سلمان: تأكيد التحالف مع المؤسسة الوهابية   سلمان على خطى فهد.. حصاد نار التطرف

الطائفية بين عهدين

سلمان على خطى فهد

الطائفية في عهد سلمان تشبه طائفية فهد باستثناء أن طائفية الأخير كانت تأسيسية،
وثمة مشترك بينهما في الزخم. والطائفية السديرية كانت دائماً ذات طابع ديني،
كما هو واضح في مواقف الأمير نايف في سياق استرضاء المشايخ،
وقمع المعارضة الشيعية، ومحاربة إيران

عمر المالكي

لم تبرح الطائفية الدولة السعودية عبر أطوارها الثلاثة، بل كانت مكوّناً جوهرياً في خطاب التأسيس والتسيير، إذ لم يمكن بدون خطاب الجماعة المختارة التي ترى في نفسها حق إخضاع الطوائف الأخرى عن طريق القوة المجرّدة، بعد غزو مناطقها، ومصادرة ممتلكاتها، أن تؤسس دولة قوية مترامية الأطراف، وأن تبقى على اعتناق هذا الحق في مراحل إدارة شؤون الدولة. الطائفية، ببساطة شديدة، هي غلبة طائفة على طوائف أخرى سياسياً، ثقافياً/ عقدياً، اقتصادياً، إجتماعياً، قانونياً، إدارياً، وأن تكون هذه الغلبة السمة العامة في سياسات الدولة. وقد تأخذ الطائفية أشكالاً متعدّدة، وقد يبرز في لحظة ما شكل من الأشكال، ولكنّه يتلطى وراء أشكال أخرى غير نافرة. فحين تكون الطائفية ذات طابع سياسي، فإنها تكون قد تحصنّت بمنظومة قانونية، وثقافية، واقتصادية تبرّر لذاك النوع من الطائفية بالتمظهر، وهكذا بالنسبة لبقية الأشكال..

في ثمانينات القرن الماضي، شهدت السعودية انفجاراً طائفياً غير مسبوق، بدأ بحملة إحياء للوهابية على نطاق واسع، وتكفّل الملك فهد برعاية تلك الحملة لجهة التصدي لتيار الثورة الاسلامية الايرانية الذي كان يكتسح المنطقة.

حملة الاحياء تلك جاءت كرد فعل على الخطاب الثوري، الشيعي على وجه التحديد، فرفعت منسوب الطائفية الى مستويات عالية جداً. كانت الأدبيات المذهبية التي طبعت خلال تلك المرحلة بأموال سعودية تشي بقلق لدى الحكّام السعوديين من تداعيات الخطاب الثوري العابر للمذاهب والدول، فكانت الطائفية في بعدها الثقافي/ العقدي أداة لتحصين القاعدة الشعبية للنظام، وإعادة إخضاع للجماعات الأخرى. وكانت القاعدة المتبّعة: أن وحدة السلطة تتوقف على قسمة المجتمع. فكان النظام بحاجة الى خطاب يشدّ عصب مركز السلطة، حتى لو أفضى ذلك الخطاب الى تعميق الانقسام في المجتمع على خلفية مذهبية.

بقيت الطائفية تعمل في مراحل لاحقة ولكن بوتيرة أقل، وبأشكال أخرى، مثل الطائفية الاقتصادية والادارية، فسياسات التمييز الطائفي التي رافقت الدولة منذ نشأتها كانت مدعومة بمبررات ثقافية ودينية وسياسية وهي في جوهرها مبررات طائفية أيضاً، وإن لم يعبّر عنها..

الطائفية في عهد الملك عبد الله (2005 ـ 2015) كانت سياسية وتستهدف تغطية نزاعات الدولة السعودية مع الخارج مثل ايران والعراق وتالياً سوريا، فيما كان البعد الديني مخفّضاً، فلم يسمح للتيار الديني السلفي، خصوصاً التيار المقرّب من الإخوان المسلمين، بالإفادة من الطائفية السياسية للتمدّد إجتماعياً وإعلامياً وسياسياً. النظام كانت لديه مشكلة مع جماعة الاخوان المسلمين، وإن إفساح المجال أمام التيار الإخواني في المملكة بالعمل سوف يخلق مشكلة أخرى قد تهدّد النظام في حال نجح التيار في الانتشار.. فهذا التيار له مشروعه الخاص به، وبرنامجه الخاص به، وحلمه المستقل في إقامة دولة الخلافة.

في الواقع، كانت الطائفية الدينية تشكّل حينذاك خطراً على النظام نفسه، بسبب تموقعها سياسياً.. نلحظ ذلك بوضوح مع تصاعد تيار السلفية الجهادية المتمثل في القاعدة، والمشتق من تيار الصحوة الذي انبثق في مطلع التسعينيات من القرن الماضي. إذ ما إن بدأت موجة العنف تضرب المملكة السعودية في 12 مايو 2003، تصاعدت الأصوات المطالبة بمجابهة الفتاوى المؤيّدة للعمليات الإنتحارية، مع تزايد أعداد المجنّدين في عمليات مسلّحة في العراق. وشهدت البلاد حملات متبادلة بين كبار العلماء ومشايخ التنظيمات الجهادية استعمل فيها الطرفان كل أنواع الفتوى تقريباً، ووصلت إلى حد صدور فتاوى بالتكفير ضد إبن باز وابن عثيمين، بسبب وقوفهما مع السلطة. 

وفي ظل تصاعدة موجة العنف، ولجوء الحكومة الى العلماء لتعزيز الجبهة الدينية للدولة، انتقد عناصر الجماعات الجهادية تصريحات المفتى العام الحالي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ بتجريم من نزع الطاعة من الحكومة السعودية، ووصفه آل سعود بأنهم (سعوا في إصلاح الأمة والدفاع عنها). وكان واضحاً الجرعة الدينية العالية في التصريحات السياسية للعلماء، فقد ذكر المفتي في تصريح له في 25 يونيو 2003 ما نصّه: (من أحدث حدثاً في البلاد لا يجوز التستّر عليه، بل يجب الإبلاغ عنه ورفع أمره مباشرة إلى ولي الأمر بما يتوافق والشريعة الإسلامية). كما اعتبرت هيئة كبار العلماء التفجيرات بأنها (كبيرة من كبائر الذنوب العظام)، وقال الشيخ أسامة عبد الله خياط، إمام وخطيب المسجد الحرام، في 12 يونيو 2003 بأن التفجيرات (عمل إرهابي يأباه الله ورسوله وصالح المؤمنين)، فيما قال الشيخ عبد الباري الثبيتي، إمام وخطيب المسجد النبوي، بأنها (كبيرة من الكبائر ليس لها ما يبرّرها لا شرعاً ولا عقلاً)، وحذر (من الغلو الاعتقادي).

وفي رد فعل على الإنقسام الحاد الذي حصل في المجتمع السلفي، بتأثير من ظاهرة الجماعات المسلّحة التي حظيت بشعبية لافتة، أعلنت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية في 27 مايو 2003م طي قيد وإعادة تأهيل 1710 من الأئمة والخطباء والمؤذّنين في المساجد في مناطق مختلفة من السعودية. وقال الوزارة بأنها تلقّت توصيات رسمية بطي قيد 353 شخصاً من العاملين في المساجد هم 44 خطيب جمعة و160 إمام مسجد و149 مؤذناً، وذلك بعد التأكد من عدم صلاحيتهم للعمل في المساجد، في حين ألحقت بدورات شرعية 517 إماماً و950 خطيباً و750 مؤذناً. 

في هذا السياق المتوتّر انبرى الشيخ سفر الحوالي، أحد أبرز رموز الظاهرة الصحوية في السعودية منذ التسعينيات من القرن الماضي، وألمح في مقابلة تلفزيونية إلى وقوع الدولة في مطب الكفر وطالبها بأن (تلغي كل القوانين الوضعية، وتتحاكم فعلاً إلى الشريعة، وتعدِّل نظام القضاء، وتلغي المعاهدات والولاءات غير الشرعية، وتزيل المنكرات التي تستفز هؤلاء، وتمنع الكُتَّاب الذين يكتبون بعض الكلام الذي فيه إلحاد وسخرية بالدين في الإعلام وغيره).

لقد ترافق صعود الخطاب الطائفي مع تنامي ظاهرة السلفية الجهادية، وهذا ما لا يمكن للدولة تحمّله. كان سقوط النظام العراقي السابق بقيادة صدام حسين قد فجّر مخاوف لدى النظام السعودي لجهة حصول ايران على كعكة جاهزة في العراق، فيما كانت السعودية تعيش هواجسها ومشكلاتها الداخلية..

أفاد التيار السلفي الجهادي ومتوالياته من الخطاب الطائفي بعد سقوط النظام العراقي السابق لجهة تجنيد المقاتلين والانخراط في أتون الحرب الاهلية في العراق.. ويذكر بعض العائدين من العراق كيف أنهم في ظل تصاعد الخطاب الطائفي، كانت فكرة الجهاد تروج وتغري الشباب لجهة تنفيذ عمليات انتحارية وسط الخصوم المذهبيين في العراق..

ولكن في المقابل، كانت الافكار الجهادية لا تخلو من ارتدادات على الداخل السعودي. فقد ظهر من اعترافات شيوخ السلفية الجهادية الذين تمّ توقيفهم أو اعتقالهم كيف أن أفكار الجهاد بحد ذاتها ساهمت في توصيم الدولة السعودية ونعتها بالكافرة، وبالتالي شرعنة الأعمال القتالية ضدها.. 

في عهد الملك فيصل، كان الخطاب الطائفي حاضراً بقوة، من خلال التأكيد على واحدية المذهب الوهابي وهيمنته ومنع أتباع المذاهب الأخرى من تظهير مذاهبهم ثقافياً واجتماعياً ومؤسساتيا. وقد حكم على أحد رجال الدين الشيعة بالاعدام لتأليفه كتاباً يثبت فيه إيمان أبي طاالب، عمّ النبي صلى  الله عليه وسلم، لولا تدخّل شاه ايران السابق. كما واصلت السلطات الدينية السعودية مجهودها خلال عهد الملك فيصل في محاربة مشروع التقريب بين المذاهب وتحوّل ذلك الى مكوّن في الصراع بين مشروعين: الإسلامي والقومي..

ولكن في المقابل، كان فيصل والملوك السعوديون من بعده يخشون من تنامي قوة العلماء الى الحد الذي يهدد أو يقوّض سلطانهم. فقد حدّ الملك فيصل من سلطة المفتي الشيخ محمد بن ابراهيم وواصل ذلك بعد موته، واستعان بشيوخ الاخوان المسلمين الذين لجأوا الى السعودية هرباً من نظام عبد الناصر، وطلب منهم صوغ فتاوى تناسب مشروع تحديث الدولة ومؤسساتها.

الملك فهد فعل الشيء ذاته، وقد لعب دوراً محورياً في إحياء العقيدة الوهابية المتطرّفة لمواجهة ايران الثورة. وقد ترافقت عملية الاحياء مع حملة طائفية غير مسبوقة من خلال تعميم خطاب طائفي استفزازي من أجل مقاومة المد الثوري الايراني. عملية الاحياء كانت مسؤولة عن نشوء تيار سلفي صحوي فاعل في التسعينيات وهو الذي أفرز لاحقاً ظاهرة القاعدة ومتوالياتها.

كان النظام قادراً في مرّات عديدة تطويع التيار الديني السلفي بكل اشتقاقاته، ولكن قد يشب أحياناً عن الطوق ويخرج عن نطاق السيطرة، كما حصل في بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي حين انفجر التيار الصحوي وراح يكيل الانتقادات اللاذعة للنظام السعودي لإخفاقه في الاعتناق الأمين والمطلق للوهابية. تكرّر المشهد ثانياً في الربيع العربي كما ظهر من خلال كتابات رموز التيار الصحوي مثل سلمان العودة وسفر الحوالي..

وقد لحظنا كيف أن أحد صقور الخطاب المذهبي، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، الاستاذ السابق بقسم العقيدة بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، أفتى بردّة كاتبين محليين في ردّه على مقالاتهما، وأفتى بوجوب قتلهما في حال رفضا التوبة.. وصدر بيان من واحد وعشرين رجل دين واستاذ جامعي في كليات الشريعة والعقيدة في تأييد فتوى البراك..

فتاوى أخرى مماثلة صدرت في تلك الفترة عن شخصيات دينية رفيعة مثل الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، وعضو هيئة كبار العلماء حالياً، ما يكشف عن أن الخطاب الطائفي ينطوي على آثار مدمّرة على الدولة نفسها، لأن هذا الخطاب ينتج من خلال مؤسسات الدولة، ويفرض حضوراً واسعاً لرجال الدين، الأمر الذي يجعلهم قادرين على توظيف الدولة نفسها لمصالحهم وتمرير مواقفهم المتشدّدة في قضايا اجتماعية وثقافية واعلامية خصوصاً المتعلقة بالمرأة أو الاقليات..

في عهد الملك عبد الله، لم تظهر الطائفية في بعدها الديني، بل كانت طائفية سياسية، تستهدف مواجهة خصوم السعودية خصوصاً ايران والعراق وسوريا وحزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن.  فبالرغم من غياب السعودية في مضمار الدفاع عن القضية الفلسطينية، الا أن التيار السلفي وبخلفية طائفية واضحة وفي رد فعل على دخول ايران على الخط، سعى لتسجيل حضور في الميدان الفلسطيني. ففي 21 يناير 2009 صدر بيان عن ما يزيد عن أربعين رجل دين وداعية من التيار السلفي من بينهم الشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ ناصر العمر وآخرين اجتمعوا في مكة المكرمة لمناقشة الأوضاع في غزة، جاء فيه (لا خيار للأمة في مواجهة العدوان الصهيوني اليهودي إلا بالجهاد في سبيل الله، دفاعاً عن الدين والنفس والعرض والمال)، ونصّ البيان على فتوى (بتحريم مبادرات السلام التي تتضمن الإعتراف بحق اليهود في أرض فلسطين، وتطبيع العلاقات معهم). البيان عارض فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي عام المملكة السابق، في جواز السلام مع اسرائيل.

نقرأ في انتقادات مشايخ الصحوة لعهد الملك عبد الله ما يؤكد على خصومة الملك عبد الله مع الطائفية الدينية.

وكانت قناة (روتانا خليجية) قد بثّت عصر يوم الاثنين 29 يونيو الماضي حلقة جديدة من برنامج (في الصميم) وهو عبارة عن لقاء أجراه عبد الله المديفر مع محسن العواجي، وقال: إنه «راضٍ عن القيادة الحالية»، وأوضح: «ولا أعتقد أنني في حياتي رضيت، مثل ما رضيت في وضع القيادة الحالية»، ولكنه استدرك قائلًاً: «سجناء الرأي ما كان لهم أن يسجنوا فضلاً عن أن يبقوا إلى الآن». في إشارة لأزمة السجناء السياسيين الذين قدّرهم الدكتور محمد القحطاني وناشطين حقوقيين آخرين بنحو ثلاثين ألف سجين رأي.

وفي إجابته عن سؤال حول سبب الرضا، قال العواجي بأنه تم «استدراك» الأوضاع في المنطقة نتيجة أخطاء العهد السابق، وإن عصر «المجاملات» انتهى، وإن الزعم بأن «البلاء من البطانة ولا طويل العمر ما قصّر، هذه انتهت الآن»، وختم: «طويل العمر مسؤول عن كل صغيرة وكبيرة في الدولة». وأضاف: «الذين جاملوا الملك عبد الله في وقته، الآن هو في قبره لوحده يواجه كل هذه القضايا بينه وبين الله عزوجل»، وواصل: «لن ينفعه وزير الإعلام ولا المتملّق والمتزلف». 

وفي موقف بدا التزلّف فيه واضحاً، قال العواجي «إن القيادة الحالية ستبذل قصارى جهدها في «تصحيح الأخطاء القاتلة» التي كانت خلال عهد الملك الراحل، وأضاف أن الملك وولي العهد وولي ولي العهد وجميع المواطنين السعوديين «يعلمون أننا عشنا معاناة العهد الماضي، ولكن الكل يجامل». وفي سؤال عن طبيعة المعاناة التي يقصدها العواجي ذكر من بينها تعهّدات أخذتها السلطات السعودية على من أسماهم «الدعاة» أن لا يتحدثوا ضد «الحوثيين»، في الوقت الذي كان فيه «الحوثيون» ينتشرون في اليمن.

ونال العواجي من مدير مكتب الملك عبد الله ومستشاره الخاص، خالد التويجري الذي قال وضعه ضمن قائمة الذين «يستنفذون أموالنا من الخزينة»، ومعه مساعد رئيس الديوان الملكي «فهد العسكر»،  وعباس كامل، رئيس مكتب الرئيس عبد الفتاح السيسي، بناء على تسريبات الاتصالات بين الثلاثة والمساعدات السعودية التي قدّمها الملك عبد الله الى السيسي.

من جهة ثانية، وجّه الشيخ الصحوي المتشدد ناصر العمر في لقاء تلفزيوني آواخر يونيو الماضي انتقاداً لسياسات الملك عبد الله ووقوع مخالفات شرعية كبرى ومخالفته لهيئة كبار العلماء. وفي جوابه حول دخول المرأة في الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في ذي القعدة المقبل، وقال بأن «في الزمن الماضي ـ أي عهد الملك عبد الله ـ مع كل أسف فيه اندفاع لاقحام المرأة في كل شيء: في مجلس الشورى، وفي الجامعات وغيرها؛ وهذا أمر خطير جداً وله آثاره.. ولذلك ولخطورة الأمر، أتوجه الى مقام خادم الحرمين الشريفين ـ سلمان، والذي عرف بتقريب العلماء؛ ومن أول عهده بدأ مع العلماء ويرجع اليهم، ويقول لا أخرج عن رأيكم.. أن يعاد الأمر الى هيئة كبار العلماء ..لأن في الماضي ما كان يؤخذ برأي هيئة كبار العلماء. يؤخذ إذا وافق رأيهم. إذا لم يوافق رأيهم…)، ثم تلى الايات المباركات من سورة النور (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون (50) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)…).

ثم علّق قائلاً: «وأنا أقول نأمل، وسمعت هذا من عدد من العلماء يريد أن يحيل هذا الموضوع الى هيئة كبار العلماء، وهم محلة ثقته، هم الذين عيّنوهم وهم محل الثقة والحمد لله فيحال الى هيئة كبار العلماء ليبت في الموضوع برأي شرعي واضح ونحن نقبل بهذا الموضوع ونقبل بما تتوصل اليه الهيئة في هذا المجال».

من الواضح، وبناء على ما سبق، فإن الانتقادات التي وجّهها التيار الصحوي لعهد الملك عبد الله، تعود الى أن الطائفيين لم يفرغوا كل جهدهم الطائفي، بل وجدوا بأن ثمة طائفية سياسية موجّهة يراد استخدامها، ولذلك أمكن القول بأن عهد الملك عبد الله كان مليئاً بالطائفيين، ولكن بدون طائفية دينية، بل إن جزءاً كبيراً من المخزون الطائفي الذي جرى إفراغه كان محمولاً علىى مشروع سياسي وشعارات سياسية..

الطائفية في عهد الملك سلمان (2005 ـ ...)، تشبه الى حد كبير بالطائفية في عهد الملك فهد (1982 ـ 2005)، باستثناء أن الطائفية في عهد الاخير كانت تأسيسية، ولكن ثمة مشترك بينهما في الزخم. ويمكن المجادلة الى حد ما، أن الطائفية السديرية كانت دائماً ذات طابع ديني، فحتى الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية وولي العهد الأسبق كان يميل الى هذا الشكل من الطائفية، في سياق استرضاء العلماء، وقمع المعارضة الشيعية في المملكة ومحاربة إيران..

وجوه الشبه بين عهد فهد وعهد سلمان تبدو كثيرة، إلى حد يمكن إدراجهما في سياق تاريخي واحد. فقد فتح فهد أمام رجال الدين لأن ينشطوا في العمل الدعوي داخلياً وخارجياً، وخصّص 80 مليار دولار من أجل نشر الوهابية، ومليار دولار من مداخيل النفط سنوياً كان يذهب لدعم نشاطات المؤسسة الوهابية في الخارج.. لم يكن الغرض نشر القيم الدينية وفق التفسير الوهابي، بقدر ما كان مواجهة نوع الاسلام الاحتجاجي الذي بدأ ينتشر في العالم بعد انتصار الثورة الإيرانية.

الملك عبدالله: طائفية ناقصة لم ترضِ المشايخ

كان عهد فهد يتّسم بالتشدّد الديني والأمني معاً، وقد أفاد من خبرته الأمنية حيث تولى منصب وزير الداخلية في أحلك فترات تاريخ المملكة السعودية، أي عهد الملك فيصل، ونجح في قمع المخالفين السياسيين والمذهبيين عبر توظيف سلاح الفتوى الدينية (الإفساد في الأرض)، و(الخروج على ولي الأمر)..ثم دفع التيار السلفي ثمن انخراطه في حرب السلطة ضد باقي المكونات الاجتماعية والسياسية. وبنفس أدوات قمع الاخوان التي استخدمها عبد العزيز ضدهم من أجل تعزيز أركان سلطانه، فقد قضى فهد على التيار الصحوي في التسعينيات من القرن الماضي، وإن انتقلت أفكارهم الاعتراضية في السلفية الجهادية الى فئات القاعدة.

لم يشهد عهد الملك عبد الله مواجهات عنيفة بين الدولة والتيار السلفي، وإن بقت العلاقة فاترة وموتورة ولكن منضبطة الى حد كبير. كان الخطاب الطائفي حاضراً في الاعلام، وفي خطب المساجد، وفي الصحافة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي.. ولكن من الصعب توصيف المرحلة بأنها طائفية بالمعنى الديني.

في عهد سلمان، بدت ملامح الطائفية تبرز دينياً منذ الأيام الأولى، فقد قرّب سلمان التيار الديني ورفع القيود المفروضة على نشاطه، خصوصاً المنع من السفر، ومزاولة النشاط الدعوي محلياً وخارجياً.

الصحافية الأميركية كاريل مورفي كتبت مقالاً في 25 فبراير 2015 في مجلة (فورين بوليسي) لامست فيه نقاطاً حساسة وتناسب ما نحن بصدده. ترى مورفي بأن سلمان تحرّك بشكل سريع منذ وصوله الى العرش لجهة إظهار أن حكمه سيكون مختلفا عن حكم سلفه، وأثارت تحركاته المخاوف لدى بعض السعوديين بشأن الوجهة الجديدة للملك خاصة في تحوله بشكل أكبر نحو المؤسسة الدينية الوهابية، بالإضافة إلى السلطات الواسعة التي منحها لنجله الأمير محمد بن سلمان.

وتخلص مورفي من خلال لقاءاتها مع حوالي 24 سعودياً من أطياف اجتماعية وسياسية متنوعة بالمملكة - رفض كثير منهم الإفصاح عن هويته لحساسية مناقشة سياسات العائلة المالكة - كانت النغمة السائدة والمتكررة خلال الحوارات متمثلة في أن سلمان ربما يُعيد إحياء نظام حكم فهد. وتصف مورفي الأخير بأنه كان استبدادياً، واعتمد على علاقته الوثيقة مع الولايات المتحدة، فضلا عن ممارسة الرقابة الاجتماعية مُتمثلة في الشرطة الدينية.

على المنوال نفسه، عرف عن سلمان قربه من المشايخ المحافظين أكثر من سلفه، عبد الله، حيث وهب سلمان سلطات واسعة لرجال الدين، وبالغ في علاقته معهم الى حد سمح بنشوء شبكة من المدارس الدينية الإضافية، فيما كانت تطلعات مشايخ الوهابية تصل الى حد إعادة انتاج نموذج الدولة السعودية الأولى، بحسب المناشدات الواردة في (مذكرة النصيحة) التي رفعها مشايخ الصحوة في عام 1992.

طائفية سلمان ليست بدون أثمان على الصعيدين المحلي والخارجي. وشأن طائفية فهد التي كانت مسؤولة عن ظواهر التطرف والإرهاب الديني بقيادة المدرسة الوهابية، فإن طائفية سلمان سوف تؤول الى النتيجة نفسها. في الداخل، تبدو النتيجة محسومة، فالطائفية الدينية تواصل تفتيت المجتمع المحلي، وتؤكد فشل الدولة الوطنية واستحالة انتاج هوية وطنية، فيما يجنح التيار الديني الوهابي بكل متوالياته الى المصادمة مع كل من يختلف معه. 

ما يجدر الالتفات إليه، أن الطائفية الدينية تغذي حالياً النزعات الارهابية لدى تنظيمات سلفية متطرّفة مثل داعش، فهو يستفيد من المناخ الطائفي الموغل في الغرائزية، لجهة تشجيع أفراد التنظيم على القيام بأعمال قتالية بدعوى الامتثال لإملاءات دينية خالصة.

لاشك أن التيار الديني السلفي عموماً يميل الى نموذج فهد، رغم معاناة فرعه الصحوي من سياساته القمعية في التسعينيات. يعتقد الوهابيون بأن إعادة إحياء نموذج فهد، وسير سلمان على السياسة نفسها يعيد لهم جزءاً مهماً من السلطة التي فقدوها في أزمنة غابرة وكذلك في عهد الملك عبد الله. 

في المقلب الآخر، يشعر التيار الليبرالي بالحزن، لأنه يعيش حالة اضطراب غير مسبوقة، فرغم انغماس بعض أفراده في (الطائفية السياسية) في عهد عبد الله، إلا أنه يشعر اليوم في ظل سلمان بأنه سوف يصبح أحد ضحايا (الطائفية الدينية)، لأنها سوف تكون على حسابه. الملاحظة التي ساقها بعض الليبراليين في عهد فهد بأنه شجّع التحديث وأهمل عن عمد الحداثة في أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية، فإن سلمان يحاول تكرار التجربة مرة أخرى، وسوف يفقد الليبراليون الرهان الذي وضعوه على عبد الله، ولكن لم يتح له استكمال مشروعه.

الطائفية الدينية لدى سلمان تستوعب كل المكوّنات بما في ذلك المرأة، فالتشدّد الديني الوهابي إزاء الأخيرة تبقيها كائناً مقهوراً، ولا يتوقّع من سلمان أن يقدم على خطوات لافتة، فهو الخيار المفضّل للتيار الديني المتشدّد، ولكنه كابوس بالنسبة لأغلب المكونات الاخرى.

في الاسبوع الثاني من توليه العرش، دعا سلمان المشايخ وكبار علماءفي ثمانينات القرن الماضي، شهدت السعودية انفجاراً طائفياً غير مسبوق، بدأ بحملة إحياء للوهابية على نطاق واسع، وتكفّل الملك فهد برعاية تلك الحملة لجهة التصدي لتيار الثورة الاسلامية الايرانية الذي كان يكتسح المنطقة.

حملة الاحياء تلك جاءت كرد فعل على الخطاب الثوري، الشيعي على وجه التحديد، فرفعت منسوب الطائفية الى مستويات عالية جداً. كانت الأدبيات المذهبية التي طبعت خلال تلك المرحلة بأموال سعودية تشي بقلق لدى الحكّام السعوديين من تداعيات الخطاب الثوري العابر للمذاهب والدول، فكانت الطائفية في بعدها الثقافي/ العقدي أداة لتحصين القاعدة الشعبية للنظام، وإعادة إخضاع للجماعات الأخرى. وكانت القاعدة المتبّعة: أن وحدة السلطة تتوقف على قسمة المجتمع. فكان النظام بحاجة الى خطاب يشدّ عصب مركز السلطة، حتى لو أفضى ذلك الخطاب الى تعميق الانقسام في المجتمع على خلفية مذهبية.

بقيت الطائفية تعمل في مراحل لاحقة ولكن بوتيرة أقل، وبأشكال أخرى، مثل الطائفية الاقتصادية والادارية، فسياسات التمييز الطائفي التي رافقت الدولة منذ نشأتها كانت مدعومة بمبررات ثقافية ودينية وسياسية وهي في جوهرها مبررات طائفية أيضاً، وإن لم يعبّر عنها..

الطائفية في عهد الملك عبد الله (2005 ـ 2015) كانت سياسية وتستهدف تغطية نزاعات الدولة السعودية مع الخارج مثل ايران والعراق وتالياً سوريا، فيما كان البعد الديني مخفّضاً، فلم يسمح للتيار الديني السلفي، خصوصاً التيار المقرّب من الإخوان المسلمين، بالإفادة من الطائفية السياسية للتمدّد إجتماعياً وإعلامياً وسياسياً. النظام كانت لديه مشكلة مع جماعة الاخوان المسلمين، وإن إفساح المجال أمام التيار الإخواني في المملكة بالعمل سوف يخلق مشكلة أخرى قد تهدّد النظام في حال نجح التيار في الانتشار.. فهذا التيار له مشروعه الخاص به، وبرنامجه الخاص به، وحلمه المستقل في إقامة دولة الخلافة.

في الواقع، كانت الطائفية الدينية تشكّل حينذاك خطراً على النظام نفسه، بسبب تموقعها سياسياً.. نلحظ ذلك بوضوح مع تصاعد تيار السلفية الجهادية المتمثل في القاعدة، والمشتق من تيار الصحوة الذي انبثق في مطلع التسعينيات من القرن الماضي. إذ ما إن بدأت موجة العنف تضرب المملكة السعودية في 12 مايو 2003، تصاعدت الأصوات المطالبة بمجابهة الفتاوى المؤيّدة للعمليات الإنتحارية، مع تزايد أعداد المجنّدين في عمليات مسلّحة في العراق. وشهدت البلاد حملات متبادلة بين كبار العلماء ومشايخ التنظيمات الجهادية استعمل فيها الطرفان كل أنواع الفتوى تقريباً، ووصلت إلى حد صدور فتاوى بالتكفير ضد إبن باز وابن عثيمين، بسبب وقوفهما مع السلطة. 

وفي ظل تصاعدة موجة العنف، ولجوء الحكومة الى العلماء لتعزيز الجبهة الدينية للدولة، انتقد عناصر الجماعات الجهادية تصريحات المفتى العام الحالي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ بتجريم من نزع الطاعة من الحكومة السعودية، ووصفه آل سعود بأنهم (سعوا في إصلاح الأمة والدفاع عنها). وكان واضحاً الجرعة الدينية العالية في التصريحات السياسية للعلماء، فقد ذكر المفتي في تصريح له في 25 يونيو 2003 ما نصّه: (من أحدث حدثاً في البلاد لا يجوز التستّر عليه، بل يجب الإبلاغ عنه ورفع أمره مباشرة إلى ولي الأمر بما يتوافق والشريعة الإسلامية). كما اعتبرت هيئة كبار العلماء التفجيرات بأنها (كبيرة من كبائر الذنوب العظام)، وقال الشيخ أسامة عبد الله خياط، إمام وخطيب المسجد الحرام، في 12 يونيو 2003 بأن التفجيرات (عمل إرهابي يأباه الله ورسوله وصالح المؤمنين)، فيما قال الشيخ عبد الباري الثبيتي، إمام وخطيب المسجد النبوي، بأنها (كبيرة من الكبائر ليس لها ما يبرّرها لا شرعاً ولا عقلاً)، وحذر (من الغلو الاعتقادي).

وفي رد فعل على الإنقسام الحاد الذي حصل في المجتمع السلفي، بتأثير من ظاهرة الجماعات المسلّحة التي حظيت بشعبية لافتة، أعلنت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية في 27 مايو 2003م طي قيد وإعادة تأهيل 1710 من الأئمة والخطباء والمؤذّنين في المساجد في مناطق مختلفة من السعودية. وقال الوزارة بأنها تلقّت توصيات رسمية بطي قيد 353 شخصاً من العاملين في المساجد هم 44 خطيب جمعة و160 إمام مسجد و149 مؤذناً، وذلك بعد التأكد من عدم صلاحيتهم للعمل في المساجد، في حين ألحقت بدورات شرعية 517 إماماً و950 خطيباً و750 مؤذناً. 

في هذا السياق المتوتّر انبرى الشيخ سفر الحوالي، أحد أبرز رموز الظاهرة الصحوية في السعودية منذ التسعينيات من القرن الماضي، وألمح في مقابلة تلفزيونية إلى وقوع الدولة في مطب الكفر وطالبها بأن (تلغي كل القوانين الوضعية، وتتحاكم فعلاً إلى الشريعة، وتعدِّل نظام القضاء، وتلغي المعاهدات والولاءات غير الشرعية، وتزيل المنكرات التي تستفز هؤلاء، وتمنع الكُتَّاب الذين يكتبون بعض الكلام الذي فيه إلحاد وسخرية بالدين في الإعلام وغيره).

لقد ترافق صعود الخطاب الطائفي مع تنامي ظاهرة السلفية الجهادية، وهذا ما لا يمكن للدولة تحمّله. كان سقوط النظام العراقي السابق بقيادة صدام حسين قد فجّر مخاوف لدى النظام السعودي لجهة حصول ايران على كعكة جاهزة في العراق، فيما كانت السعودية تعيش هواجسها ومشكلاتها الداخلية..

أفاد التيار السلفي الجهادي ومتوالياته من الخطاب الطائفي بعد سقوط النظام العراقي السابق لجهة تجنيد المقاتلين والانخراط في أتون الحرب الاهلية في العراق.. ويذكر بعض العائدين من العراق كيف أنهم في ظل تصاعد الخطاب الطائفي، كانت فكرة الجهاد تروج وتغري الشباب لجهة تنفيذ عمليات انتحارية وسط الخصوم المذهبيين في العراق..

ولكن في المقابل، كانت الافكار الجهادية لا تخلو من ارتدادات على الداخل السعودي. فقد ظهر من اعترافات شيوخ السلفية الجهادية الذين تمّ توقيفهم أو اعتقالهم كيف أن أفكار الجهاد بحد ذاتها ساهمت في توصيم الدولة السعودية ونعتها بالكافرة، وبالتالي شرعنة الأعمال القتالية ضدها.. 

في عهد الملك فيصل، كان الخطاب الطائفي حاضراً بقوة، من خلال التأكيد على واحدية المذهب الوهابي وهيمنته ومنع أتباع المذاهب الأخرى من تظهير مذاهبهم ثقافياً واجتماعياً ومؤسساتيا. وقد حكم على أحد رجال الدين الشيعة بالاعدام لتأليفه كتاباً يثبت فيه إيمان أبي طاالب، عمّ النبي صلى  الله عليه وسلم، لولا تدخّل شاه ايران السابق. كما واصلت السلطات الدينية السعودية مجهودها خلال عهد الملك فيصل في محاربة مشروع التقريب بين المذاهب وتحوّل ذلك الى مكوّن في الصراع بين مشروعين: الإسلامي والقومي..

ولكن في المقابل، كان فيصل والملوك السعوديون من بعده يخشون من تنامي قوة العلماء الى الحد الذي يهدد أو يقوّض سلطانهم. فقد حدّ الملك فيصل من سلطة المفتي الشيخ محمد بن ابراهيم وواصل ذلك بعد موته، واستعان بشيوخ الاخوان المسلمين الذين لجأوا الى السعودية هرباً من نظام عبد الناصر، وطلب منهم صوغ فتاوى تناسب مشروع تحديث الدولة ومؤسساتها.

الملك فهد فعل الشيء ذاته، وقد لعب دوراً محورياً في إحياء العقيدة الوهابية المتطرّفة لمواجهة ايران الثورة. وقد ترافقت عملية الاحياء مع حملة طائفية غير مسبوقة من خلال تعميم خطاب طائفي استفزازي من أجل مقاومة المد الثوري الايراني. عملية الاحياء كانت مسؤولة عن نشوء تيار سلفي صحوي فاعل في التسعينيات وهو الذي أفرز لاحقاً ظاهرة القاعدة ومتوالياتها.

كان النظام قادراً في مرّات عديدة تطويع التيار الديني السلفي بكل اشتقاقاته، ولكن قد يشب أحياناً عن الطوق ويخرج عن نطاق السيطرة، كما حصل في بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي حين انفجر التيار الصحوي وراح يكيل الانتقادات اللاذعة للنظام السعودي لإخفاقه في الاعتناق الأمين والمطلق للوهابية. تكرّر المشهد ثانياً في الربيع العربي كما ظهر من خلال كتابات رموز التيار الصحوي مثل سلمان العودة وسفر الحوالي..

وقد لحظنا كيف أن أحد صقور الخطاب المذهبي، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، الاستاذ السابق بقسم العقيدة بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، أفتى بردّة كاتبين محليين في ردّه على مقالاتهما، وأفتى بوجوب قتلهما في حال رفضا التوبة.. وصدر بيان من واحد وعشرين رجل دين واستاذ جامعي في كليات الشريعة والعقيدة في تأييد فتوى البراك..

فتاوى أخرى مماثلة صدرت في تلك الفترة عن شخصيات دينية رفيعة مثل الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، وعضو هيئة كبار العلماء حالياً، ما يكشف عن أن الخطاب الطائفي ينطوي على آثار مدمّرة على الدولة نفسها، لأن هذا الخطاب ينتج من خلال مؤسسات الدولة، ويفرض حضوراً واسعاً لرجال الدين، الأمر الذي يجعلهم قادرين على توظيف الدولة نفسها لمصالحهم وتمرير مواقفهم المتشدّدة في قضايا اجتماعية وثقافية واعلامية خصوصاً المتعلقة بالمرأة أو الاقليات..

السديريون.. مأسسة الطائفية

في عهد الملك عبد الله، لم تظهر الطائفية في بعدها الديني، بل كانت طائفية سياسية، تستهدف مواجهة خصوم السعودية خصوصاً ايران والعراق وسوريا وحزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن.  فبالرغم من غياب السعودية في مضمار الدفاع عن القضية الفلسطينية، الا أن التيار السلفي وبخلفية طائفية واضحة وفي رد فعل على دخول ايران على الخط، سعى لتسجيل حضور في الميدان الفلسطيني. ففي 21 يناير 2009 صدر بيان عن ما يزيد عن أربعين رجل دين وداعية من التيار السلفي من بينهم الشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ ناصر العمر وآخرين اجتمعوا في مكة المكرمة لمناقشة الأوضاع في غزة، جاء فيه (لا خيار للأمة في مواجهة العدوان الصهيوني اليهودي إلا بالجهاد في سبيل الله، دفاعاً عن الدين والنفس والعرض والمال)، ونصّ البيان على فتوى (بتحريم مبادرات السلام التي تتضمن الإعتراف بحق اليهود في أرض فلسطين، وتطبيع العلاقات معهم). البيان عارض فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي عام المملكة السابق، في جواز السلام مع اسرائيل.

نقرأ في انتقادات مشايخ الصحوة لعهد الملك عبد الله ما يؤكد على خصومة الملك عبد الله مع الطائفية الدينية.

وكانت قناة (روتانا خليجية) قد بثّت عصر يوم الاثنين 29 يونيو الماضي حلقة جديدة من برنامج (في الصميم) وهو عبارة عن لقاء أجراه عبد الله المديفر مع محسن العواجي، وقال: إنه «راضٍ عن القيادة الحالية»، وأوضح: «ولا أعتقد أنني في حياتي رضيت، مثل ما رضيت في وضع القيادة الحالية»، ولكنه استدرك قائلًاً: «سجناء الرأي ما كان لهم أن يسجنوا فضلاً عن أن يبقوا إلى الآن». في إشارة لأزمة السجناء السياسيين الذين قدّرهم الدكتور محمد القحطاني وناشطين حقوقيين آخرين بنحو ثلاثين ألف سجين رأي.

وفي إجابته عن سؤال حول سبب الرضا، قال العواجي بأنه تم «استدراك» الأوضاع في المنطقة نتيجة أخطاء العهد السابق، وإن عصر «المجاملات» انتهى، وإن الزعم بأن «البلاء من البطانة ولا طويل العمر ما قصّر، هذه انتهت الآن»، وختم: «طويل العمر مسؤول عن كل صغيرة وكبيرة في الدولة». وأضاف: «الذين جاملوا الملك عبد الله في وقته، الآن هو في قبره لوحده يواجه كل هذه القضايا بينه وبين الله عزوجل»، وواصل: «لن ينفعه وزير الإعلام ولا المتملّق والمتزلف». 

وفي موقف بدا التزلّف فيه واضحاً، قال العواجي «إن القيادة الحالية ستبذل قصارى جهدها في «تصحيح الأخطاء القاتلة» التي كانت خلال عهد الملك الراحل، وأضاف أن الملك وولي العهد وولي ولي العهد وجميع المواطنين السعوديين «يعلمون أننا عشنا معاناة العهد الماضي، ولكن الكل يجامل». وفي سؤال عن طبيعة المعاناة التي يقصدها العواجي ذكر من بينها تعهّدات أخذتها السلطات السعودية على من أسماهم «الدعاة» أن لا يتحدثوا ضد «الحوثيين»، في الوقت الذي كان فيه «الحوثيون» ينتشرون في اليمن.

ونال العواجي من مدير مكتب الملك عبد الله ومستشاره الخاص، خالد التويجري الذي قال وضعه ضمن قائمة الذين «يستنفذون أموالنا من الخزينة»، ومعه مساعد رئيس الديوان الملكي «فهد العسكر»،  وعباس كامل، رئيس مكتب الرئيس عبد الفتاح السيسي، بناء على تسريبات الاتصالات بين الثلاثة والمساعدات السعودية التي قدّمها الملك عبد الله الى السيسي.

من جهة ثانية، وجّه الشيخ الصحوي المتشدد ناصر العمر في لقاء تلفزيوني آواخر يونيو الماضي انتقاداً لسياسات الملك عبد الله ووقوع مخالفات شرعية كبرى ومخالفته لهيئة كبار العلماء. وفي جوابه حول دخول المرأة في الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في ذي القعدة المقبل، وقال بأن «في الزمن الماضي ـ أي عهد الملك عبد الله ـ مع كل أسف فيه اندفاع لاقحام المرأة في كل شيء: في مجلس الشورى، وفي الجامعات وغيرها؛ وهذا أمر خطير جداً وله آثاره.. ولذلك ولخطورة الأمر، أتوجه الى مقام خادم الحرمين الشريفين ـ سلمان، والذي عرف بتقريب العلماء؛ ومن أول عهده بدأ مع العلماء ويرجع اليهم، ويقول لا أخرج عن رأيكم.. أن يعاد الأمر الى هيئة كبار العلماء ..لأن في الماضي ما كان يؤخذ برأي هيئة كبار العلماء. يؤخذ إذا وافق رأيهم. إذا لم يوافق رأيهم…)، ثم تلى الايات المباركات من سورة النور (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون (50) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)…).

ثم علّق قائلاً: «وأنا أقول نأمل، وسمعت هذا من عدد من العلماء يريد أن يحيل هذا الموضوع الى هيئة كبار العلماء، وهم محلة ثقته، هم الذين عيّنوهم وهم محل الثقة والحمد لله فيحال الى هيئة كبار العلماء ليبت في الموضوع برأي شرعي واضح ونحن نقبل بهذا الموضوع ونقبل بما تتوصل اليه الهيئة في هذا المجال».

من الواضح، وبناء على ما سبق، فإن الانتقادات التي وجّهها التيار الصحوي لعهد الملك عبد الله، تعود الى أن الطائفيين لم يفرغوا كل جهدهم الطائفي، بل وجدوا بأن ثمة طائفية سياسية موجّهة يراد استخدامها، ولذلك أمكن القول بأن عهد الملك عبد الله كان مليئاً بالطائفيين، ولكن بدون طائفية دينية، بل إن جزءاً كبيراً من المخزون الطائفي الذي جرى إفراغه كان محمولاً علىى مشروع سياسي وشعارات سياسية..

الطائفية في عهد الملك سلمان (2005 ـ ...)، تشبه الى حد كبير بالطائفية في عهد الملك فهد (1982 ـ 2005)، باستثناء أن الطائفية في عهد الاخير كانت تأسيسية، ولكن ثمة مشترك بينهما في الزخم. ويمكن المجادلة الى حد ما، أن الطائفية السديرية كانت دائماً ذات طابع ديني، فحتى الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية وولي العهد الأسبق كان يميل الى هذا الشكل من الطائفية، في سياق استرضاء العلماء، وقمع المعارضة الشيعية في المملكة ومحاربة إيران..

وجوه الشبه بين عهد فهد وعهد سلمان تبدو كثيرة، إلى حد يمكن إدراجهما في سياق تاريخي واحد. فقد فتح فهد أمام رجال الدين لأن ينشطوا في العمل الدعوي داخلياً وخارجياً، وخصّص 80 مليار دولار من أجل نشر الوهابية، ومليار دولار من مداخيل النفط سنوياً كان يذهب لدعم نشاطات المؤسسة الوهابية في الخارج.. لم يكن الغرض نشر القيم الدينية وفق التفسير الوهابي، بقدر ما كان مواجهة نوع الاسلام الاحتجاجي الذي بدأ ينتشر في العالم بعد انتصار الثورة الإيرانية.

كان عهد فهد يتّسم بالتشدّد الديني والأمني معاً، وقد أفاد من خبرته الأمنية حيث تولى منصب وزير الداخلية في أحلك فترات تاريخ المملكة السعودية، أي عهد الملك فيصل، ونجح في قمع المخالفين السياسيين والمذهبيين عبر توظيف سلاح الفتوى الدينية (الإفساد في الأرض)، و(الخروج على ولي الأمر)..ثم دفع التيار السلفي ثمن انخراطه في حرب السلطة ضد باقي المكونات الاجتماعية والسياسية. وبنفس أدوات قمع الاخوان التي استخدمها عبد العزيز ضدهم من أجل تعزيز أركان سلطانه، فقد قضى فهد على التيار الصحوي في التسعينيات من القرن الماضي، وإن انتقلت أفكارهم الاعتراضية في السلفية الجهادية الى فئات القاعدة.

لم يشهد عهد الملك عبد الله مواجهات عنيفة بين الدولة والتيار السلفي، وإن بقت العلاقة فاترة وموتورة ولكن منضبطة الى حد كبير. كان الخطاب الطائفي حاضراً في الاعلام، وفي خطب المساجد، وفي الصحافة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي.. ولكن من الصعب توصيف المرحلة بأنها طائفية بالمعنى الديني.

في عهد سلمان، بدت ملامح الطائفية تبرز دينياً منذ الأيام الأولى، فقد قرّب سلمان التيار الديني ورفع القيود المفروضة على نشاطه، خصوصاً المنع من السفر، ومزاولة النشاط الدعوي محلياً وخارجياً.

الصحافية الأميركية كاريل مورفي كتبت مقالاً في 25 فبراير 2015 في مجلة (فورين بوليسي) لامست فيه نقاطاً حساسة وتناسب ما نحن بصدده. ترى مورفي بأن سلمان تحرّك بشكل سريع منذ وصوله الى العرش لجهة إظهار أن حكمه سيكون مختلفا عن حكم سلفه، وأثارت تحركاته المخاوف لدى بعض السعوديين بشأن الوجهة الجديدة للملك خاصة في تحوله بشكل أكبر نحو المؤسسة الدينية الوهابية، بالإضافة إلى السلطات الواسعة التي منحها لنجله الأمير محمد بن سلمان.

وتخلص مورفي من خلال لقاءاتها مع حوالي 24 سعودياً من أطياف اجتماعية وسياسية متنوعة بالمملكة - رفض كثير منهم الإفصاح عن هويته لحساسية مناقشة سياسات العائلة المالكة - كانت النغمة السائدة والمتكررة خلال الحوارات متمثلة في أن سلمان ربما يُعيد إحياء نظام حكم فهد. وتصف مورفي الأخير بأنه كان استبدادياً، واعتمد على علاقته الوثيقة مع الولايات المتحدة، فضلا عن ممارسة الرقابة الاجتماعية مُتمثلة في الشرطة الدينية.

على المنوال نفسه، عرف عن سلمان قربه من المشايخ المحافظين أكثر من سلفه، عبد الله، حيث وهب سلمان سلطات واسعة لرجال الدين، وبالغ في علاقته معهم الى حد سمح بنشوء شبكة من المدارس الدينية الإضافية، فيما كانت تطلعات مشايخ الوهابية تصل الى حد إعادة انتاج نموذج الدولة السعودية الأولى، بحسب المناشدات الواردة في (مذكرة النصيحة) التي رفعها مشايخ الصحوة في عام 1992.

طائفية سلمان ليست بدون أثمان على الصعيدين المحلي والخارجي. وشأن طائفية فهد التي كانت مسؤولة عن ظواهر التطرف والإرهاب الديني بقيادة المدرسة الوهابية، فإن طائفية سلمان سوف تؤول الى النتيجة نفسها. في الداخل، تبدو النتيجة محسومة، فالطائفية الدينية تواصل تفتيت المجتمع المحلي، وتؤكد فشل الدولة الوطنية واستحالة انتاج هوية وطنية، فيما يجنح التيار الديني الوهابي بكل متوالياته الى المصادمة مع كل من يختلف معه. 

ما يجدر الالتفات إليه، أن الطائفية الدينية تغذي حالياً النزعات الارهابية لدى تنظيمات سلفية متطرّفة مثل داعش، فهو يستفيد من المناخ الطائفي الموغل في الغرائزية، لجهة تشجيع أفراد التنظيم على القيام بأعمال قتالية بدعوى الامتثال لإملاءات دينية خالصة.

لاشك أن التيار الديني السلفي عموماً يميل الى نموذج فهد، رغم معاناة فرعه الصحوي من سياساته القمعية في التسعينيات. يعتقد الوهابيون بأن إعادة إحياء نموذج فهد، وسير سلمان على السياسة نفسها يعيد لهم جزءاً مهماً من السلطة التي فقدوها في أزمنة غابرة وكذلك في عهد الملك عبد الله. 

في المقلب الآخر، يشعر التيار الليبرالي بالحزن، لأنه يعيش حالة اضطراب غير مسبوقة، فرغم انغماس بعض أفراده في (الطائفية السياسية) في عهد عبد الله، إلا أنه يشعر اليوم في ظل سلمان بأنه سوف يصبح أحد ضحايا (الطائفية الدينية)، لأنها سوف تكون على حسابه. الملاحظة التي ساقها بعض الليبراليين في عهد فهد بأنه شجّع التحديث وأهمل عن عمد الحداثة في أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية، فإن سلمان يحاول تكرار التجربة مرة أخرى، وسوف يفقد الليبراليون الرهان الذي وضعوه على عبد الله، ولكن لم يتح له استكمال مشروعه.

الطائفية الدينية لدى سلمان تستوعب كل المكوّنات بما في ذلك المرأة، فالتشدّد الديني الوهابي إزاء الأخيرة تبقيها كائناً مقهوراً، ولا يتوقّع من سلمان أن يقدم على خطوات لافتة، فهو الخيار المفضّل للتيار الديني المتشدّد، ولكنه كابوس بالنسبة لأغلب المكونات الاخرى.

في الاسبوع الثاني من توليه العرش، دعا سلمان المشايخ وكبار علماء الدين في المؤسسة الرسمية لزيارته في الديوان الملكي، بهدف إعادة تفعيل العلاقة معهم، وكانت تلك إشارة واضحة الى أنه سوف يولي التيار الديني السلفي أهمية خاصة في عهده، بل ويعوّل عليه في مواجهة الضعف الذي يعاني منه نظامه.

أراد الملك سلمان بهذه الخطوة إيصال رسالة واضحة بأن عهده يختلف كلياً عن عهد سلفه، وأن رهاناته تختلف عنه أيضاً.

في النتائج، فإن الطائفية الدينية لدى سلمان، تعزّز من انقسام المجتمع، وتفجّر خصومات في الداخل والخارج، وتغذّي الإرهاب، وفي حال تتبع مسيرتها النهائية، لن تكون بعيدة عن تفكّك الدولة.

الدين في المؤسسة الرسمية لزيارته في الديوان الملكي، بهدف إعادة تفعيل العلاقة معهم، وكانت تلك إشارة واضحة الى أنه سوف يولي التيار الديني السلفي أهمية خاصة في عهده، بل ويعوّل عليه في مواجهة الضعف الذي يعاني منه نظامه.

أراد الملك سلمان بهذه الخطوة إيصال رسالة واضحة بأن عهده يختلف كلياً عن عهد سلفه، وأن رهاناته تختلف عنه أيضاً.

في النتائج، فإن الطائفية الدينية لدى سلمان، تعزّز من انقسام المجتمع، وتفجّر خصومات في الداخل والخارج، وتغذّي الإرهاب، وفي حال تتبع مسيرتها النهائية، لن تكون بعيدة عن تفكّك الدولة.

الصفحة السابقة