ما يكفي لتدمير قدراتهما معاً». ولكن هذا الزخم لا يخلو من عنجهية مفتعلة، كتلك التي لا يزال عليها «الجنرال الصغير» محمد بن سلمان، إذ يتجاهل خاشقجي ما كان يدور في أروقة المفاوضات بين اليمنيين والاميركيين في سلطنة عمان.

آل سعود خسروا الحرب، وإن استمرارها هذه المدّة الطويلة دون تحقيق نتائج حقيقية، يمكن صرفها في السياسة بما يعني الفشل والهزيمة. هذا ما لا يريد خاشقجي ومحمد بن سلمان إدراكه. صحيح أن «السعودية لن تتراجع عما بدأت به، وهي ماضية حتى النهاية»، كما كتب خاشقجي، ولكن ليس الى «نصر كامل» كما يتوهّم الكاتب، بل الى هزيمة كاملة في حال رفضت قبول دعوات حلفائها في الغرب والشرق، بالنزول من أعلى الشجرة لأن الوقت يضيق.

مبدأ فهد الذي يتحدث عنه خاشقجي هو مبدأ وهمي من اختراعه، بناه على واقعة اسقاط اي طائرة تتجاوز منتصف الخليج، كما حدث مع اسقاط طائرات ايرانية اثناء الحرب العراقية الايرانية، يقول الخاشقجي. هذا المبدأ الموهوم يصلح تسويقه في الإعلام، فقد أصبح خرق الحدود والخطوط السعودية ثابتاً وهو الأصل في عالم بالغ السيولة.

على المقلب الآخر، ثمة نصائح يطلقها مسؤولون أميركيون ومراقبون لأوضاع الشرق الأوسط، يحذّرون فيها من مغبة الاستمرار في سياسة الهروب السعودية للإمام عبر إشعال المزيد من الحروب، لأن ما سوف ينجم عن ذلك ليس معادلة خاسر ـ خاسر، بل دمار شامل للمنطقة بكل مقومات الحياة فيها. وهناك نصائح تصل الى النظام السعودي ولأمرائه الكبار بصورة متواترة بأن الحرب على اليمن، ستكون ـ على الأرجح ـ مقدّمة لحروب كارثية على المنطقة، وأن السعودية سوف تكون أول الخاسرين.

من يبشّر بالحرب فعليه أن يتدفّأ بحممها.

الصفحة السابقة