مؤرّخو الوهابية.. عثمان بن بشر

الغزو أساس المُلك - 4

ابن بشر يتحسّر على نهاية الدولة السعودية الاولى في ولاية عبد الله بن سعود ويكتب متحسراً بأن سقوطها: «بسبب الذنوب، وانتهاء الأمد المكتوب، وكل دولة لا بدّ أن تنتهي إلى زوال» (جـ1، ص 365)

سعد الشريف

التفسير الديني لسقوط الدولة السعودية يخفي حقيقة ما كان يعاني منه حكّام آل سعود من أمراض السلطة، وهو ما أشار اليه حفيد محمد بن عبد الوهاب الشيخ حسن آل الشيخ الذي وجّه انتقاداً لحكّام آل سعود لنزوعهم الدنيوي، وتنازلهم عن البعد (الرسولي) الذي حكم الدولة السعودية الأولى.

لقد شهد عام 1229هـ، موت سعود ورئيس الكويت عبد الله بن صباح بن جابر بن سليمان بن أحمد الصباح، وابراهيم بن سليمان بن عفيصان في بلدة عنيزة، وكان سعود جعله أميراً عليها بعدما عزله عن الاحساء. وتحدّث ابن بشر عن وباء أصاب بلدان سدير ومنيخ، وباء حمى مات فيه خلق كثير وأكثر من مات في بلد جلاجل، وقدِّر من مات منهم أكثر من ستمائة نفس بين الكبير والصغير، وبقي الوباء طيلة عام كامل.

وفي هذه السنة 1229هـ، وحسب ابن بشر، سار عبد الله بن سعود بجميع رعاياه من أهل نجد الحاضرة والبادية، خرج من الدرعية أول السنة واجتمع عليه جميع النواحي، وقصد جهة الحجاز قبل وفاة أبيه، ومعه علي بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأغار على بوادي حرب، وهم في الحرة قرب صفينة ـ القرية المعروفة في تلك الناحية ـ فأخذ عليهم إبلاً وغنماً كثيرة، ونزل بالغنائم صفينة وقفل منها.

تبدو حادثة عادية حين تكون جزء من المشهد النجدي العام، الذي تشكّل الغارات جزءاً من بيئته وتقاليده، ولكن حين تصبح الغزوة مؤسسة على مزاعم دينية تصبح أشد خطورة، لأن ما تبيحه تلك المزاعم قد تفوق ما ينطوي عليه النزوع البشري العادي.

في السنة نفسها سار محمد وعساكره بالجيوش، وصار يسيطر على منطقة تلو أخرى من شهران وبلاد مشيط ثم عسير، فيما كان أحمد طوسون يجهز العساكر لاجتياح نجد وكان في المدينة المنورة، وأرسل الى أهل الرس وأهل الخبراء القريتان المعروفتان في القصيم وكاتبوه، فأرسل طوسون الى العسكر الذي في الحناكية وأمر أن يسيروا إليها، فساروا الى القصيم وأطاع أهل الخبراء والرس فدخلها الاتراك ـ القوات المصرية ـ واستوطنوها، واستولوا على ما فوقهما من القصيرات والمزارع مثل ضرية ومسكة والبصيري.

وهنا نصبح أمام معادلة جديدة، لا صلة لها بالمجتمع الديني الذي أراد ابن عبد الوهاب إقامته، فقد تبيّن حين تميل كفة الحرب لصالح القوي يكون للناس موقف آخر، لا ديني بالمعنى العقدي الظاهري، طلباً للسلامة أولاً وللمصلحة تالياً.

ولما بلغ ذلك عبد الله بن سعود استنفر عساكره من أهل الجبل والقصيم ووادي الدواسر والاحساء وعمان وما بين ذلك من نواحي نجد ونزل المذنب القرية المعروفة في القصيم، ثم رحل منها ونزل الرويضة المعروفة فوق الرس، فقطع منها نخيلاً ودمرها وأهلك غالب زرعها، وأقام يومين، ووقعت اشتباكات ومناوشات متبادلة، الى أن وقع الصلح بين طوسون وعبد الله بن سعود على وضع الحرب وأن يرفع الاتراك أيديهم عن نجد وأعمالها، وأن السابلة تمشي آمنة بين الفريقين من (بلد الروم) والشام ومصر، وجميع ممالكهم الى نجد والشرق وجميع ممالك عبد الله، وكل منهما يحج آمناً، وكتبوا بذلك سجلاً، ورحل طوسون وجنوده من الرس متوجهين الى المدينة.

نزعة الانتقام لدى عبد الله بن سعود ليست خافية، فقد باتت جزءً من استراتيجية القتال والإخضاع التي اتبعها الحكام السعوديون منذ تأسيس تحالف تاريخي بين الشيخ والأمير.

وفي سنة 1231هـ توفي احمد طوسون، وجهّز محمد علي باشا العساكر الكثيقة من مصر والاتراك والغرب والشام والعراق الى نجد بقيادة ابراهيم باشا، فسار الى المدينة النبوية وضبط نواحيها ثم توجّه الى نجد..

وفي سنة 1232 بدأت عساكر ابراهيم ومن معه من البوادي يغيرون على بوادي نجد، وحاول عبد الله بن سعود صد الهجوم ولكن محاولااته باءت بالفشل.. حتى اذا حل منتصف جمادى الآخرة سنة 1232هـ، كثّف جيش ابراهيم باشا من الهجوم على البوادي الذين مع عبد الله ومن نزلوا قرب جبل ماوية قباله، فوجّهوا مدافعهم الى عسكر عبد الله بن سعود ورموهم. يقول ابن بشر:

“فأثرت فيهم، فأمر عبد الله على بعض المسلمين أن يرحلوا وينزلوا الماء، فلما همّوا بالرحيل خفت البوادي وتتابعت فيهم الهزيمة ووقع الرعب في قلوبهم، فاتصلت الهزيمة في جميع المسلمين، واختلطت الجموع بعضها في بعض، وتبعهم الروم والبوادي، وقتلوا رجلاً، وأخذوا كثيراً من السلاح وغيره سقط في الأرض من أهل الركايب، وركب عبد الله في كتيبة من الخيل وحمى ساقة المسلمين، وهلك في تلك الهزيمة بين القتل والأسر والظمأ نحو مايتي رجل، وهذا أول وهن وقع في المسلمين»(ج1، ص 386).

كان اختباراً عسيراً على جيش الحكام السعوديين، فلأول مرة يخضع المجتمع الذي اعتقدوا لأول وهلة أنه بات معتنقاً لقناعاتهم العقدية لاختبار الثبات على الموقف، حيث كان الخوف من الفناء يدفع بالأتباع للإنسحاب من المعركة، لأن الجيوش القادمة مصمّمة على السير نحو حرب مفتوحة بلا توقف، فاختار كثير من أهالي نجد الصلح دفعاً لخطر الموت.

فقد فرض ابراهيم باشا حصاراً على أهل الرس حتى أصاب اليأس أهلها، فطالبوا من سعود إما أن يرحل الى الروم ويناجزهم، وإما أن يأذن لهم بالمصالحة، فوقعت المصالحة بين أهل الرس وابراهيم باشا على دمائهم واموالهم وسلاحهم وبلادهم وجميع من عندهم من المرابطة، ويخرجون الى مأمنهم بسلاحهم وبجمع ما معهم، فخرجوا من الرس والمرابطة في هذه الحرب نحو سبعين رجلاً.. ودخلت عساكر ابراهيم باشا بلد الخبراء، فلما نزلوها وقع الرعب في قلوب أهلها، وتفرقت البوادي، ثم رحل من الخبراء الى عنيزة ونازلوها فسلمت لهم البلد، وأطاعوا لهم وامتنع أهل قصر الصفا، فجر عليهم القبوس والقنابر ورماهم بها رمياً هائلاً يوماً وليلة، ثم استسلمت عنيزة وصالحوا ابراهيم باشا على دمائهم واموالهم وسلاحهم.. وصار عبد الله بن سعود ينتقل من بلدة الى أخرى، وكلما صالحت بلدة رحل عنها.

وهنا يظهر الانكسار والتفكك في جبهة السعوديين والوهابيين الذي شعروا بأن الحاضنة الاجتماعية التي استندوا اليها، أصبحت عاجزة عن تحمّل تبعات معارك غير متكافئة، قد يختلط فيها المصالح الشخصية بالمبادىء العقدية.. وكان على الناس أن تختار ما بين الموت العبثي والخروج من المطحنة بسلامة الأرواح.

وفي 1233هـ، رحل ابراهيم باشا وعساكره من عنيزة بعد أن أخذ القصر وضبطه بالعساكر، وارتحل منها وقصد بلد بريدة وأميرها يومئذ مع ناحية القصيم حجيلان بن حمد، ونازل أهلها فأطاعوا له، ثم رحل الباشا من بريدة وأخذ معه عبد الله بن حجيلان ورجالاً من رؤساء اهل القصيم، وكان ياخذ من كل بلد إذا أراد أن يرتحل منها من رؤساء أهلها رجلين أو ثلاثة خوفاً أن يقع عليه فشل أو هزيمة فيحاربه أهل البلدان، ثم إنه نزل ببلد المذهب فأطاعوا له، ثم رحل من المذهب وقصد الوشم، ونزل بلد أشيقر والفرعة فاستأمنوه ودخلوا في طاعته (ج1، ص 390).

ووقعت مواجهات مع أهل بلدة أشيقر، ولكن تفوّق جيش ابراهيم باشا وعتاده، وأنزلت هزيمة بالبلدة حتى انه كان يرمي بالقنابل فكانت تسمع في البلدات الأخرى المجاورة فأرهبها.. ووقعت المصالحة بين أهل شقراء وابراهيم باشا؛ ثم خاض الأخير معارك شرسة مع أهالي ضرما، ووقعت معارك في مناطق متفرقة من نجد بما في ذلك الدرعية معقل الدولة السعودية وحاكمها عبد الله بن سعود.

وقد قتل في الحرب فيصل بن سعود بن عبد العزيز، وكان قتله في غير قتال، ولكن جاء يمشي من موضع الى موضع، فأصابته رصاصة من مكان بعيد فمات في يومه.. وحاول عبد الله بن سعود وعساكره مواصلة القتال عبثاً، ولكنهم فشلوا، فقد كانت قوات ابراهيم باشا من التفوق ما لا تستطيع اي قوة مواجهته.

وفي نهاية المطاف أرسل عبد الله ورؤوس آل سعود الى ابراهيم باشا وطلبوا الصلح فأجابهم إليه بعد كان آبياً، ولان لهم بعدما كان قاسياً، فخرج إليه من الاعيان عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، والشيخ علي بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن مشاري بن معمر، فأرادوا منه أن يصالحهم على البلد كلها، فأبى أن يصالحهم الا على أهل السهل، أو يحضر عبد الله بن سعود، فانفصل الصلح بينهم يوم الاربعاء سابع ذي القعدة سنة 1233 فدخل الروم (يقصد جيش الأتراك من المصريين) في السهل لمحاربة عبد الله ووقع الحرب الهائل على أهل الطريق من كل جهاته، وحاول عبد الله المقاومة ولكن،

“تفرق عن عبد الله أكثر من كان عنده، وبذل لهم الدراهم فأخذوها وهربوا فلما رأى عبد الله ذلك بذلك نفسه للروم..فأرسل الى الباشا وطلب المصالحة، فأمره أن يخرج إليه فخرج إليه وتصالحا على أن يركب الى السلطان فيحسن إليه أو يسيء وانعقد الصالح على ذلك ودخل منزله وأطاعت البلد كلها، وهرب رجال من الأعيان، وممن هرب سعود بن عبد الله بن محمد بن سعود من الطريف فأخذته خيل الروم وأتوا به الى الباشا، فقتل صبراً..”.

وبحسب تقديرات ابن بشر فإنه بلغ عدد قتلى الجيوش المصرية منذ بداية دخلوها الى خروجها إثنا عشر ألف رجل، وأن الذي قتل من العسكر في الرس وعنيزة وشقرا وبلد ضرما بالتخمين: أن أكثرنا فألفان، وأن قللنا فألف وخمسمائة، والباقي في الدرعية، والذي قتل من أهل الدرعية في هذا الحصار ومن كان عندهم من أهل النواحي عدد كثير، قيل إنه ألف وثلائمائة رجل، ومن مشاهير القتلى من آل سعود نحو واحد وعشرين رجلاً، منهم فيصل بن سعود، وأخوه ابراهيم، واخوه تركي مات في آخر الحصار مريضاً، وفهد بن عبد الله بن عبد العزيز، وفهد بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، ومحمد بن حسن بن مشاري بن سعود، واخوه إبراهيم، وأخوه عبد الله، وأخوه عبد الرحمن، وعبد الله بن ابراهيم بن حسن بن مشاري بن سعود، أصابه حرامية في مدة مقام الباشا في الدرعية ومات؛ وكذلك ابراهيم بن عبد الله بن فرحان، وعبد الله بن ناصر بن مشاري، ومحمد بن عبد الله بن محمد بن سعود، وسعود بن عبد الله بن محمد بن سعود، وابنه محمد، والباقي من آل ثنيان وآل ناصر وال هذلول.. وقتل من سائر نواحي نجد من الرؤساء ومن دونهم خلق كثير، قتل من أهل الوشم قريب مائة رجل، ومن أهل الحريق والحوطة نحو ثلاثين رجلاً، ومن أهل بلد ثادق والمحمل نحو أربعين رجلاً، ومن أهل بلد عرقة كذلك نحو أربعين، ومن بلد منفوحة أكثر من خمسين رجلاً، ومن أهل حريملاء والعيينة والافلاج وسدير والقصيم وغيرهم عدد كثير.

وبعد يومين من الصلح، أخذ ابراهيم باشا عبد الله بن سعود أسيراً معه الى السلطان، فرحل من الدرعية وكان عبد الله معه من قومه ثلاثة رجال أو أربعة، فسارت به العساكر وقصدوا مصر، ثم ساروا به من مصر الى تركيا، وقتل هناك في ساحة عامة في استانبول ومثل بجثته.

ونقل الجبرتي في الجزء الرابع من تاريخ في حوادث سنة 1234 ص 320 ما نصّه «وفيه وصل عبد الله الوهابي، فذهبوا به الى بيت اسماعيل باشا ابن الباشا، فأقام يومه، وذهبوا به في صبحها عند الباش بشبرا؛ فلما دخل عليه قام له وقابله بالبشاشة، وأجلسه بجانبه، وقال له: ما هذه المطاولة، فقال: الحرب سجال. قال: كيف رأيت ابراهيم باشا، قال: ما قصر، وبذل همّته ونحن كذلك، كان ما قدر المولى، فقال: أنا ان شاء الله تعالى أترجّى فيك عند مولانا السلطان. قال: المقدّر يكون ثم ألبسه خلقه، وانصرف عنه الى بيت اسماعيل باشا ببولاق، فنزل الباشا في ذلك اليوم السفينة، وسافر الى جهة دمياط وكان بصحبة الوهابي صندوق من صفيح.

ثم يقول الجبرتي: وفي يوم الأربعاء تاسع عشر، سافر عبد الله بن سعود الى جهة الاسكندرية، وصحبته جماعة من الططر (يقصد التتر) الى دار السلطنة ومعه خادم لزومه. ثم قال الجبرتي في ص 323: واستهل شهر جمادى الأولى سنة 1234 وفيه وصلت الأخبار أيضاً عن عبد الله بن سعود، أنه لما وصل الى اسلامبول طافوا به البلدة وقتلوه عند باب همايون، وقتلوا أتباعه أيضاً في نواحي متفرقة.

ومن الوقائع التي تذكر بعد وقوع الصلح مع ابراهيم باشا في آواخر سنة 1233، مقتل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وبحسب ابن بشر:

“أن الباشا لما صالح أهل الدرعية، كثر عنده الواشي من أهل نجد بعضهم على بعض، فرمى عند الباشا بالزور والبهتان والأثم والعدوان، فأرسل الباشا وتهدّده وأمر على آلات اللهو من الرباب فجروها عنده إرغاما له بها.. ثم أرسل اليه الباشا بعد ذلك وخرج به الى المقبرة ومعه عدد كثير من العساكر فأمرهم أن يثوروا فيه البنادق، فثوروها فيه وجمع لحمه بعد ذلك قطعاً»(ج1، ص 424).

يتبين من الحادثة السابقة، وخصوصاً الوشاية، ان آثار التعاليم الوهابية قد توارت، فلم تتمكن من نفوسهم، وعاد الناس الى طبيعتهم السابقة، وذلك كاف لأن يكشف عن أن خطورة العقائد الإكراهية على المجتمعات، التي قد تصاب بالنفاق لا بالإيمان، وقد تنقلب وتتمرد على العقائد الإكراهية في أي لحظة مواتية.

يصف ابن بشر احوال الناس بعد الهزيمة العسكرية ونهاية الدولة السعودية:

“وكانت هذه السنة كثر فيها الاختلاف والاضطراب ونهب الأموال، وقتل الرجال وتقدم اناس وتأخر آخرون... وانحل فيها نظام الجماعة، والسمع والطاعة، وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يستطيع أحد أن ينهي عن منكر أو يأمر بطاعة، وعمل بالمحرمات والمكروهات جهراً، وليس للطاعات ومن عمل بها قدراً، وجر الرباب والغناء في المجالس، وسفت الذواري على المجامع والمدارس، وعمرت المجالس بعد الآذان للصلاة، والدرس معرفة الأصول وأنواع العبادات، وسل سيف الفتنة بين الأنام، وصار الرجل في جوف بيته لا ينام، وتعذرت الأسفار بين البلدان، وتطاير شرر الفتن في الأوطان، وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد، وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد. فلم تزل هذه المحن على الناس متتابعة وأجنحة ظلامها بينهم خاضعة، حتى أتاح الله نوراً ساطعاً وسيفاً لمن أثار الفتن قاطعاً، فسطع به من كشف الله بسببه المحن، وشهر من غمده في رؤوس اهل الفتن، الوافي بالعقود تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود”.

لابد من التوقّف قليلاً أمام هذا المقطع المفخم بعبارات السجع، والذي يحمل في طياته أوصافاً مبالغة لواقع المجتمع النجدي، بعيداً عن حكامه ودعاته وخضوعه تحت الحكم التركي، وتصويره على أنه مجون مطلق، في مقابل الطهر والنقاء المطلقين قبل ذلك.

وفي سنة 1234هـ، أمر ابراهيم باشا بهدم أسوار نواحي بلدان نجد وحصونها وأسوارها، وبقي فيها حتى أذن الباشا بالرحيل وأعاد تنصيب آل عريعر على الأحساء والقطيف، واستعاد كل ما وضع آل سعود اليد عليه في الاحساء من أموال.

وبعد أشهر طلب من جميع آل سعود وأبناء محمد بن عبد الوهاب أن يرحلوا من الدرعية الى مصر، فارتحلوا منها بحرمهم وذراريهم، وسار معهم كثير من العساكر الى مصر، ولم يبق منهم الا من اختفى أو هرب، وكان تركي بن عبد الله هرب من الدرعية وقت الصلح هو واخوه زيد، وهرب الشيخ القاضي علي بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الى قطر والى عمان، وأقام هناك حتى استقامت الأمور لتركي بن عبد الله، وهرب اناس غيرهم.

هدم الدرعية

في شعبان من سنة 1234، قدمت الرسل والمكاتبات من محمد علي على ابنه ابراهيم باشا وهو في الدرعية أمره فيها بهدم الدرعية وتدميرها، ففعل فيها ما كان يفعله آل سعود والوهابيون في مدن غيرهم، حيث أمر ابراهيم باشا على اهلها أن يرحلوا عنها، ثم على العساكر أن يهدموا دورها وقصورها، وأن يقطعوا نخليها وأشجارها، فابتدر العساكر الى هدمها مسرعين وهدموها فتركوها خالية المساكن، كأن لم يكن بها من قديم ساكن، وتفرق أهلها في النواحي والبلدان.

ولما رحل الباشا من نجد ونزل رؤوساء البلدان بالقديم من بلدانهم، وهم الذين وقعت العداوة بينهم وبين ال سعود لما أبوا أن يدخلوا في جماعة المسلمين، ويدينوا بشريعة سيد المرسلين، فأجلوهم آل سعود عن بلدانهم بعد حروب ومقاتلات، وجعلوا في البلدان أمراء غيرهم، فلما سكنوا البلدان واستوطنوها، وقعت الحروب في نجد، واشتعلت فيها نار الفتن، وكثر القتل بينهم، وتقاطعوا الأرحام، وتذكروا الضغائن القديمة من البغي والآثام، فتواثبوا بينهم وقتل بعضهم بعضاً في وسط الأسواق ونواحي البلدان، فكان أهل كل سوق وأهل كل بلد يمشون بجمعهم وسلاحهم دائماً بالليل والنهار، فوثب رشيد بن سليمان الحجيلاني صاحب بريدة على عبد الله ابن حجيلان بن حمد فقتله، وذلك لأن حجيلان بن حميد قتل سليمان الحجيلاني في حرب سعدون صاحب الأحساء بببلدة بريدة سنة ست وتسعين وماية وألف.

فلم رحل الباشا من القصيم، أخذ عبد الله من رشيد بن حجيلان المذكور عهداً، فغدر به وقتله.

وفي هذه السنة لما رحلت العساكر من الأحساء التي قدمت اليه مع ابن مطلق، ورحل الباشا من نجد، قدم الأحساء محمد بن عريعر وذووه من آل حميد وملكوهم، وسار سعدون الضرير الى القطيف وملكه، وقدم اليه فيه سيف بن سعدون رئيس السياسب وأبناؤه ومعهم عدة رجال من السياسب فأكرمهم.

ثم إن الضرير قبض عليهم وقتلهم وهم عشرة رجال، وقبض على أناس منهم في الأحساء وقتلوا.

وفيها قتل ابراهيم بن ناصر الزير رئيس آل حمد، أهل بلد حريملاء، قتله آل راشد أهل حريملاء، والذي تولى قتله ناصر ابن محمد بن ناصر آل راشد، ونهبت جميع بيوت آل حمد وأجلوهم من البلد.

وحاول محمد بن مشاري ابن معمر ان يدعو للإمامة لنفسه، ويستقطب الناس من حوله، ونزل الدرعية لإعمارها واتخاذها مركزاً لدولته، ولكن لم تدم طويلاً، فقد كاتب أهل نجد ماجد بن عريعر رئيس الأحساء، وأشاروا عليه أن يسير بشوكة حربه الى ابن معمر في الدرعية قبل أن يستحكم أمره، وسار اليه ووقع بينهما قتل وتمت المصالحة، ولكن كانت خدعة من ابن معمر الذي تعاظم امره وصار يكاتب البلدان لطاعته وتقديم الزكاة اليه. وقدم تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود واخوه زيد وصارا عنده وساعداه، وصارت بلدان العارض والوشم وسدير تدين لابن معمر.

ولكن مشاري بن سعود جمع حوله مقاتلين من الوشم ومن أهل القصيم واهل الزلفى وأهل ثرمدا وغيرهم وقدم الدرعية؛ وأراد بن معمر منازلته، ولكنه عجز، فبايع لمشاري بن سعود، واستقام الأمر له، وقام تركي بن عبد الله وعضده، وقدم عليه في الدرعية عمه عمر بن عبد العزيز وأبناؤه، وكانوا قد هربوا من الدرعية وقت المصالحة، ثم قدم الدرعية أيضاً مشاري بن ناصر، وحسن بن محمد بن مشاري وكانوا ايضا قد هربوا منها وقت الترك.

وفي ظل فراغ السلطة في نجد، عادت القبائل الحاكمة للنزاع مجدداً، في محاولات لاستعادة ما خسرته على يد الجيوش المصرية التي قوّضت معادلة الحكم لدى كل الأطراف.

وسعى ابن معمر لاستعادة ملكه، ولكنه لم يستطع، وكاتب أهل حريملاء والنواحي يطلب منهم البيعة والسمع له والطاعة. واقتحم ابن معمر على مشاري بن سعود قصره وامسكوه وحبسوه، وجعل ابن معمر ولده مشاري في القصر، ورحل من الدرعية بما معه من الجموع وسار الى الرياض، وكان تركي ابن عبد الله فيها ومعه عمر بن عبد العزيز وبنوه، فدخل ابن معمر البلد، وهرب تركي وعشيرته الى الحاير، فاستقر ابن معمر في الملك ودانت له البلدان، وحصل ابن معمر على تأييد الاتراك بعد أن تظاهر بأنه دولة سلطانه. فكتب إليه قائد عساكر الترك آبوش آغا بإقراره في الامارة.. ثم كاتب ابن معمر البلدان وأمرهم أن يفدون اليه، فركب اليه اهل سدير والمحمل وأناس غيرهم، وقصدوه الدرعية وما لبث أن غادر الرياض حتى رجع اليها، وجعل ابنه مشاري في الرياض.

ثم خطط تركي باقتحام الدرعية، وأوهم ابن معمر بأنه سائر الى ضرما وليس معه سوى شرذمة قليلة، فسار اليه بمائة رجل، ولكن تركي أمر جنده أن يتحصنوا في قصر من قصور البلد، فدخلوا فيه وأخذوا من صاحب القصر سلاحاً وامتنعوا، فلما كان بالليل خرج تركي من القصر ومعه خادمه وقصدوا أناساً في بيت من أصحاب ابن معمر فأمسك خادماً لهم وقال: استفتح على أهل هذا البيت والا ضربت عنقكن، فاستفتح عليهم الباب، فلما فتحوا له، دخل عليهم تركي وهم النار متكنفين به، فضرب فيهم بالسيف فأطأفوا النار، فهربوا وتسوروا جدار البيت، فجرح فيهم جراحات كثيرة، وأخذ سلاحهم، فلما فعل هذا تخاذل أصحاب مشاري بن معمر، وأتوا الى تركي وتابعوه، وهرب مشاري بن معمر على فرسه.

ولما استقر تركي في الدرعية سار الى الرياض ونازل مشاري بن معمر وأمسكه واستولى على الرياض وحبس الولد وأباه فقال تركي لابن معمر: ان أطلقت مشاري بن سعود من الحبس أطلقته وابنك والا قتلتكما فكتب ابن معمر الى عشيرته الذين في سدوس باطلاقه، فامتنعوا ان يطلقوه خوفاً من الترك، لأنهم قد وعدوهم قبضه وتسليمه اليهم.

ولما تأكد تركي بأن مشاري بن سعود بات في يد الأتراك قام بضرب عنق ابن معمر وإبنه مشاري.

ثم أن الترك والدويش ساروا من سدوس وقصدوا الرياض، وثبت لهم تركي وحاربهم فرجعوا واقاموا في بلد ثادق نحو نصف شهر ثم رحلوا الى بلد ثرمدا ونازلها الترك وأقاموا فيها؛ وكان أبوش ومعه عسكر من الترك في عنيزة وأرسلوا مشاري بن سعود الى عنيزة وحبسه الترك عندهم حتى مات.

وجاء الترك مجدّداً الى نجد وحصروا تركي ومن معه من رجال في القصر فرماه الترك بالقبوس وحاربوه، فهرب من القصر في الليل وحدهن فلما أصبح أهل القصر طلبوا الأمان من الترك، فأعطوهم الأمان وخرجوهم من نحو سبعين رجلآ ومعهم عمر بن عبد العزيز ابن محمد بن سعود وأبناؤه الثلاثة فقتلوهم عن آخرهم، وحبس عمر المذكور وأبناؤه وسيروهم الى مصر..ثم فرضت عساكر الترك سيطرتها على مناطق نجد واستقروا في قصورها وثغورها وضربوا على أهلها ألوفاً من الريالات.

وفي مساء 26 شوال سنة 1236، سطا أهل عنيزة وأهل التويم في الداخلة واستولوا عليها وحصروا من كان في المدينة من أهل جلال والدخيل، ومحمد بن عمر وغيرهم، فهرب من هرب في الليل، وباقيهم نزلوا منها على دمائهم وهدموا المدينة ودمروها، وصار في هذه السنة فتن وقتل ورجال، وأخذ أموال في كل بلد وناحية من القصيم والعارض والخرج والجنوب وغير ذلك.. وصار القتال في وسط البلدان بين أهلها وبنو الأعمام وتقاطعوا الأرحام، واكتسبوا الآثام.

ويذكر ابن بشر في حوادث سنة 1237 ما “وقع في نجد من حرب وفتن وقتل رجال وأخذ اموال ونبذ للشرائع ومحن..وسار ذلك في جميع النواحي والأقطار، وتقاتلوا في وسط الأسواق والبيوت فقطعت الأرحام وقتل الجار”.

وفي رجب سار أهل بلدة عشيرة على الروضة وسطوا فيها وأخرجوا من فيها من أهل جلاجل ودواعيهم؛ وفيها ساروا أهل الزلفي على منيخ وسدير، وأرادوا أن يصير لهم رئاسة على البلدان، فقتل منهم رجال في سدير، ورجعوا على غير طائل.

وفي ثقل السنة قتل عبد الرحمن بن محمد بن ربيعة في جلاجل، قتله رجل من آل سويد بغياً وظلماً وفي أواخر التي قبل هذه، سار بوادي سبيع على بلد منفوحة وأخذوها عنوة ونهبوها وسلبوا النساء، وقطعوا الثمار، واستولوا على البلد.

وفيها، اي سنة 1237، قتل سليمان بن عرفج في بريدة وهو من رؤساء آل أبي عليان، قتلته عشيرته ثم سطا عليهم بعد ذلك محمد بن علي وهو من أوليائه فقتل فهد بن مرشد، وعم القتل في هذه السنة في القصيم وسدير والوشم والعارض والخرج والجنوب (ج1، ص 461).

فماذا فعلت الوهابية فيهم اذا كان القتل والسلب والنهب بقي سائداً، بل وتقليداً شائعاً بين قبائل نجد؟.

في الجزء الثاني من كتابه (عنوان المجد في تاريخ نجد) بدأه ابن بشر بعرض نسب آل سعود ومسقط رأس جدّهم مانع المريدي في نواحي القطيف، وانتقاله الى نجد إثر مراسلة بينه وبين ابن درع رئيس حجر اليمامة لما بينهما من الرحم، فاستدعاه من القطيف واعطاه من ملكة أرض المليبيد وغصيبة المعروفتان في الدرعية فاستقر فيها، ومن هناك نشأت عائلة ال سعود وملكهم.

وقد خصّص ابن بشر القسم الاولً من الكتاب لاستعراض سيرة أمراء آل سعود وخصوصاً من المتحدرين من الامير محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى، والذي تحالف مع محمد بن عبد الوهاب في سنة 1744م.

ويبدأ باستعراض عهد تركي بن عبد الله ابتداء من نزوله بلد عرقة في نجد سنة 1237. وقد حاول تركي بن عبد الله في سنة 1238 من بسط سيطرته على أجزاء من منطقة نجد وخصوصاً الرياض.

وفي سنة 1239 كان في بلد عرقة محارباً لأهل الرياض ومنفوحة وأهل الخرج وصاحب ضرما وثرمدا وحريملاء وباقي بلدان نجد يكاتبونه بلا متابعة.. وفي ربيع الأول من 1239 وقعت الحرب بين أهل المجمعة وأهل حرمة وقتل فيها قتلى من الفريقين.

وفي هذه السنة انتقض الصلح بين أهل سدير ورئيس جلاجل، وذلك أن محمد بن عبد الله بن جلاجل هو الذي قام في حرب سدير على صاحب جلاجل، لأن نخله ومنزله في جلاجل، وكان أبوه عبد الله بن جلاجل أميراً فيه زمن عبد العزيز على كافة بلدان سدير، فخاف منه صاحب جلاجل وأجلاه فقام عليهم بالحرب من أجل ذلك. فلما طال ذلك الحرب على أهل سدير وأثقلهم، وقطعهم عن أسباب معايشهم وأشغلهم، جنح منهم للصلح فتصالحوا، ولكن محمد بن جلاجل قصد ابن عمه راشد بن عثمان وذكر له أن رئيس جلاجل أجلاه وأخذ نخله وماله، فساعده وظهر معه من بغداد، وانتدب للحرب، وبذل فيه المال، ولما قدم راشد بلد الزبير، جمع رجالاً من أهل سدير وغيرهم، وظهر الى نجد نحو خمس وعشرين مطيّة. فلما قدم على أهل سدير، قاموا يتشاورون في الحرب أو الصلح بينه وبين رئيس جلاجل، فاندلعت الحرب بينهما.

ثم ان أهل سدير بايعوا تركي بن عبدالله آل سعود، واستنفر أهل بلدان المحمل فنفروا معه، وركب معهم الشيخ محمد بن مقرن. ورحل تركي بتلك الجنود وقدم سدير ودخل بلد جلاجل وبايعه أهلها، وذهب الى حريملاء وقال لرئيسها حمد بن مبارك بن راشد: أن موعدكم اذا غاب القمر ولم تخرجوا للصلح، لأنزلن بالمسلمين في وسطها، فخرج إليه حمد وبايعه.. وصالحه على نخيل الراشد وما كان بأيديهم وولاية بلده (ج2، ص33).

ثم بايع تركي أهل منفوحة بعد أن هدّدهم وخرج اليه أميرها ابراهيم بن سلامة بن مزروع وبايعه وأخرج من فيها من العسكر الذي عندهم وضبطها. وفي سنة 1240 رحل تركي من منفوحة وقصد الرياض ونزله وحارب أهله وفيه العساكر المصرية، وحصل بينهم وقائع عديدة قتل من الفريقين عدة قتلى. ثم أمر تركي جنوده بجذ ثمارها فصرموا النخيل، ودمروا زروعها الا ما حماه الرصاص من القلعة، وصار محصورين في قلعة البلد أكثر من شهر (ج2، ص 34).

ولكن جاء فيصل الدويش بجميع عربانه وأعوانه فزعاً لأهل الرياض، فرحل تركي بجنوده ونزل بلد عرقة، وأقام الدويش عند أهل الرياض أياماً ثم رحل عنهم، فرجع اليهم تركي وحاصرهم أشد الحصار، وضيّق عليهم ثم قتل منهم عدة رجال، ثم كاتبه رئيس العسكر الذي في الرياض، وطلب منه الصلح عليه وعلى أهل البلد، فصالحه على أن يظهر من البلد ويقصد أوطانه بجميع عساكره وآلاته. وعين عليها ابن عمه مشاري بن ناصر ابن مشاري بن سعود.

ثم رحل تركي بجنوده الى الوشم ونزل على بلد ثرمدا واخذ من رئيسيها البيعة، ثم رحل الى شقرا ونصب عليها حمد بن يحيى بن غيهب، ثم سار بعد ذلك نحو الخرج واستولى عليها وهكذا جرى لبقية المناطق مثل اليمامة والمحمل وغيرها.

وفي سنة 1241 كان تركي في الرياض وبلدان نجد كلها سامعة مطيعة وبايعوه على السمع والطاعة سوى الاحساء وما يليه. ورجع الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي دعاه لأن يعيد إحياء الدولة على أساس الدين بعد إن اخلولق، وألا يقع فيما وقع فيه آباؤه حين ارادوها ملكاً.

وكان الشيخ عبد الرحمن في طليعة من نفاهم إبراهيم باشا الى مصر بعد سقوط الدرعية آخر سنة 1233، ومعه الشيخ عبد اللطيف ال الشيخ. وقد عاصر الشيخ عبد الرحمن ستة من ملوك ال سعود. وقد جاء في رسالة بعث بها الى بلدان نجد يقول فيها: “فالذي أوجب هذا الكتاب، ذكر ما أنعم الله به عليكم من نعمة الاسلام الذي عرفكم به وهداكم إليه وتسمون به فلا يعنى باسم المسلمين الا انتم..”. ثم يصف جده ابن عبد الوهاب «الدعوة الى دين الاسلام ما قام في بيانها والدعوة اليها الا رجل واحد..”. وقال بأن الناس كانت على عبادة الطواغيت والقبور والجن والاشجار والاحجار في جميع القرى والأمصار والبوادي وغيرها، فمازالوا كذلك حتى القرن الثاني عشر الهجري، ويقصد: “غالب الناس في هذه القرون المتأخرة الى منتصف القرن الثاني عشر” يعني أن المسلمين على مدى قرون ثلاثة على الأقل كانوا في جاهلية (هامش جـ 2، ص 48).

وفي حوادث سنة 1242 بعث تركي ابن عمه مشاري بن عبد الرحمن ومعه غزوان أهل العارض وسدير والمحمل ومنيخ، وأغار على آل عبيد الله من بني خالد وهم في حفر العتك المعروف، فحصل بينهم طراد وقتل، وأخذ المسلمون كثيراً من أغنامهم وأثاثهم، ورجع قافلاً وجرح مشاري (جـ 2، ص 51).

ومن حوادث سنة 1243 سار تركي بأهل الخرج والعارض والفرع وسدير وغيرهم وقصد ناحية الوشم وأغار على عربان من هتيم وغيرهم مع رئيسهم ابن مروخ وهم في الفروع المعروفة، فنازلهم وحصل بينهم مناوشة قتال قتل منهم عدة رجال، وأخذ المسلمون (=أتباع ال سعود والوهابية) كثيراً من أغنامهم وأثاثهم ثم رحل ونزل بلد القراين، وكان عربان الدواسر في تلك الأرض، فنازلهم وأراد أخذهم، فطلبوا منه العفو فعفا عنهم، وأخذ منهم الزكاة لهذه السنة، وزكاة العام الفائتة وأخذ منهم النكال على كل إبل ناقة، ثم قفل راجعاً الى وطنه، وأذن لأهل النواحي بالقفول.

وفي حوادث هذه السنة أن تركي سار من الرياض بمن معه من رعيته من أهل العارض وحريملاء وأناس من أهل الوشم، وأغاروا على عربان العجمان، وهم عند بنبان المعروف، فأخذهم. وفي هذه السنة أرسل تركي الى رؤساء القصيم وأمراء بلدانه وأمرهم بالقدوم اليه فأقبل جميع أمراء القصيم ورؤسائه فقدموا عليه في الرياض وبايعوه.

وفي هذه السنة سار تركي بجيوشه من جميع رعاياه من العربان وقصد جهة الشمال، وأغار على السويقي وعربانه من الملاعبة من مطير، وهم في أرض الصمان، فأخذ أوباشهم، فلما حاز أتاهم مدد من حولهم من مطير وغيرهم من بني خال فأمر المسلمين وحفوا بالغنيمة من كل جانب، فقاتلوهم دونها بالرصاص والسيف حتى ردوهم. وفي هذه السنة وفد رؤساء العربان من سبيع والسهول والعجمان ومطير وقحطان وغيرهم على تركي فأرسل معهم عمالاً يقبضون منهم الزكاة.

وفي هذه السنة وفد رجال من أهل عمان ورؤسائهم، وطلبوا قاضياً معلماً وسرية تقاتل معهم عدوهم، فأرسل إليهم عمر بن محمد بن عفيصان في سرية جيش وبعث معه قاضياً، فلما وصلوا عمان كاتبهم أهل الظاهرة وبعض أهل الباطنة من عمان، ووفدوا أكثرهم عليهم واستعمل عليهم أميراً عبد الله بن سعود من أهل بلد القويعية ونزل قصر البريمي.

وفي أول سنة 1245 غزا عمر بن عفيصان بأمر الإمام تركي إبن عبد الله بجيش من المسلمين وقصد ناحية الأحساء، وأغار على قافلة ظاهرة من بندر العقير، فأخذها وأخذ معها أموالاً عديدة. وفيها غزا طلال بن حميد بجيش وخيل وكمن لأهل بلد حرمة، وأرسل شرذمة من غزوه وأخذوا أغناماً، فخرجت عليهم أفزاع البلد كلها ثم ظهر عليهم الكمين، وقتل منهم تسعة رجال. وفي هذه السنة وقعة السبية المشهورة وسميت بذلك لكثرة ما سبي فيها من الحلي والحلل، والأثاث والأغنام والإبل من بني خالد، وذلك أن محمد بن عريعر وأخاه ماجد استلحقوا عربانهم وأتباعهم من بني خالد وغيرهم، وظهروا قاصدين نجد لمحاربة تركي وأتباعه، وسار فهيد بن مبارك الصيفي رئيس أعراب سبيع ومعه جملة من عربانه ومعهم أيضاً فدغم بن لامي وفراج ابن شبلان ورؤساء المقالدة من أعراب مطير وكثير من عربانهم، وضويحي الفغم رئيس أعراب الصهبة من مطير وعربانه، ومعهم أيضاً مزيد من مهلهل بن هذال وجملة من أعراب عنزة، ومطلق بن نخيلان رئيس بني حسين وعربانه، وغيرهم من أخلاط البوادي، وسار محمد بن عريعر وأخوه ماجد بتلك الجنود فنزلوا خفيسة المهري الخبرا المعروفة بين الدهنا والصمان ويشربون من ماء معقلا ماء قريب منهم.

فلما بلغ تركي بن عبد الله خبرهم ذلك، أمر على جميع نواحي رعاياه من أهل العارض والجنوب والوشم وسدير والقصيم والجبل ووادي الدواسر، واستنفرهم مع ابنه فيصل وأمر على أتباعه أيضاً من العربان بالمغزا معه، مطلق المصخ وأتباعه من أعراب سبيع، وعساف ابو ثنين وأتباعه أيضاً من سبيع، وغيرهم فسار بهم فيصل وقصد جموع بني خالد وقطع عنهم الماء، ووقع الطراد والقتال وتصادمت الفرسان واستمر القتال اياماً ومات ماجد بن عريعر؛ ورفع ذلك من معنويات جيش ال سعود، وبدأ جيش بني خالد ينكسر تدريجاً وولى مقاتلوهم هاربين؛ فيما انقض جيش فيصل بن تركي عليهم يقتلون ويغنمون؛ واستولوا على محلتهم وخيامهم وسوادهم وبياضهم من الامتعة والفرش والابل والأغنام وجميع ما معهم من الأواني وآلات الحرب، ولا سلم الا الشريد على ظهر فرسه، الا بعض فرقان من مطير هربوا بإبلهم.

وأقام تركي وإبنه فيصل في منزل هؤلاء الجنود يوماً أو يومين، يجمع الأخماس من تلك الغنائم مما يعجز عنه الحصر ثم رحل ونزل الخفية، وأقام فيها أكثر من عشرة أيام يجمع الغنائم ويفرّقها. ثم دخل تركي الاحساء وأقام فيها هو وإبنه فيصل لأكثر من أربعين يوماً، وأخذ ما وجد من أموال بني خالد من الذهب والفضة والخيل والركاب وغير ذلك، وأخذ نخيلهم بيت مال، ورتب رجالاً في الثغور والقصور. وفي هذه السنة 1245 غزوة الافلاج حيث جاءها تركي بحجة وضع حد للنزاعات الداخلية فنزل بهم وقطع نخيلاً وأجلى رجالاً.

وفي حوادث سنة 1247 سار فيصل بن تركي بجنود من العارض والجنوب وسدير والوشم وغيرهم من أخلاط أعراب سبيع والسهول وآل عجمان وبني حسين وغيرهم وقصد عالية نجد وشن الغارة على أعراب مجتمع على طلال الماء المعروف في عالية نجد، من عتيبة وغيرهم رئيسهم سلطان بن ربيعان، فلما دهمهم فيصل وجنود المسلمين انهزم الاعراب، وصار المسلمون يقتلون فيهم ويغنمون، وكانوا يفرون على خصومهم أفراداً متفرقين يحوزون الغائم منهم. يقول ابن بشر:“وانزل المسلمون ومن غنيمتهم ثلاثة آلاف بعير ثم قفل فيصل راجعاً، ونزل بلد القويعية ثم أذن لغزواته يرجعون إلى أوطانهم». على ماذا يدل ذلك؟.

وفي 1247 سار تركي بن عبد الله غازياً من الرياض بجميع غزوه من نواحي رعاياه من العارض والوشم وسدير والقصيم وجبل شمر والجنوب وغيرهم ونزل الرمحية الماء المعروف في العرمة، وأقام فيها نحواً من أربعين يوماً ووفد عليه كثير من رؤساء العربان من أهل الشمال ونجد، وأتاه كثير من الهدايا من الخيل والركاب وغير ذلك من رؤوساء الظفير والمنتفق وغيرهم، وأتي إليه مكاتبات من علي باشا بغداد، وبعث اليه حمد بن يحيى بن غيهب رئيس بلد شقرا بهديه وهو في منزله ذلك، وبعث عماله لعربان نجد يقبضون منهم الزكاة كل عاملة لعربان فكلهم سمعوا وأطاعوا وأدوا الزكاة إليهم سوى العجمان، فإنه بلغه أنهم امتنعوا فرحل من موضعه ذلك وعدا عليهم، فلما وصل أبا الجفان الماء المعروف، بلغه أنهم دفعوها على عماله فقفل راجعاً إلى وطنه وأذن لغزوانه يرجعون إلى أوطانهم.

وكان تركي يرسل عماله الى رعاياه من العربان النجدية يفيضون من الزكاة.. وهذا يلمح الى أن الزكاة ليست مصدر لتوزيع الثروة بين الرعية بالعدل، ولكن أحد تمظهرات منعة الدولة وهيمنتها.

وفي حوادث سنة 1249 أمر تركي رعاياه من جميع نجد بالمغزا مع ابنه فيصل فركب من الرياض بغزو أهل العارض ونزل الرمحية الماء المعروف بالعرمة، وأقام أياماً واجتمع عليه أهل النواحي ثم رحل منها وقصد القطيف، وذلك أنه بلغه أن قبيلة العماير محاربين لأمير القطيف وهو عبد الله بن غانم رئيس القطيف وأنهم قطعوا عنهم، فلما وصل الى ذلك المكان شن الغارة عليهم، وأخذ كثيراً من أثاثهم، وقتل عليهم رجال، وتزين شريدتهم قصر الدمام.

ثم ان فيصل رحل ونزل سيهات وكان فيها ابن عبد الرحيم وبينه وبين ابن خليفة مراسلة واتفاق على محاربة فيصل، فجر عليهم المدفع وحاربهم وقطع شيئاً من نخيلهم هذا والخليفة بمدونهم بالزهاب والزهبة، فلما رأى فيصل التفاهم على الحرب رتب الحصون في القطيف، وجعل محمد بن سيف العجاجي في بلد دارين، وسليمان بن سحيم في بلد تاروت، ومعه رابطة فيه، ومحمد بن نصار المعروف بالدعمي في قصر تاروت، وغلام سعود أبو مسمار في الفرضة، ثم أمر مقاتليه بخوض البحر على مراكب الخليفة التي جاءت مدداً لصاحب سيهات، فوجدوا البحر غزيراَ وماؤه طامي، فانصرفوا عنهم، ثم بلغه قتل أبيه تركي فرحل من القطيف قافلاً ولم يشعر بذلك أحد من رعاياه وأمر على رئيس القطيف ابن غانم يرحل معه..

وفي هذه السنة 1249 قُتل تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، وذلك أن مشاري بن عبد الرحمن بن مشاري بن سعود من الذين نقلهم ابراهيم باشا الى مصر فشرد منها سنة 1242 وألفى على خاله وابن عمه تركي بن عبد الله، وقد استقام له الأمر على نجد كلها بالبيعة، فلما ألفى عليه قام له أتمّ القيام وأكرمه واستعمله اميراً في بلد منفوحة.

وفي سنة 1245 وشى به واش عند خاله تركي أنه اجتمع بأناس من ولات الرعية وعاقدهم على قتله، فوقع في نفس تركي على أناس منهم من أجل هذه الشبهة، فعزل من عزل منهم عن ولايته، وعفا عمن عفا ولم يرفع بالأمر رأساً، ومن بين من عزلهم مشاري عن إمارة بلد منفوحة، فحقد في نفسه، فلما غزا تركي مغزا الشمال، خرج مشاري من الرياض مغاضباً لخاله منابذا له، فلما رجع اليه مع أهل المذنب جعله تركي في بيت عند أهله وعياله، وقام بجميع حوائجه ولا جعل عليه داخل من الناس خوفاً من الفتنة، ولكنه ليس عليه رجال من أكلة الديوان، الذين ضعف في قلوبهم الايمان، فأغروه من غير ما إن ينظر لعاقبة الأمور، فسولوا له أنك أولى بالحكم، وأنت الشجاع المقدم، وقد انتقصك وخذلك فهو أحق بالقتل.

وعزم مشاري على إظهار ما أبطن وجرد سيفه لإثارة الفتن، وذلك بمساعدة رجال أسافل من الخدام الأراذل، وقد تواعدوا عليه بعد صلاة الجمعة إذا خرج من المسجد، فلما صلى الجمعة وصلى سنتها التي بعدها خرج على عادته من الباب الذي جنوب المحراب، وكان قد أعد هذا الباب في قبلة المسجد لدخوله وخروجه، ولدخول الامام عن تخطي رقاب الناس لكثرة ما في المسجد الجامع من الصفوف؛ فوقف له البغاة عند الدكاكين بين القصر والمسجد وبيده مكتوب يقرأه، وفي جنبه رجل على يساره، واعترضه منهم عبد خادم يقال له ابراهيم بن حمزة، فأدخل الطبنجة مع كمه وهو غافل فثورها فيه فخر صريعاً فلم تخط قلبه، واذا مشاري قد خرج من المسجد فشهر سيفه وتهدد الناس وتوعدهم، وشهر أناس سيوفهم معه، فبهت الناس وعلموا أن الأمر قد تشاوروا فيه، وقضي بليل، فلما رأى زويد العبد المشهور مملوك تركي عمه صريعاً، شهر سيفه ولحق برجل من رجاجيل مشاري فجرحه، فلما لم يجد مساعداً هرب الى القصر، ثم إن مشاري دخل القصر من ساعته وأعوانه معه، وأمر على زويد وأدخل الحبس، وجلس مشاري للناس يدعوهم الى البيعة، فلما علم آل الشيخ وقوع هذا الأمر جلسوا في المسجد، فلم يخرجوا منه حتى أرسل إليهم مشاري يدعوهم فأبوا أن يأتوا إليه الا بالأمان، فكتب لهم بالأمان فأتوا إليه وطلب منهم المبايعة فبايعوه، ثم نقل تركي من موضعه ذلك، وأدخلوه بيت زويد فجهز ودفن في مقبرة الرياض.

ثم أن مشاري أمر على نساء تركي وعياله، ونساء فيصل وعياله فأخرجوهم من القصر، واستولى على جميع الخزاين الذهب والفضة والسلاح والخيل والعمانيات وغير ذلك، وفرق السلاح على الرجال وبث شيئاً كثيراً من الدراهم والكسوة، وبايعه أهل البلدان وهم في بلدانهم، وأمر بأخذ البيعة لهم منهم وهم لا يفدون عليه، لأنه تيقن أن فيصل لا يحسر على حربه ولا يقدم على بأسه وصولته، ولا يساعده احد من أهل دولته.

ثم إن زويد هرب من الرياض وقصد فيصل فوافاه في الأحساء، وأما فيصل فإنه لما بلغه الخبر وهو في القطيف أخفى الأمر على الناس ورحل قافلاً قاصداً الأحساء، وكان الأمير فيه من جهة أبيه عمر بن محمد بن عفيصان، فلما قدموا الأحساء فشا ذلك في الناس وكان معه رؤساء المسلمين من الأمراء والأعيان منهم: رئيس الجبل عبد الله بن علي بن رشيد، وكان ذو رأي وشجاعة، وعبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن حسن رئيس بريدة ورئيس الحريق تركي الهزاني وحمد بن يحيى بن غيهب أمير بلدان سدير وغيرهم من الرؤساء ورجال من رؤساء العربان فأرسل اليهم فيصل وأحضرهم عنده ومعهم عمر بن غفيصان فأخبرهم بالأمر وأبدى لهم أنه لا بد أن يأخذ بالثأر، ويضرم عليهم نار الحرب لا يقر له عن ذلك قرار، وذاكرهم وذكرهم، وأكثر من تعظيم هذا الأمر عندهم، ثم بايعوه..

ثم سار فيصل الى الرياض ونزل قريباً منها وثوّر جنوده البارود حتى كان له رعد عظيم وانقضاض، ومع ذلك فالباغي لا يسمعه ولا يشعر به، ولا خطر على باله، ولا تحدث به، ويرسل الرسل ليأتوه بالخبر فيرجعون إليه أن لا عين ولا أثر، ثم أمر على من كان معه من اهل الرياض يدخلون البلد في الليل، ويمسكون البروج والبيوت المقابلة للقصر ولكنهم تفاجئوا بوجود رجال مشاري فيها ولكنهم على ما يبدو لم يكونوا حلفاء لمشاري فمالوا الى فيصل فسيطروا على البيوت والبروج وتفاجأ مشاري وذووه بالهجوم المباغت من البيوت والبروج التي كان عليها رجاله وإذا بهم وسط البيوت يتعزّون ويثأرون لدم تركي ويرمون، فلما رأى ذلك بهت فأمر بإغلاق الأبواب وصعد رجاله البروج للحرب فأضرموا الحرب في رؤوس البروج ليبرموا أسباب الهروب والخروج.

ونجح فيصل في دخول الرياض فجراً، ونزل بيت زويد وفرق رجاله في البيوت وفي بروج البلد وشب الحرب على من في القصر، وكان الذي فيه مع مشاري نحو مائة وأربعين رجلاً وتابع الحرب عليهم بالليل والنهار، ورماهم بالمدافع الكبار، من كل الجهات لا يفتر عنهم في جميع الحالات.. الى أن نزلت به الهزيمة، وجاء رجال فيصل بعد اقتحامهم القصر، وقتلوا مشاري وستة من رجاله، وأخرجوا جسد مشاري ورأسه خارج القصر ليعرف وينظر اليه.

الصفحة السابقة