اليمن.. مستنقع الهلاك السعودي

محمد قستي

دولتان خَبَرَتا جيداً معنى (الحرب في اليمن).

تركيا، الإمبراطورية العثمانية حينها، عجزت حتى نهايتها في تأسيس نفوذ قويّ لها في الأراضي اليمنية، في وقت كانت فيه قواتها تجتاح أوروبا وتصل الى فيينا. عشرات الألوف من القوات العثمانية قتلوا، حتى بات شبح اليمن في الذاكرة التركية حاضراً حتى اليوم، رغم تبدّل الأحوال السياسية، وبروز معالم جديدة للفخر والإعتزاز في جمهورية أتاتورك.

مصر ـ هي الأخرى ـ جرّبت في الستينيات الميلادية حرباً في اليمن، وأنزلت ما يقرب من سبعين ألف مقاتل، لم يعد منهم سوى خمسة عشر ألفاً، تمّ سحبهم بعد النكسة في 1967، كما تم تسليم الملف اليمني كاملاً للسعودية، التي سبق أن دعمت قوات الإمامة الزيدية التي أُسقطت في 1962، رغم كرهها لها، ولكن لمّا قبضت على اليمن، تحالفت مع الجمهوريين، وأقعدت الملكيين اليمنيين لديها منفيين في جدة، الى هذا اليوم، ومنعتهم حتى أن يُدفنوا في أرض اليمن، بعد ما يقرب من نصف قرن من القضاء على الحكم الزيدي الملكي (المملكة المتوكلية)!

ذات الروح التي ألهمت القوى التي تحالفت معها السعودية لإيقاع الخسائر في الجيش المصري وهزيمته في الستينيات الميلادية الماضية، تستعيد ذاتها من جديد في حركة إحياء ديني سياسي، وتقوم بمواجهة الرياض التي وقعت في الفخّ اليمني.

الرياض لا تقرأ التاريخ، ولا تهتم بأبحاث أو دراسات، وهذا زمنٌ ما عاد ينجح فيه (نثر النقود) على رؤوس الفقراء في الشوارع، لتحقيق نصر، أو لصناعة مجد، كما كان يفعل الملوك السعوديون السابقون، والحاليون، ولكن بطريقة مختلفة.

الرياض، استسهلت الحرب، ودخلتها بطائراتها دون جنودها براً.

الفكرة الأساسية تقول بأن الطيران سيدمّر الخصم، وسيُهيّج الشعب والقبائل على أنصار الله والرئيس السابق.

أنفقت الرياض الأموال، وفعلاً هاج الشعب، ولكن على آل سعود، الذين لم يغادروا قرية او بلدة أو مدينة إلا وقصفوها، ولا مدرسة او منشأة أو جسراً أو مخزنا او مستشفى إلا ودمّروه.

لم تجد الرياض من يقاتل نيابة عنها أرضاً. لا من اليمنيين، ولا من الدول (خاصة تلك التي كانت في قائمة الدول العشر: كمصر والباكستان).

كل ما جمعته الرياض بعض فلول من الجنوب، ثم تحالفت مع قاعدة اليمن والجزيرة العربية، ثم اضطرت أخيراً أن تنزل بنفسها برّاً، وقدّمت الإمارات لتقطف غنيمة عدن، ولتكون الضربة الأولى في رأس قواتها!

أما وقد أصبحت قوات الرياض والإمارات في الأراضي اليمنية، فإنها قد جاءت الى المستنقع برجليها، كما يُقال!

دخلت القوات السعودية من منفذ الوديعة على الحدود مع جنوب اليمن، في أرض سهلية صحراوية، كما جاءت قوات اماراتية عبر منافذ بحرية، وقيل ان قوات خليجية اخرى ـ قطرية وبحرينية ـ انضمت الى تلك القوات.

مدفوعة بزخم انسحاب الجيش اليمني وأنصار الله من عدن، تصوّرت الرياض أن بإمكانها الوصول الى صنعاء بسهولة، في حين أن أنصار الله بالذات قرروا الإنسحاب لأن الجنوب لم يشكل حاضنة لهم، وكانوا يخشون من وقوعه في يد القاعدة. الآن رمى الجيش اليمني وأنصار الله كرة الزنابير بوجه آل سعود والإماراتيين، ليتيهوا في وضع عدن، ولتتصارع القوى المختلفة على ارضه (القاعدة، الحراك الجنوبي، جماعة هادي/ السعودية، جماعة بحاح/ الإمارات، الإصلاح، القبائل، اللصوص)، وليتورطوا بما دمروه بقصف الطائرات واعادة الخدمات. بدل أن يكون الإستنزاف للجيش وانصار الله، ستصبح عدن، استنزافاً حقيقياً للرياض وأبو ظبي.

لكن الهجوم على الشمال اليمني، خلق حساسية شمال وجنوب، عند الشماليين هذه المرّة، فضلاً عن ان الجنوب ضئيل السكان لا يمكن أن يواجه الشمال، وليست لديه قوات مقاتلة حقيقية في الأساس.

ضآلة القوات في الأساس مشكلة، لا يمكن تعويضها بالطيران، فحتى الآن يقال أن السعودية نجحت في توفير خمسين ألف مقاتل من كل الدول ومن اليمن نفسها، وذلك لاحتلال صنعاء! وبالقطع فإن عدن وحدها وتأمين حمايتها بحاجة الى قسط كبير من هذه القوات.

فيما كانت القوات السعودية الإماراتية تحتشد في مأرب، كمدخل للعاصمة، مع طموح مغالى فيه، حصد صاروخ توتشكا الروسي العشرات من قوات الإماراتيين (52 جنديا وضابطاً)، اضافة الى اعتراف السعودية بمقتل عشرة من جنودها، والبحرين اعترفت بخمسة قتلى، عدا عشرات القتلى من المقاتلين اليمنيين المستأجرين، ومئات من الجرحى.

أيام من الحزن والعزاء في العواصم الخليجية، ترافقت مع إشعال محمد بن زايد، ومحمد بن سلمان، وابن ملك البحرين، شرارة الثأر علناً في تصريحات تبحث عن انتقام لما جرى في مأرب. المزيد من المدرعات والدبابات والجنود تم الدفع بها الى ساحة المعركة مجدداً في مأرب، وبدأ التجهيز لحملة عسكرية كبيرة حملت عنوان (ثأر مأرب)!

عشرات الدبابات من نوع أبرامز، ومدرّعات برادلي، تقدمت باتجاه مأرب، فيما الإعلام يبشّر ان صنعاء قد شارفت على السقوط!

خلال ساعات دمر الجيش اليمني واللجان الشعبية خمساً وأربعين دبابة ومدرّعة، وقتل المزيد من الجنود السعوديين والإماراتيين وحلفائهم من اليمنيين. انكسر العدوان مرّة أخرى على مأرب، كما انكسرت محاولة في الوقت ذاته في جبهة تعز!

محاولة ثالثة ورابعة، والحديث يتكرر سعودياً عن اختراقات كبيرة في مأرب والجوف والمخا، ولم يبقَ سوى انتظار ساعة الصفر، حسب تعبير قناة العربية.

ليس مستحيلاً خرق الجبهة الشرقية للجيش اليمني واللجان الشعبية، لكنه أمرٌ مكلف وصعب جداً! وسقوط مأرب حتى لو حدث فإن صنعاء لم يصلها غازٍ منذ قرون متطاولة رغم قوة الغزاة السابقين، فكيف بغازٍ غبيّ وأرعن كالغازي السعودي؟!

عسكرياً ما يجب التركيز عليه، ليس جبهة مأرب التي تريد الرياض متابعتها، رغم فشلها حتى الآن.. وإنما جبهة الشمال اليمني/ او الجنوب السعودي، حيث يجري التحوّل الاستراتيجي الحقيقي في حرب اليمن.

منذ الإنسحاب من عدن، استطاع الجيش اليمني واللجان الشعبية التوغل في الأراضي السعودية، بحيث سقطت عشرات المواقع العسكرية السعودية، وأُفرغت القرى والمدن الحدودية من سكانها، وسقط بعضها بيد القوات اليمنية مثل بلدة (الربوعة).

واضح الآن، ان الإنسحاب من عدن، وفّر مقومات التوغل في الاراضي السعودية، في ثلاث مناطق هي نجران وعسير وجيزان.

وواضح أيضاً، وكما تحكي وقائع الميدان، أن تحقيق منجز في جنوب السعودية، أسهل بكثير من تحقيق سيطرة جنوب اليمن الذي تحوّل الى مكان للاستنزاف.

من حسن الحظ أو سوئه، فإن الرياض لا تستطيع أن تعترف باختراقات الخصم وتحقيقه تقدماً قد يُسقط مناطق كاملة. وهي حتى الان لاتزال تتحدث عن (مقذوفات) انطلقت من (الأراضي اليمنية)؛ وكأنها تستطيع الى الأبد تغطية ما يجري من حرب على أرضها!، فيما يقوم الإعلام اليمني بفضح السعودية يومياً، من خلال مقاطع عديدة على شاشات التلفاز، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تحكي كلها.. قصة تراجع مستمر، وهزائم متواصلة للقوات السعودية في المناطق الجنوبية المحاذية لليمن.

قد يقال وهو صحيح.. أن الغازي السعودي الذي يريد ان يحتل اليمن، فدخل المستنقع، وقرر استخدام شيء من قواته البرية، يجد نفسه مجدداً بحاجة الى تعضيد القوات المحتلة بالمزيد منها، اي الإنغماس أكثر فأكثر حتى الإختناق. لكن الأخطر هو أن الغازي السعودي، وفي الوقت الذي يغزو فيه اليمن من جنوبها الشرقي، صار يُغزى في الوقت عينه من جنوبه الغربي!

التطورات جنوب السعودية مثير، والخسائر تتعاظم، وسيكون لها الأثر الأكبر في تقرير مصير الحرب العدوانية السعودية على اليمن.

وماذا عن الحل السياسي؟

ليس في نيّة الرياض إيقاف حربها العدوانية لسبب بسيط: ليس لدى الرياض خيار إلا أن تنتصر بشكل حاسم، وإلا اعتبر ذلك هزيمة نكراء. التعادل في الحرب يعني هزيمة سعودية لا تريدها. ولذا فإن كل ما يقال عن ضرورة الحل السلمي، وأن الرياض تريده، مجرد هراء. قد تقبل الرياض بوقف الحرب في حالة واحدة، أن تتأكّد من خسارتها للحرب، وأنها شارفت على الإنكسار. هذا ـ إن حدث فسيحدث ـ في جنوب السعودية بالذات. وحتى ذلك الحين، فالرياض قد تقول لحلفائها الأمريكيين بأنها مع حل سلمي، ولكنها في الواقع ستعوّقه. وقد كان لديها فرصة للخروج بشكل مشرف بعد سيطرتها على عدن، ولكنها مضت الى الشوط الأخير.

يبدو أن اليمنيين (جيشاً ولجان) وفي الوقت الذي كانوا يتمنون نصراً غير مكلف، بحل سياسي وسطي، فإنهم الآن مقتنعون تماماً بأن لا حلّ إلا بكسر (قرن الشيطان) كما يقولون.

الأميركيون غير راضين عن الأداء السعودي الخليجي في الحرب؛ فرغم الإمكانات والخطط والمعلومات الإستخبارية، فإن حملة العدوان التي تقودها الرياض وبعد ستة أشهر لم تنجز ما حلمت به. ايضا هناك خشية من إطالة الحرب، او انقلابها على السعوديين، وهو ما بدأته مؤشراته بالوضوح. لكن حتى الآن فإن الضغط الغربي/ الأميركي تحديداً، ليس قوياً الى الحدّ الذي لا يمكن صدّه من قبل الرياض التائقة الى انتصار يعيد لها مكانتها الاستراتيجية إقليمياً ودولياً.

لكن مع الهزائم المتتالية في جنوب السعودية، من المرجح حدوث أمرين:

أحدهما واضح المعالم، وهو الإنتقام السعودي من المدنيين اليمنيين، فمن مجزرة الى أخرى، من صعدة الى صنعاء الى الحديدة المحويت الى مأرب وذمار وغيرها. لن تتوقف المجازر السعودية التي تتوالى عليها الصفعات عسكرياً، فحيلة الضعيف ضرب الخاصرة الضعيفة (المدنيين)! كلما زادت الهزائم، زاد قتل المدنيين قصفاً بالطيران السعودي.

لكن أيضاً من المتوقع أنه مع تتالي الهزائم السعودية، فإن ضغوط الأميركيين، حلفاء الرياض، ستتزايد أيضاً من اجل الخروج من المأزق وإلا هدم المعبد على رؤوس آل سعود وحلفائهم!

هذا زمن الهزائم السعودي!

قد يكون استقراءً لما ذُكر، وقد يكون أمراً محتّماً، وفي كل الأحوال لن تخرج الرياض سالمة من اليمن!

الصفحة السابقة