الأزمة الإقتصادية السعودية وتداعياتها

العصـا كخيـار وحيـد لما بعـد «الدولـة الريعـيــة»


(لم ينته العصر الحجري لنقص في الأحجار، كما لم ينته عصر الفحم
لنقص فيه، وكذلك النفط قد ينتهي عصره لصالح بدائل أخرى)

(وزير النفط السعودي الأسبق، أحمد زكي يماني)


محمد قستي

لم تكن الأزمة الإقتصادية السعودية مفاجئة للمراقبين والمحللين الإقتصاديين. ولا يُعتقد أنها كانت مفاجئة ايضاً للمسؤولين السعوديين. ربما تكون المفاجأة في تقدير حجم الكارثة، لا في أصل وقوعها، بل حتمية وقوعها. والسبب هو أن الرياض قد سبق لها أن شهدت كارثة في أسعار النفط في منتصف الثمانينيات الميلادية مشابهة الى حد التطابق مع ما جرى أواخر العام الماضي 2015. والأسباب متطابقة، والمسبّب هو نفسه القديم، والمبررات هي ذات المبررات.

الرياض أغرقت سوق النفط لأسباب سياسية (إيذاء إيران والعراق وروسيا)، ووصل تصديرها ـ وليس انتاجها ـ أكثر من عشرة ملايين ونصف المليون برميل يومياً. كان من البديهي أن ينخفض سعر النفط، وكانت الرياض تقول ـ كما فعلت في الثمانينيات الماضية ـ أن لديها فوائض مالية ليست لدى خصومها، وبإمكانها تحمّل وقع الأزمة لسنوات. لكن الحال لم تكن كذلك ابداً، ولن تكون هذه المرّة ايضاً.

العبث بسوق النفط حمل منطقاً سعودياً استعلائياً، فباعتبارها أكبر منتج للنفط، كانت الرياض تنظر بازدراء الى المنتجين الصغار، وأعلنت في ثنايا تصريحات مسؤوليها ومعلقيها، بأنه لا يمكن مساواة حقوقها بحقوق الدول الصغيرة المنتجة للنفط، وأنه لا مانع لديها إن خرب اقتصاد تلك الدول أو تدمّر، فالبقاء للأقوى.

لهذا رفضت الرياض التنسيق من جديد مع ايران وفنزويلا، وهو أمرٌ فعلته من قبل لحمل أسعار النفط على الإرتفاع واستعادة بعض عافيتها. وحين جاء الرئيس الفنزويلي للرياض راجياً التفكير من جديد في السياسات السعودية النفطية، منحته الرياض أُذناً من عجين وطين، وغادر الرياض متألماً.

تريد الرياض التحلل من مسؤولية صناعتها كارثة انخفاض اسعار النفط، وهذا لا يهم الآن، فقد وقع الفأس في الرأس. رأس الجميع، جميع المنتجين، وكانت خسارة السعودية من عبثها كبيراً، وربما أكبر من غيرها حتى. ففي وقت يجمع العالم بأن الرياض هي سبب الكارثة، تحاول السعودية ان تتحدث عن العوامل الأخرى غير مسألة إغراق السوق النفطية، وتعمّد تخفيض سعر النفط، في لعبة أطفال لا تراعي مصالح الدولة ولا مصالح الدول الأخرى. هي تقول بأن السبب ليس انتاجها، وانما الإنتاج خارج الأوبك، كانتاج روسيا الزائد، إذن لماذا لم تتفاهم الرياض مع روسيا، ولماذا لم تفعل ذلك حتى الآن؟ وتقول الرياض بأن الإستهلاك العالمي انخفض، خاصة من الصين، وهو صحيح، ولكن لماذا في ظل وضع سيء كهذا تنتج الرياض أكثر من حصتها المقررة في أوبك؟

في بضعة أشهر فحسب، انخفض سعر برميل النفط من نحو 120 دولاراً الى 22 دولاراً، وربما ينخفض اكثر الى ما دون العشرين. ترى كم خسرت الرياض، في ظرف بضعة أشهر فحسب؟

باختصار تخسر الرياض بانتاجها ما لا يقل عن 850 مليون دولار يومياً! فهل توجد حماقة أكبر من هذه الحماقة السعودية؟ وهل ينطبق عليها المثل: جَنَت على نفسها براقش؟!

قدرة الرياض على التحمّل أقل بكثير من قدرة من تريد معاقبتهم. فالإيرادات النفطية تشكل اقل من 30% من إيرادات الدولة في ايران، وروسيا لديها موارد أخرى كثيرة غير النفط وهي قوة عظمى، ليس من السهل إغراقها. لكن العراق ـ المستهدف سعودياً هو الآخر ـ يعتمد بشكل شبه كلي على النفط في إيراداته، مثل السعودية تماماً. قد يكون العراق الأكثر معاناة، لكن شعبها أكثر تحمّلاً من الشعب المسعود، والنظام السياسي في العراق أكثر مرونة في التعاطي مع المشكلة وامتصاص بعض آثارها بعكس النظام السياسي السعودي.

تفاجأت الرياض بأن سعر النفط انخفض الى ما دون الثمانين دولاراً للبرميل، فأعلنت أن حساباتها قائمة على سعر ستين دولاراً للبرميل، ولكن الإنخفاض لم يتوقف وانهار السعر بكل معنى الكلمة. والأدهى، أن أسعأر النفط لن تستعيد مستوياتها السابقة في المستقبل المنظور والبعيد. فبدائل الطاقة النظيفة ـ رغم انخفاض سعر النفط ـ تحقق تقدماً، والنفط الصخري لم يخرج من المنافسة، وبالتالي فإن الرياض عليها ان تتعود سعراً منخفضاً جداً لنفطها لسنوات عديدة قادمة، وهي سنوات كافية لأن تجعل مكانتها النفطية الإستراتيجية غير ذات قيمة.

وفي الوقت الحالي، فإن الرياض الرعناء، تعاقب نفسها أكثر فأكثر.. فالعراق ينتج ما يستطيع من النفط، لتغطية العجز الضخم في ميزانيته، وايران بعد رفع الحصار عنها، ستبيع كل ما تستطيعه من النفط، على اعتبار ان كل ما يأتيها من إيرادات مفيد، ولم يكن محتسباً، أو لنقل أن الضربة السعودية قد تمّ استيعابها، وبالتالي لا ضرر من زيادة اغراق السوق اكثر فأكثر بالنفط.

وهكذا فإن من استهدفتهم الرياض بإغراق النفط، هم اليوم قادرون على انتاج أكبر ليسقط سعر البرميل الى الحضيض، دون أن يكون لديهم ما يخسرونه.

في ظرف مثل هذا، ماذا يمكن للرياض أن تفعل؟!

أمرٌ واحد فقط: ان تكفّ عن رعونتها، وأن تجمع الدول المنتجة، وأن تقرر تخفيض انتاجها النفطي، وأن تقنع الدول المنتجة من خارج أوبك بالعمل ذاته لامتصاص فائض السوق. السؤال: هل الرياض مستعدة لذلك، وهل سيسمع لها الآخرون بعد أن دمرت اقتصادياتهم؟ ثم الى أيّ حدّ يمكن لهذه الخطوة أن تنعش اسعار النفط، والعالم كلّه مهدد بانهيار اقتصادي لا يقل سوءً عن أزمة 2008؟

أمرٌ آخر، فقد أعلنت الرياض عبر الطفل محمد بن سلمان، عن برنامج خصخصة، وملخصه: بيع أملاك الدولة، من النفط الى الأراضي، مروراً بالمستشفيات والمراكز الصحية، وذلك بغية تمويل العجز الذي سيستمر لسنوات طويلة. هل ستنجح الخصخصة؟ لا يتوقع ذلك، فهناك هروب للرساميل الى خارج البلاد، وهناك عجز عن جذب استثمارات خارجية. الاقتصاد السعودي سفينة تغرق ولا يستثمر فيها عاقل في هذه الظروف.

وعموماً، هناك دعوات اليوم تصدر من الدول المتضررة الى مواصلة الانتاج نكاية بالسعودية، فالخسارة تحققت بشكل شبه شامل، وانتاج النفط اليوم اكثر فأكثر، يقضي على حلم السعودية بالتربّع على تلّة عرش منهار.

لكن المهم في كل هذه الأزمة الإقتصادية، ما يتعلق بمكانة الرياض الاستراتيجية، وانعكاسات الأزمة على الوضع المحلي. فحتى الآن، قالت الرياض ان عجز ميزانيتها وصل الى ما يقرب من مائة مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ السعودية، في حين ان صندوق النقد الدولي يقدر العجز بمائة وخمسين ملياراً. والرياض التي سحبت مئات المليارات من احتياطيها المالي، لم تعد قادرة على فعل ذات الأمر بصورة مستمرة، والسبب أن الأميركيين الذين يحتفظون بمعظم فوائض أموالها، اعترضوا بأن السحب يؤثر على اقتصادهم هم أيضاً. وإذن، لا بدّ للرياض أن تعوّض العجز من مكان آخر. وهنا صورة للمشاكل التي ستصاحب الرياض وتغيّر من وضعها كدولة رائدة، والى الأبد ـ ربما.

أولاً ـ انتهاء الدولة الريعية. فالولاء السياسي في السعودية مرتبط بمقدار ما تنفقه الدولة من ريع. وحتى الإصلاح السياسي يمكن قمعه بسهولة في حال وجدت البدائل المالية كتعويض. وحين تعجز الدولة عن الدفع، يبدأ الصراخ والإعتراض الشعبي والمطالبة بالإصلاح السياسي، وتبدأ الأسئلة أين تذهب الأموال وما أشبه. هذا في حال عدم الإنفاق بما يكفي لشراء صمت الشعب؛ فما بالك إذا ما كان سداد العجز الحكومي في الميزانية يعتمد أساساً على فرض ضرائب على المواطنين ورفع الدعم؟ إن هذا يمثل وصفة انفجار محلّي في الولاءات للنظام، فما عسى النظام أن يفعل؟ هل يقوم بإصلاحات سياسية تمتص الإعتراض على المشاكل الاقتصادية وتتجاوب مع مقولة: لا تمثيل سياسي بدون ضرائب؟

ولي ولي العهد وحين سئل من قبل فريق الإيكونوميست مطلع الشهر عما اذا كانت الضرائب الحكومية ستقود الى تمثيل سياسي شعبي في نظام الحكم؟ اجاب محمد بن سلمان ببساطة ان ليس هناك ضرائب في الأساس!! والمعنى فإن الرياض لا تفكر في إصلاح سياسي، ما يعني ان البديل المتوفر هو المزيد من استخدام العصا الأمنية في مواجهة الإنشقاقات السياسية.

لم تعد هناك في الأفق امكانية استخدام الجزرة الى جانب العصا، ولا يوجد للأمراء من الآن فصاعداً سوى العصا ثم العصا ثم العصا. وقد بدت بوادر العنف الأمني والإعدامات تتصاعد في السعودية، متوازية مع الانهيار الإقتصادي، ومع الإعتراضات الشعبية على الأوضاع. وهذا بدوره سيقود حتماً الى تقلص شعبية النظام ومشروعية الحكم أكثر فأكثر، وستبقى القلاقل الأمنية والسياسية سمة سعودية الى زمن غير قصير قادم.

ثانياً ـ انهيار مكانة الرياض الإستراتيجية. وهي مكانة قائمة على الدفع المالي أيضاً، وقدرة الرياض على إبرام عقود إنشائية وتسليحية تجعل منها بطّة تبيض ذهباً لحلفائها. في حال تضعضع الاقتصاد السعودي، وخوَت الخزينة، فإن أنصار الرياض سيتقلص عددهم بمقدار ما ينخفض الدعم الخارجي. فولاءات الدول للرياض ليست نابعة من احترام نموذجها وخيارها السياسي والمذهبي/ الديني، بل مما تنفقه من مال وتقدمه من دعم.

ولأن النفوذ السعودي قد عانى تصدّعاً هائلاً في العقدين الماضيين، وخسرت الرياض الكثير من مكانتها، فإنها في ظل أزمتها الإقتصادية التي لن تُحل في سنة او سنتين أو ثلاث، ستتعرض لانهيارات سياسية، ولن تكون تلك الدولة المحورية خاصة مع سياسة النزق والمغامرة الحالية. حتى المظلّة الحمائية الغربية للعرش السعودي، مرتبطة بمقدار الدفع السعودي المالي، فكيف ستتمدد الحماية وتستمر، والرياض زيادة على ذلك متهمة بتمويل الفكر الإرهابي الداعشي والقاعدي؟

الرياض التي تقاتل من أجل الحفاظ على مكانتها الإقليمية والدولية، وتنافس إيران، وربما تركيا، لن يكون في مقدورها المنافسة. ويلاحظ أن وضع إيران الإقتصادي قد يتحسّن كثيراً، بسبب رفع الحصار الغربي عنها، واحتمال جذب استثمارات كبيرة الى اراضيها، فضلاً عن معاودتها بيع انتاجها النفطي وترتيباتها الخاصة مع دول عديدة لبيع نفطها كما مع الصين والهند.

باختصار.. المملكة السعودية قوّة سياسية واستراتيجية آفلة في عيون حلفائها وخصومها معاً، ولأفولها أسباب ومؤشرات عديدة، واحدٌ منها فقط هو انتكاستها الإقتصادية.

ثالثاً ـ ضياع الإستقرار الأمني والإجتماعي والسياسي محلياً. تأتي الأزمة الإقتصادية لتستكمل مسيرة حُكم عابث طالما تلاعب بمقدرات المنطقة وشعوبها، فأشعلها فتناً وحروباً، وكان في كل مرة يخرج منها بالقليل من الضرر. النظام السعودي اليوم لا يستطيع أن يعيش في حالة تقشف، فهذا ليس طبعه في الأساس. ثم إنه لا زال يصرف على حروبه ولا يتوقع له أن يتخلّى عن ذلك، والحروب لا تعني شراء السلاح فقط، وإنما شراء ولاءات الدول.. ثم ان هناك الفساد الذي ينهب أكثر من نصف ميزانية الدولة ومواردها. لن يتبقى للنظام من شيء لحل مشاكل مواطنيه الخدمية، فهذا النظام فشل في ظل الوفرة المالية في حل مشكلة الاسكان والبطالة والصحة والتعليم وغيرها، فكيف بحاله الآن. والمتوقع، في ظل تضخم الأسعار، بسبب الضرائب، ورفع الدعم عن السلع، واتساع رقعة الفقر وانكماش الطبقة الوسطى، أن تتصاعد الجريمة بشتى أنواعها؛ اضافة الى القلاقل السياسية الناتجة من القمع الأمني الذي سيتسع أكثر، وايضا الناتجة من الإنغلاق السياسي والفشل الإقتصادي.

ستُشغل الرياض بنفسها لفترة طويلة. ستكون مجبرة للنظر في مشاكل الداخل، وستعيش ما يشبه البيات الشتوي، أو حتى العزلة السياسية الإختيارية، وسترقب خصومها يصعدون، في حين أن غرورها المتأصل سيكون مجرد رماد تذروه الرياح.

انها ليست نهاية حقبة سعودية فحسب.

إنها نهاية نظام آن له أن يرحل وللأبد.

الصفحة السابقة