صداع قطر وقناة الجزيرة

عبدالحميد قدس

انطلقت قناة الجزيرة في الأول من نوفمبر ١٩٩٦، على أنقاض محاولة سعودية بالاشتراك مع بي بي سي (الأم) في تأسيس قناة عربية، لكنها لم تعمّر كثيراً، وخسرت الرياض ما يقرب من ثلاثمائة مليون جنيه استرليني، وكانت قطر للتوّ تستعد لاطلاق قناتها، وتأسيس صحيفة خارجية، تكون أداة لسياستها الخارجية، التي كانت في مصادمة حادّة مع الحكومة السعودية. يومها التقطت قطر المتدربين والمذيعين الذين خسروا مواقعهم في البي بي سي (القناة التي فشلت سعوديا) وبدأت بهم قناتها (الجزيرة).

فوجئت الرياض بقوّة القناة، وبمساحة الحرية المتاحة لها، وهي مساحة غير مسبوقة في الإعلام العربي، فغطّت على قناة الإم بي سي، الأثيرة لدى الملك فهد، والتي يمتلك ابنه عبدالعزيز وانسباؤه من آل ابراهيم أسهمها.

بدت الرياض منزعجة للغاية، خاصة وان الجزيرة بدأت بالتحرّش بالسعودية واستعراض عضلات حكومة قطر، وكأنها تريد أن تقول بأنها قادرة على الإيذاء، وأن الرياض لم تعد بعد بث (الجزيرة) محتكرة للإعلام العربي، وتغطّي جرائمها وعدوانها على الآخرين دون أن يكون للآخرين صوتاً، خاصة قطر، التي تريد استرجاع أراضٍ حدودية، خسرتها في مواجهة عسكرية مع القوات السعودية، والتي تريد ـ أيضاً ـ الإنتقام من الرياض التي حاولت القيام بانقلاب عسكري ضد الحكم القائم يومها.

بديهي، فإن الرياض كانت تراقب نشاط الجزيرة منذ انطلاقتها، وأعلنت أكثر من مرة اعتراضها على استضافة معارضين لها، وفي الحقيقة فإن كل السياسة الخارجية القطرية لم تعجب الرياض، الا متأخراً، بعد التوافق بشأن الحرب على سوريا، وعلى العراق، وحالياً على اليمن. في ٢٠٠٢ تعرض معارضون لسياسة السعودية على قناة الجزيرة، ما ادى لسحب الرياض سفيرها من الدوحة احتجاجاً. وبعد بث برنامج عن فساد الصفقات السعودية تحت عنوان (سوداء اليمامة)، تراجعت الرياض وأخذت قطر ما تريد من الأراضي التي تعتبرها لها، وتوقفت قطر عن مهاجمة الرياض عبر الجزيرة، وذلك بعد لقاء وزير الخارجية آنئذ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني مع الأمير سلطان وزير الدفاع، الذي لم يهتم بشأن الفساد، بقدر ما كان غاضباً من استضافة اشخاص غير مرغوب فيهم، حتى ولو لم يعلنوا معارضتهم، وتحديداً كان انزعاجه من الشيخ احمد زكي يماني، وزير النفط السعودي الأسبق!

منذئذ، توقفت الجزيرة عن التحرّش بالسعودية، وإن واصلت الرياض انزعاجها من سياسة القناة باعتبارها تعكس السياسة الخارجية القطرية التي لم تكن تتوافق مع السعودية في العديد من الملفات الإقليمية.

وثائق ويكيليكس السعودية التي كُشف عنها مؤخراً، توضح المراقبة السعودية الدائمة والمستمرة للقناة وللإعلام القطري كليّة، كما توضح القيود المفروضة على العاملين في القناة في حال ارادوا دخول السعودية للعمرة او للمرور حتى. مع ان القناة حاولت التودد للرياض وطلبت السماح لها بتغطية مناسك الحج، فقبلت الرياض ولكن بشروط، وبمراقبة صارمة.

من الوثائق التي كُشف عنها، ان سفير الرياض في القاهرة، وهو وزير التخطيط، ثم وزير النفط، الأسبق، هشام ناظر، أرسل لسعود الفيصل في ٢٠٠٩، دراسة حول قناة الجزيرة اعدها مركز دراسات الأهرام، بقلم نبيل عبدالفتاح، وقال ناظر انها (توضح كيف وظّفت دولة قطر القناة بشكل ناجح، تحت ستار المهنية العالية، لتخرج من كونها دولة صغيرة غير مؤثرة في قضايا ونزاعات وتفاعلات المنطقة، الى ابراز دورها كفاعل إقليمي صغير في اطار التناقضات والمنافسات بين المحاور الإقليمية للإعتدال والممانعة).

السفارة السعودية في الدوحة أعدّت دراسة او تحليلا لقناة الجزيرة ولوسائل الاعلام القطرية. وقد لاحظ التحليل المقدم ان انتعاش الساحة الاعلامية القطرية موهوم، وأن الغاء وزارة الاعلام القطرية، لا يعني شيئا كثيراً، فأغلب الصحف التي صدرت قبل الإلغاء بفترة او بعده ببرهة، انما هيمن عليها شخصيات من الأسرة الحاكمة في قطر. ويضيف التقرير بأن القطريين ينظرون الى قناة الجزيرة بأنها (واحة مستقلة لا تربطها بمناخ الاعلام القاحل المحيط بها الا الصلة الجغرافية)، وان هدفها بحسب سفارة السعودية في قطر: (تبرير المواقف السياسية المثيرة للقيادة القطرية، او تصفية حسابات بين قطر ودول أخرى). ويؤكد تقرير السفارة السعودية في قطر بأنه مهما كان وزن الإعلاميين ـ وغالبيتهم من المنتمين للإخوان المسلمين والمتعاطفين معهم (فإن الكلمة الفصل في النهاية لصانع القرار القطري، فهو من يحدد أهدافه، ومن يحدد اتجاهات القناة لتحقيق أهدافه ومصالحه).

ووجد التقرير ان وجود اعلاميين منتمين للإخوان المسلمين في القناة مسألة مهمة، لأن الشعب القطري (وهّابي)، والإخوان لا جذور لهم، وكانت استضافتهم عندما تعرضوا للإضطهاد فحسب. ويشرح التقرير الهدف من الاستضافة الموسعة للإخوان: حركات واعلاميين، وهو ان تكون قطر (فاعلة في المنطقة) و (لا بد لها من أوراق ضغط في كثير من الدول).

هناك تقرير آخر عن قناة الجزيرة وسياستها الاعلامية، والأمور المستجدة التي تشهدها القناة في الشكل، صادر من رئاسة الاستخبارات السعودية صادر في ٢٠١١، وموجه الى الملك ووزيري الداخلية والخارجية. التقرير يتحدث عن تفاصيل مملة عن بناء ستوديو جديد للجزيرة يضاهي العربية، وعن استقالات في القناة وتنقلات موظفي الجزيرة الى قناة التلفزيون القطري الرسمي، وان يكون توجه قناة قطر الرسمية مؤكدا على الديمقراطية وحقوق الانسان، وحقوق المرأة، والانتخابات والمشاركة السياسية؛ واعتبر ذلك (تحضيراً لمرحلة التغيير في دول الخليج العربي) او ما يسمى بـ (ربيع الخليج). وبعد أن يستعرض تقرير الاستخبارات السعودية، انشاء الدوحة (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) يخلص الى هذه النتيجة: (بعد ان نجحت قطر في انشاء الذراع الإعلامي لها المتمثل في قناة الجزيرة، الذي يخدم سياستها في المنطقة، وبعد أن نجحت ايضاً في تكوين تجمع سياسي يجمع الاسلاميين المعتدلين في المنطقة تحتى مسمى الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين… اتضح لمتابعي الأوضاع السياسية في المنطقة المشروع القطري الذي بدأ يروج للغرب على أن الإسلام السياسي هو البديل المقبول والمناسب شعبياً ضد الأنظمة الإستبدادية والدكتاتورية في العالم العربي، التي بدأ الربيع العربي يسقطها الواحد تلو الآخر).

بهذه النظرة الحذرة والقلقة من السلوك السياسي القطري ـ وتجلياته في قناة الجزيرة، يمكن ملاحظة لماذا صدر أمر ملكي سعودي، بعدم منح تأشيرات دخول لموظفي قناة الجزيرة إلا بعد الإستئذان لهم. وحسب وثائق عديدة، فإن السفارة السعودية في قطر، تتلقى طلبات الفيزا، ثم ترسلها الى وزير الخارجية السابق سعود الفيصل، وبدوره يقوم الأخير بتحويلها الى وزير الداخلية، ليبتّ في الأمر، بعد أن يجري فحص الأسماء. ولنا أن نتخيّل كم أن قرارات صغيرة، يتدخّل فيها الأمراء الكبار بأنفسهم في بيروقراطية غير معهودة.

لا يختلف الأمر بالنسبة لقناة الجزيرة باللغة العربية أم الإنجليزية، فهناك ـ مثلاً ـ وثيقة تفيد بأن الجزيرة الانجليزية تقدمت لسفارة آل سعود في واشنطن، من أجل الحصول على فيزا لكبير المخرجين جيرمي يونغ، من اجل اجراء لقاءات مع كبار المسؤولين السعوديين في وزارة البترول، لبرنامج وثائقي يبث ضمن (فولت لاينز). ومع ان السفارة السعودية أعطت معلومات كافية في مراسلتها لوزارة الخارجية في الرياض عن الشخص، إلا أن أسامة نقلي رئيس ادارة الشؤون الاعلامية في وزارة الخارجية، لم يستطع اتخاذ القرار باعطائه فيزا، وحول الأمر الى وكيل وزارة الاعلام، ليفيد بما يراه مناسباً!

لكن هناك وثيقة من وزارة الخارجية السعودية تحمل تصنيف (عاجل جداً)، ومرسلة الى سفارة آل سعود في الدوحة، تفيد بموافقة وزارة الاعلام السعودية على تغطية قناة الجزيرة لموسم حج عام ٢٠١١، وبالتالي منح الطاقم الاعلامي الفيزا (مع موافاتنا بموعد وواسطة قدومهم، وتزويد وزارة الثقافة والاعلام بصورة من برقية التأشير، وموعد الوصول، وبيانات بالمعدات.. وتزويد كل من وزارة الداخلية ورئاسة الاستخبارات العامة بصورة من الإجراء).

وعموماً، ستبقى قطر، وستبقى قناة الجزيرة، مؤذية لآل سعود، سياسة واعلاماً، ولو من قبيل المنافسة.

الصفحة السابقة