مبتسمون ورابحون كثر، والغاضبون: السعودية واسرائيل

الإتفاق النووي بين الدول الكبرى وإيران

سعودية مجروحة وخاسرة

عمر المالكي

كان الألم السعودي ليتضاعف أكثر ليكون غير قابل للتحمّل من اتفاقية النووي بين إيران والغرب، لولا أن الولايات المتحدة قد سبق لها أن فتحت باباً للرياض كي تنفّس عن غيظها وسخطها وألمها في معركة تعتقد أنها معركة وجود. الباب هو: السماح للرياض بأن تشنّ حرباً على اليمن، وتغطية تلك الحرب سياسياً واعلامياً رغم الجرائم الفظيعة المقترفة حتى الآن. تغطية لم تتوقف عند ذلك، بل شملت مشاركة الولايات المتحدة في الحرب من خلال المساهمة في قيادتها وإدارة عملياتها، اضافة الى مدّها بالوقود اللازم للإستمرار، ونقصد به الأسلحة والذخائر، والمشاركة احياناً بالقصف بصواريخ كروز من حاملات الطائرات.

كأنّ هناك مقايضة بين الرياض وواشنطن. الأخيرة أرادت من اليمن عملية تنفيس وامتصاص احتقان الرياض المتوقع من توقيع الاتفاق النووي؛ وأرادت الرياض من جانبها ـ أو هذا ما أملته ـ انتصارا على شعب مستضعف يعوّضها عن بعض خسائرها الفادحة، ولربما يهيؤها لاستعادة المزيد في حال نجحت في معركتها اليمنية.

لكن الرياض لم تكف عن ابداء غضبها واظهار امتعاضها من سياسة حليفها الأمريكي تجاه الملف النووي. وفي مايو الماضي، استدعى أوباما قادة الخليج لكامب ديفيد ليشرح وجهة نظره، ولكن الملك سلمان اعتذر في اللحظات الأخيرة وأناب ولي عهده عنه، وطلب من الدول الخليجية تخفيض مستوى التمثيل، فلم يقبل ذلك أحد سوى البحرين، مرغمة أيضاً. وفي حين تتظاهر الرياض احياناً بانها مقتنعة بالخطوات الأمريكية، من أن الاتفاق النووي سيجرد ايران من سلاح نووي مفترض ان يتم امتلاكه في مستقبل مجهول.. إلا أنها في واقع الأمر ترفض التفاصيل الملحقة به، وكأنها تتمنى أن لو امتلكت ايران سلاحاً نووياً، مع إبقاء حصارها، وشنّ الحرب عليها تبعاً لذلك.

بكلمة أخرى، فإن الرياض لم تكن تخشى ـ في حقيقة الأمر ـ من السلاح النووي المتوهم، بقدر ما كانت خشيتها الحقيقية تتمثل في تبعات الاتفاق النووي الذي عنى لها: (اطلاق سراح إيران من حصارها الاقتصادي والسياسي)، ما يجعل نفوذها ـ بنظر الرياض ـ يتغوّل على حسابها، فيما هي ـ اي الرياض ـ تكافح منذ عقود لاحتواء هذا النفوذ المتصاعد، الذي جعلها تبدو دولة عادية بقليل من النفوذ، وهو أمرٌ لا تقبل به.

السعودية ترى أن الاتفاق النووي يمثل خسارة استراتيجية لها، فهو:

1/ يمثل بداية مرحلة جديدة في الوضع الإقليمي، تكون فيه إيران سيدة الخليج، أو لنقل تعود فيه ايران لتكون ـ بحسب التعبير السعودي ـ شرطي الخليج كما كانت في عهد الشاه. فالاتفاق يمثل اعترافاً بقوة ايران الإقليمية وبدورها كسيّدة للإقليم، وهو محصّلة لقوة حقيقية على الأرض تمّ تثميرها في المفاوضات على الطاولة، وبالتالي فإن إيران قد تبتلع الدور السعودي في المنطقة كاملاً، إنْ لم يجرِ التنسيق بين العاصمتين: الرياض وطهران. فالبديل سيكون في هذه الحال، اتفاقاً ايرانيا امريكيا، يزيد من تهميش الرياض، دون أن تكون قادرة على تحمل تبعاته، بسبب نضوب خياراتها الاستراتيجية.

2/ يمثل الإتفاق في كل الأحوال، ومهما تغيرت الأوضاع، اعترافاً بأن مكانة الرياض وتل أبيب الإستراتيجية بالنسبة للغرب قد تراجعت الى ما يقرب من الإنهيار، فلم تعد الدولتان تمثلان أدوات لتعزيز مكانة الغرب استراتيجيا، بل تحولتا في العقدين الماضيين الى عبء على الإستراتيجية الغربية بدلاً من أن تكونا داعماً لها. فاسرائيل، وبدلاً من أن يخيف الغرب بها خصومه في المنطقة، تغيّر الوضع فصار يخاف عليها، وصار ملزماً بحمايتها، ولذا فإن نتنياهو يريد وعداً من أوباما بحماية اسرائيل ودعما اضافياً يعوّض ما سيترتب من تغييرات في الوضع الإقليمي لا تتماشى ومصالح اسرائيل. وبالنسبة للسعودية، فكان فقدانها لنفوذها في المنطقة، ودعمها للتطرف الوهابي الذي أنتج داعش والقاعدة، سبباً أساسياً في تحوّلها من مكسب استراتيجي للغرب الى عبء كبير صار يهدده في عقر دراه بالتفجير والعنف.

3/ يمثل الاتفاق النووي عصراً جديداً في العلاقات الدولية، يشمل أبعاداً أكبر من إقليم الشرق الأوسط، ويحمل معه تحالفات جديدة ومصالح متضاربة أو متقاربة احياناً. بمعنى أن الاتفاق النووي، يمثل لحظة تحول عالمي، لا يعود الى الإتفاق بذاته، وان كان عنصراً او سبباً اساسياُ فيه، ولكنه يعود في أساسه الى تحولات سابقة في السنوات الماضية على مستوى التحولات الإقتصادية والتحالفات التي نشأت بين دول صناعية ومتطور لمواجهة الهيمنة الأمريكية، وما تبعها من تحولات عسكرية امريكية تحاول ان تسابق الزمن في المحيط الهادي. وعلى مستوى المنطقة، فإن الإتفاق سيعزز الحضور الروسي والصيني، ودول أخرى كبيرة عضوة في مجموعتا شانغهاي والبريكس، بعد أن كانت المنطقة شبه محتكرة للغرب، وبالخصوص الولايات المتحدة الأمريكية. حضور هذه الدول المتزايد سيكون عبر البوابة الإيرانية الواسعة الآن، بعد الاتفاق النووي. ويجب التذكير هنا، بأن الاتفاق النووي ليس بين أمريكا وايران، او بين الغرب وايران، بل هو اتفاق مع ست دول كبرى، تشمل الصين وروسيا، اللتان تريان انه يصبّ في صالحهما أيضاً، ليس فقط في الجانب الإقتصادي بل والسياسي والاستراتيجي أيضاً. ولعله من نافل القول، بأن الحضور الروسي في قضايا المنطقة خلال الأعوام الثلاثة الماضية كان أكبر بكثير من أي فترة سابقة، ويعتقد انه سيتوسع أكثر، بدعم إيراني مباشر. في ظل هذا التحوّل، تبدو الرياض قوة إقليمية آفلة بدون أنياب سياسية، بل حتى قوتها الإقتصادية لا تبدو كثيرة الإغراء كما كانت في الماضي، بالنظر لوجود مصالح اقتصادية مستجدة.

4/ والإتفاق النووي يعني اقتصادياً بالنسبة للرياض زيادة في الصادرات الإيرانية النفطية وغير النفطية، وهذا ليس فقط يزيد من دخل ايران ويعينها في سياساتها الإقليمية فحسب، بل أنه يفرض على الرياض تخفيضاً في حصتها النفطية التي توسّعت لأكثر من عقدين بسبب تدمير العراق وحصار ايران، ولكن في حال أصرّت الرياض على إبقاء انتاجها مرتفعا الى ما فوق العشرة ملايين برميل يومياً، فإنها تغامر أكثر بتفكيك الأوبك، وبخفض سعر برميل النفط اكثر، ما يجعلها متضرراً اساسياً، لأن إيرادات النفط الإيرانية لاتمثل سوى 30% من مجمل الإيرادات، في حين تصل الى اكثر من 90% في السعودية.

5/ والرياض متأكدة من أن النفوذ السياسي الإيراني سيتوسع في مرحلة ما بعد فك الحصار، وهذا يعني أنها متأكدة أيضاً بأن نفوذها آخذ بالإضمحلال حتى في محيطها الخليجي. إيران أيضاً بدأت تتحرك بروح ابوية في الخليج، وقالت ان اتفاقها النووي سيقوي علاقاتها مع دول الخليج، على افتراض ان المشكلة محورها القضية النووية، وتبعية دول الخليج لامريكا والغرب. وأعلن ظريف انه سيزور سلطنة عمان وقطر، في حين اتصل روحاني، الرئيس الايراني، شاكراً للسلطان قابوس، كما اتصل بقيادات خليجية لبعث رسائل اطمئنان وتمهيداً للمرحلة القادمة من التعاون. ولعلنا نشير هنا الى أن كل دول الخليج أعلنت تأييدها للإتفاق النووي وباركت لإيران، ولكن الرياض أعلنت تهديداً وتحذيراً من ناطق سعودي مسؤول! ثم تكرر التهديد على لسان وزير الخارجية عادل الجبير، بعد لقائه نظيره الأمريكي في واشنطن في زيارة له غرضها الاطلاع عن قرب على تفاصيل الاتفاق، وتحصيل بعض الاطمئنان من أنها لن تكون (الزوجة المهملة). ذات الشيء فعله اوباما حين التقى بالجبير مطمئنا اياه وآل سعود من ورائه. والملاحظ أن استياء السعوديين والصهاينة متشابه، وقد سبق لهم العمل مجتمعين لمنع توقيع الاتفاق من خلال تنسيق لوبيهما في واشنطن، او من خلال شراء الموقف الفرنسي. والآن تعمل الدولتان معا للقيام بذات المهمة لكي يرفض الكونغرس الاتفاق!

وبعد أن قضي الأمر، فإن وزيري الدفاع والخارجية الأمريكيين سيطوفان على اسرائيل والعواصم الخليجية لبعث المزيد من الاطمئنان في القادة هناك، وليجددا التعهد لهم بالحماية الامريكية.

ماذا تنوي الرياض فعله؟ فقد وضعت الحرب أوزارها، وقد تغيّر المشهد السياسي، والعالم لا يبحث عن حروب جديدة، بل الى لملمة العنف الوهابي (الداعشي القاعدي) الذي وصل الى أوروبا وأمريكا فضلا عن روسيا والصين!

ماذا تنوي الرياض أن تفعل، والأنظار تتوجه لحلول مشاكل المنطقة، الرياض عنصر اساس في خلقها، وهي بالتالي عنصرٌ أساس في المساهمة بحلّها، إن أرادت؟

الواضح من الاعلام السعودي، ومن تصريحات المسؤولين السعوديين، يفيد بانها تنوي استكمال معركتها مع ايران، وكأنّ شيئاً لم يحدث لا قبل الاتفاق النووي ولا بعده. الرياض غير مهتمة بقراءة التحوّلات التي أشرنا اليها آنفاً، وهمّها ليس اعتماد سياسة (تقاسم المصالح) بقدر ما هي (توسعة فضاء الأزمة)، سواء في سوريا او اليمن أو غيرهما.

لن تتعاون الرياض مع القوى المؤثرة الأخرى، لا ايران ولا امريكا ولا تركيا حتى او مصر في قضية تهدئة الأوضاع في سوريا والعراق والبحرين، والبحث عن حلول سياسية وسطية.

لكن الأهم هو أن عين الرياض مسلّطة على اليمن والحرب فيها. فهي تبحث عن انتصار، أو قل عدم الوقوع في هزيمة منكرة. لهذا جاء التحوّل بالإنزال العسكري من البريقة الى عدن، والذي تمّ احتواؤه، وتقترب العملية العسكرية في عدن الى حافة الإخفاق (سعودياً وإماراتياً).

قيل وهو صحيح الى حد كبير، أن هناك طريقان لإيقاف العدوان السعودي. إما نصر سعودي عبر عدن، يهيء الوضع لحل سياسي يحفظ ماء وجه الرياض؛ أو توغّل استراتيجي للقوات اليمنية في العمق السعودي تسقط معه مدنٌ سعودية كبرى، وتجبر الرياض حينها على إيقاف العدوان.

لكن الرياض تحتفظ لليمن بخطط أخرى، خطط دموية تقسيمية. فالرياض تدرك بأفعالها الشائنة وقصفها وقتلها وتدميرها انها خسرت اليمن (الشمالي)؛ خسرت البشر والقيادات، ولم تعد تطاق. لكنها في المقابل تراهن على اليمن الجنوبي لتفصله عن شماله إن لم تفلح في تحقيق اهداف عدوانها، فهذه هي الخطة البديلة، ما يعني ان الرياض تخطط لمعارك أخرى، ولن تهدأ المنطقة قريباً مع الاتفاق النووي.

الصفحة السابقة