من الذي عزل الآخر؟

السعودية تقطع العلاقات مع إيران

محمد فلالي

قطعت الرياض علاقاتها الدبلوماسية والتجارية كاملة مع طهران، إثر مهاجمة سفارتها في طهران، وقنصليتها في مدينة مشهد. حيث هاجمت حشود مبنيي السفارة والقنصلية إثر نشر خبر إعدام الشيخ نمر النمر، وبسبب الإحتقان في العلاقات خاصة بعد وفاة مئات الحجاج الإيرانيين في منى.

الخطوة السعودية لم تكن متوقعة فيما يبدو، ولكن الرياض اعتمدت سياسة الهروب للأمام. فهي تريد من هذه القطيعة، حرباً مذهبية شاملة تتخطّى الحدود، وحتى الحكومات.

هي تريد حرباً شيعية سنية. تريد كل الدول الإسلامية ان تصطف معها وتقطع العلاقات مع ايران. وتريد الرياض ان تجرّ الغرب الى سياسة المواجهة مع ايران، بعد أن وقع معها الإتفاق النووي قبل بضعة أشهر.

كما أن الرياض تريد تفادي الحوار مع ايران بشأن الملفات الإقليمية، لأنها في وضع سياسي غير مريح. وتريد فوق ذلك أن تجبر طهران على نسيان ملف حجاجها الذين توفوا أو قتلوا في أحداث منى (أثناء الحج) وعدم اعادة رفات الكثير منهم.

لكن الرياض هي التي بادرت الى قطع العلاقات؛ وهي بالتالي تتحمل المسؤولية؛ وقد أظهرت نفسها بمظهر المتهور لدى حلفائها الغربيين؛ في حين أن طهران نُظر اليها بأنها الدولة الأبوية في المنطقة، على الأقل هذا ما تقوله فورن ريبورت وغيرها من الصحف.

الغرب يدرك سبب التصعيد السعودي؛ ولذا لم يكن حريصاً على دعمه. هو يدرك ان الرياض تريد ان تستعيد زعامتها العربية والإسلامية المتلاشية، وأنّى لها ذلك، وقد فشلت في تجربتين سابقتين، الأولى في التحشيد لحرب اليمن (التحالف العشري)؛ والثانية في التحشيد لحرب الإرهاب باعتبارها ضالعة فيه (تحالف على الورق من ٣٤ دولة)؛ فكيف ستنجح في دفع الدول الإسلامية لقطع علاقاتها مع طهران، وخوض حرب عبثية تريد الرياض منها ان تتوج نفسها قائدة فوق الكثير من الدماء والجماجم، وكأن ما فعلته في العراق وسوريا وحتى في مصر ولبنان واليمن والبحرين وغيرها، لم يكفها حتى الآن.

لا الباكستان ولا اندونيسيا ولا نيجيريا ولا تركيا ـ وهذه اكبر الدول الاسلامية ـ ولا حتى دول الخليج في معظمها.. ساير السعودية فيما تصبو اليه. كل ما حصلت عليه حتى الآن بضع دول قبلت بقطع العلاقات من اجل اموالها التي قد تأتي وقد لا تأتي، مثل السودان، وجيبوتي، والصومال، والبحرين، وجُزر القمر.

لكن الرياض اعلنت نجاحاً سريعاً في محاولتها افتعال حرب جديدة مع ايران على خلفية طائفية غير مبررة.

تماماً مثلما أعلنت نجاحها سابقاً على الإرهاب القاعدي الذي تغذيه بأموالها وفتاوى وأفكار ومعتقدات مذهبها الوهابي.

وايضاً مثلما أعلنت سريعاً انتصارها في اليمن؛ وها هي الآن بعد عشرة اشهر تراوح مكانها.

انها الفتنة السعودية الصادرة من قرن الشيطان النجدي. فهل ستنجح؟

ليس هناك صوت حقيقي داخل السعودية مع هذه الحرب إلا من الأقلية النجدية الوهابية الحاكمة.

وليس هناك صوت عربي يهتم بهذه الحرب السعودية المجنونة إلا من قبل الوهابيين والإخواسلفيين، والإخوان المسلمين ـ في معظمهم.

الرياض غاضبة جداً من أن حلفاءها الغربيين لم يقفوا معها في موقفها من قطع العلاقات.

وهي غاضبة أكثر من الدول الخليجية، التي تذرّعت كل واحدة منها بمبرر حتى لا تماشي الرياض في جنونها.

غضبت من الأردن رغم تأييده لها، ولكنه لم يقطع العلاقات. كما غضبت من مصر واعلام مصر، ومن المغرب، فضلاً عن الآخرين.

استاءت الرياض بأن الجميع اعتبر قطع العلاقات مع ايران، صراعاً سعودياً إيرانياً على النفوذ. في حين ان الرياض وكتابها يصرخون بأنها حربٌ عربية ضد الفرس، او هي حرب عربية اسلامية سنية ضد الشيعة.

الإستياء كبير.. فالدول الاسلامية الكبرى اعلنت رغبتها في القيام بالوساطة بين البلدين. وهذا أمرٌ لم تتحمّله الرياض، لأنها توقعت اصطفافاً كاملاً معها.

هي تقول بأنها تقاتل بالنيابة عن العرب؛ لكن السؤال: مَن الذي أعطى الرياض الحقّ لتقاتل باسمهم، ومَن الذي فوّضها للقيام بذلك؟

وهي تقول بأن إيران تتدخل في الشؤون العربية، خاصة العراق وسوريا. ويعود السؤال: هناك عشرات الدول بما فيها الدول الغربية واسرائيل وتركيا والأردن والسعودية نفسها ودول الخليج تتدخل وتشعل النيران في هذين البلدين، فلماذا ايران بالذات؟ ثم مَن الذي أعطى الرياض حقّ الحديث بالنيابة عن العراقيين او السوريين، وكأنهما بلدان بلا سلطة وبلا رأي وبلا مجتمع، وأن من حق الرياض ان تمثلهما وتتحدث باسمهما. مع العلم ان الرياض فتحت للتوّ سفارتها في بغداد بعد قطيعة امتدت لعقود.

الرياض تدّعي حقاً ليس لها، وتتحدث بالنيابة عن دول وشعوب أخرى، وتحارب بالإرهاب القاعدي والداعشي خصومها، وتشنّ حروباً مفتوحة في اليمن، وتتدخل عسكرياً في البحرين. ومع هذا، هي تعتبر ان كل هذا من حقها ان تفعله، وعلى الجميع أن يخضع لها، ويقبل بزعامتها في حربها الطائفية.

تركيا والباكستان وأندونيسيا أعلنت استعدادها للقيام بالتوسط بين طهران والرياض.

لكن السعودية أعلنت صراحة بأنها لا تقبل وساطات، وليس في نيتها اعادة العلاقات، وستواصل معاركها.

لكن الرياض في واقع الأمر محبطة من ردود الفعل الإقليمية والعربية والإسلامية والدولية.

هي محبطة للغاية، وهي تشهد العالم كله يطلب ودّ ايران ودعمها في حلحلة ملفات عديدة، خاصة بعد إلغاء الحصار وفق الاتفاق النووي.

الرياض تشهد بأمّ عينها اليوم، أنها (معزولة) حتى عن أصدقائها الخليجيين، والعالم يتجه في غير الإتجاه الذي تريده، بل تكاد تنزوي هي بنفسها ومشاكلها الخاصة بها، ولم يعد العالم يلتفت لتصعيدها وحروبها ودواعشها كثيراً.

ليس لدى الرياض ما تغري العالم به.

لم يعد لديها المال، ولا المكانة، ولا حتى الحصافة والرشد السياسيين.

ليس لدى الرياض نموذج حكم صالح، تقدمه للعالم. ليس لديها سلوك سياسي رشيد، ولا أيديولوجيا تناسب العصر، بل هي ايديولوجيا عنيفة مخيفة لكل دول العالم، مسلمين وغير مسلمين.

الرياض تقف امام الحقيقة المرّة، فبدل أن تعزل ايران، وجدت نفسها في عزلة.

وبدل ان يصطف معها الاصدقاء الكبار، خاصة الباكستان، نجد رئيس الوزراء يأتي الرياض للوساطة غير المرغوبة.

وفي وقت يعلو صراخها ضد الخطر الإيراني، لا تجد صدى لإعلامها، ولا تفهماً من حلفائها الغربيين.

الرياض الموتورة تشهد بروز نجم إيران في الشرق الأوسط، وعودتها كقوة مهيمنة في الخليج، وهو أمرٌ لم يكن تتصوره حتى في أحلامها.

القوة الإقتصادية والمكانة السياسية، والأبوية لمنطقة الخليج، عادت لإيران، كما كانت في زمن الشاه، حيث كان السعوديون مجرد ملحق لسياسة الشاه، ضمن المنظومة الأمنية التي رتبها الغرب فيما يسمى بمبدأ (العمودين المتساندين).

هل يعقل ان تعود الرياض الى سابق عهدها، فلا كلمة نافذة لها، ولا دور كبير لدولة محورية كحالها؟

هل يعقل أن تتبخر مكانة الرياض بمجرد أن انخفضت أسعار النفط؟

هل يستطيع الأمراء السعوديون التصديق أنهم خسروا معاركهم السياسية في العراق ولبنان وسوريا، كما خسروا حروبهم في اليمن وغيرها؟

هل يعقل أن ينظر الغرب الذي تربّى الحكم السعودي في أحضانه، الى الرياض وكأنها مصدر الشرور الداعشية القاعدية الوهابية العنفية المدمرة التي تضرب أكثر من بلد في العالم اليوم؟

وأخيراً هل يتخلّى الغرب عن حماية العرش السعودي هكذا بكل بساطة؟

الرياض في حالة تشوش وقلق وعدم استقرار.

أينما اتجهت لا ترى سوى الخسائر.

سواء واصلت حرب اليمن أو أوقفتها، فهي خاسرة. الإنتصار مستحيل كما يقول الغربيون أنفسهم.

والرياض مجرد لاعب من بين اكثر من عشرين لاعباً رئيسياً في المعادلة السورية، ولن تستطيع أن تفرض رؤيتها حتى على الأدنين فكيف بالأبعدين. سيصار الى حل سياسي للأزمة السورية، وسيبقى الفضاء مفتوحاً للرياض لكي تصرخ وتتألم.

الأزمة الإقتصادية التي فجرتها الرياض قبل اشهر عديدة بإغراق سوق النفط، نكاية بالعراق وايران وروسيا، ارتدّت عليها بأفظع مما توقعته او تستطيع تحمّل أعبائه. والصفعة التي وجهتها الرياض لخصومها ارتدت عليها بزيادة الانتاج الإيراني النفطي والعراقي، الى حد تدمير اسعار النفط بشكل شبه كامل.

لكن الرياض رغم كل هذا لاتزال تكابر وتعاند، وتظهر انتفاخاً كاذباً، وعضلات مترهلة يعلم بترهلها القاصي والداني.

لازالت الرياض تواصل معاركها وتفتح حروباً ومواجهات جديدة، كلها خاسرة، تكاد لا توجد حرب واحدة او مواجهة واحدة ربحتها، لا على الصعيد السياسي ولا على الصعيد العسكري او الإقتصادي.

ايران تأخذ اليوم موقع السعودية، فاقتصادها واعد، والإستثمارات قد تأتي وافرة، عجزت الرياض عن جلب مثلها. ولهذا رغم الأزمة النفطية، فإن الجميع ينظر الى الإقتصاد الإيراني بنظرة ايجابية كبيرة. لا ننس ان ايران من بين العشرين دولة الأكبر اقتصاداً في العالم.

وإيران تأخذ موقع الرياض السياسي في المنطقة. وكذلك مكانتها الإستراتيجية. وهذا ما يؤلم الرياض ان تجد حماتها الغربيات، قد أشاحوا بنظرهم عنها.

لكن ومن سخرية القدر، أنه يمكن ان تكون طهران العاصمة الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ الرياض، أو تخفف عنها وقع الهزيمة الشاملة الكاملة.

كيف؟

إيران ومعها حلفاؤها الثلاثة: العراق وفنزويلا وروسيا، يمكنهم بالإتفاق رفع أسعار النفط من خلال خفض الإنتاج التدريجي، وامتصاص فائض السوق. فهل تتنازل الرياض وتتخلى عن منطق الإستعلاء والتغطرس؟

وإيران وحدها القادرة على مساعدة الرياض في عدم الإنغماس اكثر في حربها العبثية الفاشلة في اليمن، حيث لا أفق لنصر، ولا يلوح في المستقبل سوى الخسارة الشاملة. فهل تتفاهم الرياض مع طهران على حلّ سلمي يوقف الحرب؟

وإيران وحدها التي تستطيع أن تتقاسم مع الرياض النفوذ في المنطقة ووضع ترتيبات أمنية، وبدون ذلك ستخسر الرياض حتى حليفاتها الخليجيات، اللهم إلا البحرين.

لهذا كان اصرار الغرب على تفاهم بين الرياض وطهران، ولكن الأولى لا تريد ذلك.

ولربما هنالك حكمة، أن يصرّ طغاة الرياض على الإستمرار في نزعتهم العدوانية الداعشية، فلا يكون البديل سوى الإنكسار الكامل لنظام حكم آن له أن يرحل.

الصفحة السابقة