مستقبل الخطاب.. مستقبل الدولة السعودية

الذي برز في عهد الملك سلمان هو: ما طبيعة الخطاب الذي ينتج في المملكة السعودية؟ من هو المستهدف بالخطاب؟ وما علاقة هذا الخطاب بالهوية وتالياً بمشروع الدولة؟ وهل يعبّر الخطاب عن عموم المكوّنات السكّانية؟ وهل ينسجم مع متطلبات الدولة الوطنية؟ وما تأثير هذا الخطاب على مستقبل المملكة؟

(الحلقة الثالثة)

خالد شبكشي

في قراءة تمظهرات الخطاب الذي ينتج حالياً في المملكة السعودية، تتأكد أهمية الإضاءة على التظهير الاعلامي والثقافي للخطاب، ليس لكونه يومىء الى طبيعة المستقبل الذي يروم الوصول اليه أو على الأقل يرسمه للدولة الراهنة، بل وأيضاً هو يترجم بأمانة عالية اللحظة كما هي، أي بمعنى آخر هو يسجّل شهادة على الزمن الذي يعيشه كل من خضع تحت تأثير هذا الخطاب، أو سمع به أو قرأ عنه. في كل الاحوال، فإن من غير الممكن فهم طبيعة خطاب الدولة دون الرجوع الى أحد وسائل التعبير المسؤولة عن تعميمه. في دولة تفتقر الى المقومات الدنيا لحرية التعبير لا يعود هناك مكان لأي كلام عن رأي آخر في الاعلام المحلي، لأن الآخر ليس موجوداً في وعي السلطة، ولا في الواقع الا حين يقرر صانع الرأي الآخر الاصطدام بالجهاز المسؤول عن قمعه وكبت حريته.. وعليه، فإننا نقرأ خطاب المستقبل، وخطاب الدولة تبعاً له من خلال ما ينشر في وسائل الاعلام، تماماً كما تشيعه المؤسستان السياسية والدينية على المستوى الرسمي..

وإذ أن الخطاب الاعلامي الرسمي لم يكن في يوم ما منسجماً في خطّه العام مع التوقعات الشعبية العامة، لاسيما لناحية الاصلاحات السياسية المأمولة في المملكة، فإنه يسهم في كل مراحل التوتر الاقليمي في رفع منسوب التوتر الطائفي والسياسي في الداخل بما ينعكس على طبيعة العلاقة بين المكوّنات السكّانية. في تداعيات الخطاب الاعلامي الرسمي يمكن قياس درجة تطابق أو انفصام العلاقة بين الخطاب الإعلامي المحلي ومشروع الدولة بوصفه المرجعية النهائية لمجمل الخطابات المنتجة محلياً، الاعلامية والثقافية والدينية.

المنتج الاعلامي/ الثقافي

 
طارق الحميد: الجهالة المطلقة

السؤال المفتاحي: مالذي يدفع نحو عشرة آلاف مواطن للخروج وبشكل تلقائي إلى الشارع لرفض العنف والطائفية في السعودية، بعد يوم من التفجير الارهابي في مسجد في القديح أدى الى استشهاد 21 مواطناً وجرح العشرات؟ هل كانت مجرّد صدفة أن يوجّه هؤلاء أصابع الاتهام الى مناهج التعليم الحكومية التي عرضوا أجزاء منها أمام الكاميرا؟. ولماذا يقوم "داعش" بارتكاب جرائمه الارهابية في هذه المنطقة التي لم يشارك أهلها في أي عمليات خارج الحدود، أو يدخلوا في صدام مسلّح مع أي من عناصر التنظيم في أي بقعة من بقاع المواجهة التي يتواجد فيها؟ ولماذا يتوعّد الأخير الشيعة في المملكة بـ "أيام سوداء"؟

أحد المتظاهرين، ويدعى السيد محمد، من سكّان بلدة القديح، طالب بوضع "نهاية للكراهية والتكفير ضد الشيعة.. نحن نطالب بحقوقنا كمواطنين" حسب قوله. وأوضح: "أن التكفير لم يبدأ مع الشخص الذي قام بالهجوم. المشكلة الحقيقية هي الدعاة الذين يقولون بأن الشيعة ليسوا مسلمين، ومناهج التعليم التي تدرّس الناشئة، من السنة الأولى للمرحلة الابتدائية بأن الشيعة ليسوا مسلمين ـ وهذه الآراء يتم تعميمها أيضاً عبر وسائل الاعلام".

بعد الهجوم تداول ناشطون مقطع فيديو يعود الى يناير 2013 للإعلامي السلفي المتطرّف خالد الغامدي ـ عبر شاشة وصال ـ يهدّد فيه الشيعة في المنطقة الشرقية بشركائه في الدعوة الوهابية بأنه في حال سمح لهم، فسوف يأتون بالقبائل، وسوف يأكلون الشيعة أكلا(1) .

وجاء في أهداف القناة، قناة وصال، التي تبث برامجها من داخل السعودية، وتمول من داخلها، ويتحدث فيها رجال الوهابية الأقليّون ـ ولكن الحاكمون:

(إطلاع العالم الإسلامي بأسره بشكل عام، والمهتمين بالردّ على الشيعة بشكل خاص؛ على اتفاقيات وخطابات معممي الشيعة وعلمائها والتي تفضحهم وتكشف باطلهم، عن طريق التصوير الحي، والتي لا تدع مجالاً للشك أو الإنكار، بعيداً عن الحوارات الطويلة والتي لا يحبذها عوام الناس)(2) .

أعلن وزير الإعلام والثقافة الأسبق عبد العزيز خوجه في تغريدة على حسابه في تويتر عن اغلاق مكاتب القناة الدينية وصال بتهمة تغذية التوتر المذهبي، بعد مقتل عدد من المسلمين الشيعة في العاشر من المحرم في قرية الدالوه بمحافظة الإحساء.. وكتب الخوجه: " لقد أمرت بإغلاق مكتب قناة وصال في الرياض، ومنع أي بث لها من المملكة، وهي ليست قناة سعودية من الأساس)(3) . ولكن في اليوم التالي، 5 نوفمبر 2014، أذاعت وكالة الانباء الرسمية (واس) أمراً ملكياً بإعفاء الخوجه من منصبه وتعيين وزير الحج مكانه.

ومنذ بدء الحراك الشعبي في المملكة السعودية، ولاسيما في المنطقة الشرقية في فبراير 2011، في سياق الربيع العربي المفتوح على كل بلدان الشرق الأوسط، اختارت الصحافة السعودية الانحياز الكامل الى جانب السلطة السياسية، وشكّلت أحد المصدّات الرئيسة لأي شكل من أشكال الحراك المطلبي، بصرف النظر عن سلميته أو نوع المطالب التي يدعو إلى تحقيقها. ذهبت الصحافة الى حد تبرير القتل، واستخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين بصورة سلمّية، وهوّلت على من ينتقد أداء الأجهزة الأمنية في التعامل مع المتظاهرين. كان انزلاق بعض الصحف في المطب الطائفي سريعاً، وإن بدا مغلّفاً في بعض الأحيان، بعناوين أخرى، سلطوية غالباً.

بصورة إجمالية، اختار بعض الصحافيين السعوديين التصويب على الناشطين الشيعة منذ بدء الحراك الشعبي السلمي في مارس 2011، وكانوا بمثابة خلية أمن بلباس الصحافة. تخصَّصَ فريق من كتّاب الصحف المحلية في تخوين كل من يناصر الحراك، أو يبوح برأي مخالف لما يصدر عن وزارة الداخلية من بيانات واتهامات. كان واضحاً أن ثمة من يتعمَّد "شيطنة" الشيعة طيلة فترة الحراك الشعبي بهدف تبرير الاجراءات القمعية ضد الناشطين والرموز الشيعية الدينية والسياسية والاجتماعية التي كان لها موقف مباين لموقف الداخلية.

على سبيل المثال، علماء الشيعة بتاريخ 20 مارس 2013، أصدروا بياناً بخصوص "خلية التجسس" التي أعلنت عنها وزارة الداخلية، واتهمت فيها مواطنين شيعة بالتجسس لصالح إيران. جاء في البيان:

(ما صرح به المتحدث الأمني بوزارة الداخلية من اتهام عدد من المواطنين الشيعة المعروفين بوطنيتهم واستقامتهم بالضلوع في شبكة تجسس، إدّعاء مرفوض ومريب. ونعتقد أنه يستهدف استغلال التوتر الطائفي المتفاقم في المنطقة لصرف الأنظار عن المطالب المتصاعدة بالإصلاح السياسي، وإنهاء الاعتقال من دون محاكمة عادلة، الذي يخضع له آلاف المواطنين في الوقت الحاضر) .ورفض الموقّعون على البيان ادعاءات الداخلية وطالبوا "بتجاوز سياسة اللعب على ورقة الافتراق المذهبي"، ودعوا الى "معالجة مشكلات البلد والتقدم بخطوات في الإصلاح السياسي وإقرار المساواة وحماية حقوق الإنسان والعمل بجدَ لتعزيز الوحدة الوطنية".

وصف الصحافي طارق الحميد ـ رئيس تحرير الشرق الأوسط يومئذ ـ البيان بأنه "فضيحة، وورطة"، ووضع البيان في سياق ما وصفه بالتحاشد "مع بيانات الرموز الإخوانية في السعودية". الحميد زاد في ختام مقاله أوصافاً أخرى للبيان بأنه "يعد تهوراً وفضيحة، ومزايدة سياسية بدافع طائفي"(4) .

 
سلمان الدوسري: الوطنية حسب القرب من السلطة

الجدير بالذكر أن المدعي العام طالب في 22 فبراير 2016 بإنزال عقوبة الاعدام بحق أفراد الخلية المزعومة، وقامت الصحافة المحلية بالتهويل عقب مطالبة المدعي العام، حتى أن صحيفة (الوطن) أطلقت مانشيت بعنوان (الاعدام يطوّق خلية التجسس) برغم من أن المحاكمة لم تستكمل جلساتها والاستماع الى أقوال المتهمين أو الدفاع والطعون وغيرها(5) ..

كتاب آخرون في صحف محلية أبقوا على نبرة الإتهام مرتفعة ضد الموقّعين على البيان، ووقف الكاتب محمود محمد بترجي على طبيعة ردود الفعل على البيان وكتب مقالاً بعنوان "النبرة المذهبية"، بدأه بحقيقة فشل الدولة السعودية في أن تتحوّل الى دولة وطنية جامعة تختفي فيها الانتماءات الفرعية بما نصّه: "اليوم وبعد قرن من الزمان هناك من يصنّف الشمالي والجنوبي والحجازي والنجدي والقصيمي، والقبيلي وطرش البحر، والليبرالي والإسلامي، وأخطر من ذلك السنّي والشيعي".

يرجع بترجي الى المقالات التي كتبت للتعليق على بيان علماء القطيف على خليّة التجسس، ولحظ (أوصافاً عنصرية.. كلفظ ''خلية التجسس الشيعية'' و''بيان مثقفي الشيعة'' وكل ما يشكك في ولاء الشيعة لوطنهم من قضية الولي الفقيه والإمام الغائب.. إلى أن هناك مشروعاً فارسياً أو صفوياً كاملاً يستخدمهم – أي الشيعة - لخدمة أهداف النظام الإيراني..)(6) .

تفرّدت (اليوم) وهي أقدم جريدة يومية في المنطقة الشرقية، التي يقطنها غالبية الشيعة في المملكة، باحتلال موقع الصدارة في نشر مواد تحرّض على الكراهية المذهبية. ومع وصول سلمان الى العرش في يناير 2015، ضاعفت الصحيفة من كمية المواد الطائفية، وأثارت بذلك ردود فعل غاضبة وسط الشيعة في المنطقة الشرقية. من بين تلك المواد الاستفزازية مقالة لناصر القفاري بعنوان (عودة الغزو الباطني) التي تنتمي الى الكتابات الكلاسيكية في السجال المذهبي، وتستعيد المقولات المكرورة بنسبة الاخفاقات التي شهدها العالم الاسلامي الى الأدوار الخفيّة للشيعة، وربط صراعات الماضي بالحاضر، وطاول الشيعة في المنطقة الشرقية بكونهم جزءاً من تلك المؤامرة التي تحاك ضد الأمة.

تعمّد القفاري عقد رابطة وثيقة بين السياسة والعقيدة، وخصّص الجزء الأكبر من مقالته لاستعراض العقائد الشيعية وجعلّها الأداة التحريضية للمؤامرة على الأمة، ويضيف الى ذلك أبعاداً أخرى عنصرية وغيرها، بالاستناد الى مقتطفات منزوعة من مصادر شيعية أقل ما يقال عنها أنها ما دون الهامشية. على سبيل المثال، يثبّبت القفاري مقولة ان الشيعة الايرانيين هدفهم قتل العرب وقتل الشيعة المعتدلين وخاصة الزيدية، استناداً الى رواية في أحد المصادر الشيعية، مع أن الاتهامات تركّزت طيلة شهور الحرب السعودية على اليمن منذ مارس 2015 على دعم إيران للزيدية في اليمن(7) .

للقفاري مقالات في السياق نفسه مثل: نصر الله والمناهج السعودية، عنصرية وغطرسة وغرور، الإعلام السعودي.. جنون بلا حدود.. وهي تندرج في سياق المواجهة السياسية بين ايران والسعودية، واستغلالها لنشر ثقافة مذهبية تحريضية.

إعلاميون رجال أمن!

رئيس تحرير سابق لصحيفة (الاقتصادية)، كتب أكثر من مقالة انتقد فيها الرمز الديني والسياسي الشيعي الشيخ حسن الصفار، لأنه انتقد قتل المواطنين الشيعة في القطيف في حراكهم السلمي. وفي مقالة بعنوان (عندما يقارن الصفار السعودية بسوريا!) نشر في (الاقتصادية) بتاريخ 15 فبراير 2012، وقد اختار فقرة من خطبة للصفار في صلاة الجمعة قال فيها: "'كيف لحكومة تستنكر سفك الدماء الأخرى في بلدان أخرى ـ يعني سوريا ـ أن تسمح لقواها الأمنية في القطيف بأن تتسرّع في إطلاق النار على مواطنيها العزل''. أبدى الدوسري استغرابه من هذا الموقف وشدّد عليه بعبارة: "نعم هكذا قالها أمام مريديه"، وعدّ ذلك غمزاً "من موقف السعودية القوي من أحداث سوريا"، مع أن الصفار لم يعقد مقارنة بين النظامين، ولكنّه رفض القتل في المبدأ سواء كان القتيل واحداً أم مليوناً. الدوسري لم يجد ما يميّز به بين النظامين السوري والسعودي سوى أن الصفار عاد الى منزله سالماً ولم يمنع من الخطابة، والأجدى ألا يكون الدوسري وهو الذي ينتمي لمهنة الصحافة، التي تناضل من أجل الحرية، هو من يصدر عنه مثل هذا الموقف المخالف للحرية ولمهنة الصحافة.

على أية حال، فقد مارس النظام السعودي جريمة الاعدام ضد من لم يحمل سلاحاً ولم يحرّض على القتل، وغاية ما فعله هو ممارسة حقه في التعبير عن الرأي، وهو الشيخ الشهيد نمر باقر النمر وعشرات الشهداء وغيرهم من المحكومين بالإعدام أو بأحكام سجن قاسية..

الصفار انتقد "إطلاق النار على مواطنين عزّل"، وكان يفترض به من وجهة نظر الدوسري أن يساوي بين هؤلاء الذين سقطوا في مسيرات سلمية وبين إرهابيين، كيما تصبح الشهادة أن "القوات الأمنية تقوم بدورها لحماية الوطن من الإرهابيين".

لم يبد الدوسري أسفه لسقوط ضحايا أبرياء في القطيف، وكان له تفسيره الخاص "قلناها، ونكررها، لا نأسف ولا نعتب ولا نلوم ولا نحزن، على أولئك المتطرفين الذين يودون لو اشتعلت النار بنا جميعاً، ولنا مثل في كبيرهم الذي علمهم التطرف نمر النمر..". مع أن الأخير لم يدع لحمل سلاح بل كانت كلمته المشهورة "نحن أقوى بزئير الكلمة، وأضعف بأزيز الرصاص". وختم الدوسري مقالته برجاء للشيخ الصفار وقال: "تكفى يا شيخ لا تخيب أملنا فيك مجدداً!".

وفي مقال لاحق، امتدح الدوسري الشيخ الصفار لأنه طالب الشيعة بألا "يسكتوا على تيار التطرف الذي برز في أوساطهم والذي يعمل على استفزاز مشاعر الآخرين والنيل من رموزهم''، حسب تعبيره. الدوسري وفي مقالة له بعنوان "الصفار ومتطرفو الشيعة"، اقتطع كلاماً للشيخ الصفار يلبي رغبته، فاختار ما يتضمن نقداً لممارسات تيار ما في المكوّن الشيعي، فذهب به الى حد تصويره وكأنه التيار العام كقوله "التطرف الشيعي تمادى حتى غدا غولا.ً.."، كما اعتبره مستفزّاً لمشاعر المواطنين "وينال من رموزهم على مسمع العقلاء، ومَن كنا نظنهم عقلاء". دون أن يوضح من يقصده بـ"رموزهم" إن كان أهل الحكم، أم الرموز الدينيين.

لا يمارس الدوسري دور المراقب المحايد، فضلاً عن أن يكون مناصراً لحرية التعبير التي يفترض أن تكون نصب عين رجال الصحافة، بل بدا ناقلاً للرواية الرسمية، الأمنية، فكان، في الحد الأدنى، داعماً لما سوف تكون عليه الرواية الرسمية. فقد اختزل المشهد الاحتجاجي في هيئة حوادث لا تنتمي، في أغلبها على الأقل، للحراك المطلبي، أو حسب قوله "إطلاق النار على الأبرياء أطفالاً ونساءً، واعتداءات مسلحة على مدرسة ثانوية وسجن ومحكمة ومنشآت عامة وخاصة، وسرقات للمحال التجارية والمنازل؟(8) . وهذه في معظمها مجرد ادعاءات لم تقع، وما وقع منها تتعمّد الصحف الرسمية تظهيرها وإلصاقها بالحراك المطلبي لتبرير استخدام القمع بأشكاله القصوى، بما في ذلك تعمّد القتل للناشطين.

 
جمال خاشقجي: إخواني في البلاط الأمني السعودي

قد لا يبدو الموقف لدى الدوسري مقتصراً على مجرد حادثة سياسية، فثمة قراءة لواقع المكوّنات الشيعية مفتوحة على الأفق الخليجي عموماً، وتومىء من طرف ما الى الخلفية التي ينطلق منها الدوسري، والنموذج الذي يعتمده في تقييمه لتلك المكوّنات. وهو يفرّق بين نموذجين للشيعة، النموذج الثوري والنموذج المستقيل. وفيما يغيب دور الدولة وإخفاق مشروعها في الاندماج الوطني، يصبح الشيعة المكوّن الاجتماعي المسؤول عن الاخفاق. والمطلوب، بحسب مقاربة الدوسري، أن يلتزم الشيعة الصمت فإن أعطوا شكروا، وإن حُرموا صمتوا وصبروا، في دعوة للاستقالة.

يفرّق الدوسري بين شيعة البحرين الذين انتفضوا على سياسات الحرمان الممنهجة من قبل النظام الخليفي، وبين شيعة قطر والامارات الذين يعيشون هدوءاً ورضى. يفسّر الدوسري ذلك بأن الشيعة في هذين البلدين ينظرون الى أنفسهم بأنهم مواطنون أولاً قبل أن يكونوا شيعة. والحال، أن المواطنية التي يتحدث عنها الدوسري تكاد تكون معدومة، في بلدان أخرى، فضلاً عن فشل عملية الاندماج.

الدوسري يرى أن الاندماج مسؤولية المجتمع، بينما يغفل دور الدولة، مع أنها الإطار الإدماجي الأكبر، والمعني بتحقيق الانسجام والتوافق بين مختلف المكوّنات. يقول الدوسري بأن شيعة الإمارات وقطر "تمكنوا من الاندماج بصورة شبه كاملة مع باقي مكونات مجتمعهم المحلي..". والحال، أن نجاح الإندماج يتوقف على طرفين، إذ ليس بإمكان مكوّن ما أن يوفّر شروط الاندماج في نفسه، فيما تغيب شروط القبول لدى الدولة أو باقي المكوّنات.. ما يلفت، أن الدوسري يطلب من الشيعة تعميق مفاهيم المواطنة من خلال التأكيد على أنهم مواطنون وفقط. ولكن ماذا إذا لم تكن سياسات الدولة مؤسسة على هذه المفاهيم، بل هي سياسات تمييز على أساس مذهبي ومناطقي وقبلي، كما هو الحال بالنسبة للسعودية؟ يقول الدوسري "لا يمكن التفريق بين المواطن السني والمواطن الشيعي في هاتين الدولتين (أي قطر والامارات)، فالزي واحد واللهجة نفسها، بينما نرى الصورة، للأسف، مقلوبة بالكامل في الدول المجاورة"(9). كان الأجدر أن يضيف إليهما سلطنة عمان، فالإندماج فيها أقوى من أي دولة خليجية أخرى، والى حد كبير الكويت.

على أية حال، المسألة ليست بالبساطة، أو بالأحرى السذاجة، التي يتناول فيها الدوسري موضوع الاندماج، ومع ذلك فإن المشكلة تتعمق في دولتين خليجيتين، هما السعودية والبحرين، بسبب سياسات التمييز الطائفية التي اعتمدت منذ نشأة الدولتين، والتي حالت دون اندماج الشيعة، خصوصاً بعد أن تجاوزوا الإشكاليات الفقهية والعقدية المرتبطة بعلاقة المجتمع مع السلطة في زمن الغيبة بحسب التفسير الشيعي الكلاسيكي لمفهوم الغيبة(10) .

في تعليقه على مقالة الدوسري، كتب ناصر الصرامي مقالة بعنوان: (الشيعة في الإمارات.. الشيعة في الخليج!) أكّد فيه على تركيز عنصر الولاء وأنه الحل "والعمل على إعادة تأسيس هذا الولاء ودفعه، وقطع الطريق على أي توظيف طائفي محتمل لتغذية التوتر أو تهديد الاستقرار". ولكن الصرامي لا يخبر كيف يمكن تعزيز الولاء، هل مجرد بث أدبيات ثقافية في الولاء كاف لتعزيزه، أم أن الولاء "يحتاج إلى معاملة كل مواطن سعودي مهما كانت خلفيته الفكرية والمذهبية والطائفية وجنسه بمساواة مطلقة أمام الحقوق والواجبات الوطنية، حيث تتساوى الفرص خارج أي تصنيف مناطقي أو قبلي أو طائفي..". وهذا هو الصحيح، ولكن المشكل مع الصرامي هي في النتيجة بقوله: "وهذا هو السائد في المملكة وبقية دول الخليج.."، فحينئذ نكون أمام أزمة تشخيص وليس أزمة علاج(11) . إذ ليس هناك من بين الخبراء والمختصّين في الشأن السعودي من يقول بتحقّق مبدأ المساواة بين المواطنين، بل على العكس تماماً، هناك إجماع على أن السبب الرئيس في أزمة الهوية والانتماء، هو فشل او ضعف في سياسات الادماج الوطني في دول الخليج، وخصوصاً في السعودية والبحرين.

جمال خاشقجي، الاعلامي المقرب من استخبارات النظام، ومدير قناة "العرب" التي يملكها الوليد بن طلال، والتي ماتت في المهد، كتب تغريدة في 22 مايو 2015: "تفجير القديح عمل ارهابي طائفي بامتياز، حان وقت تجريم الطائفية ووضع تعريف صريح لجريمتها يخشاه الكبير والصغير، مالم نفعل فإنها فتنة كبرى". وتأتي تغريدة خاشقجي بعد عامين على كتابته مقالة بعنون (لا أريد أن أكون طائفياً ولكنّك لا تساعدني) والتي حمّل فيها الشيعة مسؤولية نزوعه الطائفي، لكونهم لم يتبنوا مواقف علنية وصريحة من النظام السوري، رغم أن الأغلبية الساحقة من الكتاّب السعوديين بمن فيهم خاشقجي نفسه لم يتبن موقفاً صريحاً مؤيداً للثورة الشعبية في البحرين، وما يأخذه خاشقجي وغيره على مثقفي الشيعة في المسألة السورية ينطبق عليهم وبذات المقدار في المسألة البحرينية. ثانياً، إن الاعمال الارهابية في المملكة كانت تقع في مناطق يقطنها الشيعة وينفذها أشخاص ينتمون للمذهب الوهابي(12) .

خاشقجي الذي يطالب مثقفي الشيعة بالاصطفاف الى جانب ما يعتقده ثورة شعبية في سوريا، حتى بعد انزلاقها نحو العسكرة والتطييف والتدخل الأجنبي، يتجاهل جاره الخليجي، أعني البحرين، التي شهدت ثورة شعبية حقيقية وسلمية منذ 14 فبراير 2011 وتعرضت لتدخل عسكري من قوات السعودية تحت مسمى درع الجزيرة. لم يكن لدى شعب البحرين سوى صرخاته وحضوره الشعبي ولم يطالبه أحد بموقف مناصر لهذه الثورة ولم يتّهمه أحد بالطائفية، رغم أن كثيرين وصفوها بالثورة الطائفية، فيما كانت شعاراتها واضحة وصريحة، وإن ضعف حضور المكوّن السني في الثورة لا يعني طائفيتها، بل قد تكون هناك أسباب أخرى تحول دون مشاركته ومنها الخوف من تبدّل جوهري في ميزان القوى.

في رد فعل على مقالة خاشقجي، كتب الباحث والناشط السياسي توفيق السيف في مقالة بعنوان (كن طائفيا أو كن ما شئت.. لكن لا تضحي بوطنك)، لخّص فيها مقالة خاشقجي على هذا النحو: "يا صديقي الشيعي كن معي في موقفي وإلا سأكون ضدك". في الترجمة الصريحة لموقف خاشقجي كما يراها السيف: المطلب المحدد هو ببساطة: "أن تكون عدواً لإيران وحزب الله"، وليس حق الشعب السوري في تقرير مستقبله بحرية. ويذهب السيف الى تداعيات مطلب خاشقجي على الواقع المجتمعي، لما ينطوي عليه المطلب من تبرير لحالة الاستقطاب المذهبي على أساس الأكثرية السنيّة في طرف، والأقليات الشيعية في طرف آخر. السيف أعاد خاشقجي الى الاطار الذي يفترض التحاكم اليه وهو الاطار الوطني، بالنظر الى أن المسألة السورية ليست مسألة وطنية يتحدد وفقها مصلحة الوطن ومستقبله وأمنه، حتى يستوجب من كل مواطن الافصاح عن موقفه من الثورة السورية(13) .

خالد الدخيل.. متلازمة إيران

انفرد الاكاديمي والكاتب الصحافي خالد الدخيل بسلسلة مقالات حول إيران، وربط الواقع الشيعي بها، فكان يصوّب على الشيعة من خلال اللافتة الايرانية. في واقع الأمر، إن رؤية الدخيل للأشياء من زاوية الصراع السعودي الايراني يجعلها مأزومة، لجهة عجزها عن تغطية كامل المشهد، والتوازن في التحليل وتالياً النتائج.

 
تركي الدخيل: نموذج الأكاديمي النجدي الطائفي

في مقالة بعنوان (المثقف الشيعي وإيران)، تحدّث الدخيل عن المثقف الشيعي في الخليج وما يميّزه عن غيره. فهو، من وجهة نظره، يطالب بالمساواة مع الآخرين، وثانياً أنه يتبنى موقفاً نقدياً وأحياناً ما يكون حاداً من الدولة التي ينتمي إليها، وهذا أيضاً حق له. ثالثاً أن هذا المثقف يميل في الأغلب إلى موقف الصمت أو "الحياد" الصامت إزاء تجاوزات وأخطاء قوى أو حركات أو أحزاب تتقاطع مع هويته المذهبية. ليخلص الى نتيجة مفادها : "أن هذا المثقف ـ الشيعي ـ ينطلق في مطالبه ومواقفه النقدية من كونه شيعياً أولاً، وليس من كونه مواطناً من حقه أن يتساوى مع الآخرين".

كما هو حال كثير من الكتاب السعوديين المقرّبين من السلطة، يبدو التناقض واضحاً في كلام الدخيل، حين يلزم المواطن الشيعي من موقعه المذهبي تبني مواقف من حوادث خارجية تقع في سياق مذهبي، كالموقف من ارتكابات في العراق ضد السنّة، في الوقت الذي يطالب فيه الشيعي بتقديم انتمائه الوطني على انتمائه المذهبي في حراكه المطلبي الحقوقي. ثانياً، إن مطالبة الدخيل من المثقف الشيعي تبني مواقف إزاء قضايا خارجية، ومن خلفية مذهبية، لا تستقيم مع المطالبة بتأكيد الانتماء والولاء للوطن. في حقيقة الأمر، أن الدخيل يخفي نزوعه المذهبي خلف عناوين عامة تتجاوز الوطن والدولة، الأمر الذي يثير أسئلة حول مدى قوة تأثير المرجعية الثقافية الليبرالية التي ينطلق منها.

(متلازمة ايران) حاضرة وموجّهة، كما هي العادة في مقالات الدخيل عن إيران، إذ تراوحت مقاربته لموضوع المثقف الشيعي وإيران بين خيانة الأول، ومؤامرة الثانية، وما بينهما تفاصيل غير ذات أهمية سوى ما تدعم هذه التهمة أو تلك. لم يجد الدخيل ما يستند إليه لتعزيز مقاربته سوى كتاب (الحراك الشيعي في السعودية) لمؤلفيه بدر الإبراهيم ومحمد الصادق، مع أن الكتاب رجع الى عشرات المقابلات مع قادة الحراك وأصحاب التجارب العريقة فيه، ومن يملكون تفاصيل مستفيضة حوله، منذ بداية الثورة الاسلامية الايرانية حتى اليوم.

من وجهة نظر الدخيل، فإن المثقف الشيعي كي يثبت وطنتيه عليه أن يشبع إيران سبّاً في صراعها مع السعودية. يرسم الدخيل للمثقف الشيعي خارطة طريق في التعاطي مع الخلاف الايراني السعودي، ويضع لذلك معايير في الوطنية والاستقلال. وبرغم من استبعاده العنصر المذهبي في توجيه النقد لإيران، تبدو "ظلال الانتماء المذهبي وتأثيره في الموقف السياسي" هي الموجّه الفعال في كل ما يقوله، وينطبق على الدخيل ما يفترضه في المثقف الشيعي حين "يرفض الطائفية في مكان، ويتغاضى عنها في مكان آخر"، فهو يرفض طائفية ايران، ولكن لا يقابلها بنفس الحدّة في السعودية أو في البحرين(14) .

وشأن كثير من مثقفي السلطة، فإن الدخيل يتحفظ على وطنية شركائه الشيعة، ما لم يتبنوا ذات المواقف التي يحملها هو، ومن ورائه السلطة في ملفات إقليمية، سواء في العراق أو سوريا والبحرين، وصولاً الى اليمن وما قبلها وما بعدها الملف الايراني. فالخلاف لم يعد على قضايا محلية، وما إذا كان المكوّن الشيعي، وباقي المكوّنات الصوفية، والاسماعيلية وغيرها، لها حقوق متكافئة مع المكوّن الوهابي النجدي (الأقلوي) في الدولة، بوصفها اطاراً جامعاً وملكاً عاماً يتمتع فيه مواطنوها بحقوق متساوية، وتفرض عليهم واجبات متكافئة.

تغيب مبادىء الدولة الوطنية في كتابات الدخيل، وتحضر النزعة الطائفية بسطوة كما في مقاله الموسوم (أوباما وحلم التفاهم مع إيران/ الشيعية ضد الجهاديين السنّة). في ضوء قرار أوباما إلغاء فكرة الحرب في سوريا، يتساءل الدخيل عن سر تمييز أوباما بين الجهاديين السنّة، ويقصد بهم تنظيم "داعش" والجهاديين الشيعة!

افترض الدخيل بأن "تحوّل سورية إلى حكومة مستقرة تمثل الشعب سيكون خسارة كبيرة لإيران". وأن من بين أهداف التفاهم الذي يطمح أوباما إليه مع إيران هو "محاربة الجهاديين السنّة". وأن إيران تملك سيطرة كاملة تقريباً على ميليشياتها الشيعة، والعكس صحيح بالنسبة للدولة العربية، وبالتالي فإن ايران هي الأقدر في هذه المرحلة على ضبط الوضع في المنطقة!

الدخيل الذي يحاول زعماً تقديم رؤية متوازنة يضع الجهاديين الشيعة، على قدم المساواة مع الجهاديين السنّة، وليس أي سنّة بل داعش، يقول: "لماذا يتم استبعاد الجهاديين الشيعة، وهم لا يقلّون دموية وإرهاباً عن الجهاديين السنّة؟"(15) .

لقد بات من أهداف الدخيل وعشرات الكتّاب من المثقفين المقرّبين من السلطة الترويج لفكرة واحدة: أن حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، وأنصار الله في اليمن، يتساوون مع داعش والقاعدة وفروعهما. قد يشي هذا التوجّه بحقيقة الارتباط الإيديولوجي بين السعودية والتنظيمات المصنّفة بالارهابية عالمياً، مثل داعش والنصرة. وعليه، فإن وضع التنظيمات الشيعية في مستوى واحد مع داعش والنصرة، يحول دون استهداف الايديولوجية الوهابية وتحميلها مسؤولية التحريض على الارهاب، برغم من أن الهجمات التي تطال أماكن عديدة من العالم يقوم بها أشخاص ينتمون الى المذهب الوهابي حصراً، فيما لم يسمع العالم عن قيام عناصر شيعية بتفجير نفسها في أماكن عامة في أي عواصم عالمية أو عربية أو حتى في بلدانها.

في مقالة بعنون (مواجهة الخطاب المذهبي) يفترض خالد الدخيل بأن ايران نجحت في فرض خطابها المذهبي. السؤال كيف؟

يفترض الدخيل بأن الطائفية بدأت منذ قيام دولة دينية في ايران بعد انتصار ثورتها عام 1979، وأنها تريد "أن توظف هذا الواقع الطائفي العربي لمد نفوذها، وفرض خياراتها". هو يحمّل ايران مسؤولية ولادة وترعرع الخطاب الطائفي، وهذه واحدة من تظهيرات الطائفية لدى الدخيل، الذي يغفل سياسات التمييز الطائفي منذ نشأة الدولة السعودية حتى اليوم، والتي يمكن أن يجدها في الاختلال العميق في تقاسم السلطة والثروة، وفي التعليم، وفي القضاء، وفي الحريات الدينية، والحقوق المدنية، وقبل أن تولد الجمهورية الاسلامية الايرانية، بل وفي وقت كانت فيه علاقة السعودية مع ايران الشاه في مرحلة انسجام، وكانا يتقاسمان سياسة "العمودين المتساندين" الاميركية في حفظ الأمن في الخليج.

وفيما يتلطى مشايخ الوهابية وراء عناوين دينية عامة مثل (الامة الاسلامية)، يلوذ الدخيل بالعنوان القومي مثل "الدول العربية" لاضفاء صدقية على مدعياته، مع أن سياق حديثه يكشف عن أن المقصود بالدول العربية، ليست شيئاً آخر وحصرياً سوى الدولة السعودية. وما يراه الدخيل مشروعاً طائفياً إيرانياً، لا يرى مثله بل أخطر منه في السعودية. طائفية الدخيل جعلته يرفض حتى وقوف ايران الى جانب حركات المقاومة في فلسطين ولبنان بل اعتبرها "كذبة"، وفي لحظة ما "مؤامرة" على "الثورة السورية"، وإن الكذبة تسبب في إرباك العالم العربي، حسب قوله.

من المتبنيات الطائفية لدى الدخيل أن "إيران كدولة دينية على أساس مذهبي هي الوحيدة في ذلك". فماذا عن السعودية التي تعلن صراحة أنها دولة سلفية وأنها دولة الاسلام، كما صرّح بذلك الامير نايف في مناسبات عدّة. مثال: في 27 نوفمبر 2008 وفي كلمة بالجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة قال الأمير نايف بما نصّه: "هناك جهات معادية للإسلام بشكل عام، ومعادية لدولتنا دولة السنة، والدولة التي تنهج نهج السلف الصالح، فنحن دولة سلفية ونعتز بهذا والسلفية"(16) . ويمكن العودة الى ما ورد آنفاً لما قاله الملك سلمان عن الدولة السعودية. وهناك تصريحات مماثلة للأمراء السعوديين تدور حول نقطة واحدة: أن السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي تطبق الشريعة وفق اجتهادات احمد بن حنبل.. فإن لم تكن هذه مواصفات الدولة الدينية فما هي الدولة الدينية؟

يوجد الدخيل تفريقاً مثيراً بأن (الدول العربية = السعودية) تختلف في أنها ليست دولاً دينية "وإنما مرتبطة بالدين من ناحية سياسية وليست دستورية". كيف يكون ذلك؟! وهل الطائفية مرتبطة بتفريق بين سياسي ودستوري، والبلاد محكومة بمعايير مذهبية في السياسات وفي التشريعات. فهناك من يجادل بأن الفصل بين الدين والدولة في إيران أكثر منه في السعودية بمسافات طويلة.

يعقد الدخيل الأمل على السعودية لناحية تقويض الخطاب الطائفي، من خلال فصل الدين عن الدولة، وتفكيك بنية الطائفية، ولكن السؤال كيف؟، إن لم تحدث تغييرات بنيوية في الدولة السعودية نفسها، أي في الأسس التي قامت عليها وضمنت مشروعيتها وتماسكها ووحدتها(17) . وثانياً، أليس في ذلك إقرار غير مباشر بأن السعودية دولة دينية؟

 
داوود الشريان: اعلامي في خدمة الوطنية النجدية!

في استحضاره لثنائية ايران ـ السعودية، يتبنى الدخيل موقفاً دفاعياً، وينفي صفة الدولة الدينية عن السعودية، ويقول أن "تصنيف السعودية بأنها سنية بالمعنى الطائفي غير دقيق، ذلك أن السعودية وإن كانت دولة سنية، فإن تعاملها مع القضايا العربية ليس فيه أي بعد طائفي.." وضرب أمثلة لذلك بأنها تحالفت مع علي عبد الله صالح الزيدي، وحافظ الأسد العلوي، ولديها علاقات مع المسيحي سمير جعجع. ولكن السؤال: من يقول أن السعودية تعاملت مع علي عبد الله صالح من موقعه الزيدي، أو الأسد من موقعه العلوي، وهل كان صالح والأسد يقدّمان نفسيهما على أساس الانتماء المذهبي، كما تفعل السعودية الآن في مواقفها إزاء العراق وايران وسوريا واليمن والبحرين، وحتى مع المكوّن الشيعي داخل المملكة؟. يقول الدخيل بأن "السعودية تختلف كليًا عن إيران، فالبعد الطائفي غير موجود في السياسة الخارجية السعودية.."(18) . فهل كان مجرد صدفة أن تتحرك الرياض لجهة بناء تحالف يضم أكبر الدول السنيّة مثل باكستان وتركيا وأندونيسيا ومصر في مواجهة إيران، أم صدفة أن تكون علاقاتها سيئة مع الدول ذات الأغلبية الشيعية، أو المصنّفة في خانة الدول الحليفة لإيران أو حتى الاحزاب والجماعات الشيعية. وفق منطق الدخيل، هل كان دعم ايران لحركتي حماس الإخوانية، والجهاد من منطلق طائفي أيضاً؟

في المحصلة، تميّزت كتابات الاعلامي والأكاديمي خالد الدخيل بنبرة طائفية عالية. فلا يكاد يخلو مقال كتبه الدخيل طيلة عام من تولي سلمان العرش، وما قبل ذلك، من تكرار مقولتين: الأولى ان ايران منبع الخطاب المذهبي بسبب تركيبة نظامها. والثانية انه لا يجوز التركيز على التنظيمات الارهابية السنيّة من دون التركيز وبنفس القدر على المنظمات الارهابية الشيعية.

لا يخفي الدخيل هواجسه إزاء إيران، ويغيظه كثيراً وقوفها في وجه القوى الكبرى، وصمودها أمام الضغوطات والعقوبات الغربية، حتى استطاعت انتزاع اعتراف الولايات المتحدة بها دولة نووية، وفرضت على العالم احترام خياراتها، واستقلال قرارها السياسي. وأكثر ما يغيظ الدخيل تنامي دور إيران الاقليمي والدولي. ولا يجد مجالاً للتنفيس عن ذلك سوى اتهام الولايات المتحدة بأنها المسؤولة عمّا آلت اليه الأوضاع في المنطقة، خصوصاً بروز الدور الايراني، بسبب ما يراه من عدم حزم واشنطن في التعاطي مع طهران والاتفاق النووي، كما في مقالاته "المشكلة في واشنطن وليس في طهران" (10 مايو 2015)، و"أوباما يدفع المنطقة نحو الهاوية" (22 فبراير 2015)، و"السياسة الأميركية المدمرة" (15 فبراير 2015)، و"أوباما وحلم التفاهم مع ايران الشيعية ضد الجهاديين السنّة".(4 يناير 2015). فالدخيل يخفي نزعته الطائفية المضمرة عبر استدعاء ايران بصورة مكثّفة، وقد توضّح ذلك في مواقف له من الهجمات الارهابية في المساجد الشيعية بالمنطقة الشرقية.

من جهة أخرى، لا ينفك الدخيل عن سعيه لشيطنة ايران (الشيعية)، وهو يتجاوز عن كل مساوئ النظام السعودي ويلصقها بإيران: يصف ايران بأنها "أول دولة دينية" في المنطقة، ثم يتهمها بالتكفير كما في مقاله "ايران: التكفير المباشر والتكفير المستتر" (26 ابريل 2015).

ويبدو ان الدخيل في مقالاته كان يسعى الى الوصول الى خلاصة مفادها، أن ايران هي العدو وليست اسرائيل، ولا مناص من التصدي لها ومواجهتها بكل السبل، كما في مقاله: "ايران إسلامية.. لكنها عدو" (5 أبريل 2015)، الأمر الذي تجلى بعملية "عاصفة الحزم"، إذ قال: "إذا كانت عاصفة الحزم موجّهة عسكرياً للحوثيين، فإنها سياسياً موجهة لايران".

بدا الدخيل منتشياً بـ"عاصمة الحزم" باعتبارها "فعل قوة سعودية"، و"استعادة الكرامة المهدورة"، رغم عدم تحقيق أي من أهدافها الرئيسية في اليمن، على الأقل حتى كتابته المقالة، ووصل الى حد اعتباره الحرب العدوانية على اليمن، رافعة لـ "المشروع العربي المفقود".

في المحصلة، إن المرجعية التي يستند اليها الدخيل لا صلة لها بالدولة، بقدر ما هي مرجعية الصراع السياسي الذي يملي خطابه وجغرافيته، ما يجعل التحاكم على قيم تقع خارج منظومة الدولة.

يندرج في السياق نفسه، الإعلامي النجدي هو الآخر، داود الشريان، وقد كتب في 16 ابريل 2015 مقالاً في (الحياة) بعنوان "اعتذار لمواطن لبناني"، على خلفية (وليس رداً) حملة كتّاب سعوديين على الشعب اللبناني بسبب مواقف "حزب الله" من الحرب السعودية على اليمن. تلك الحملة التي توّجها مساعد رئيس التحرير في صحيفة (الحياة) جميل الذيابي بمقال "اطردوا الأشرار" (22 ابريل 2015)، والمقصود بالأشرار: اللبنانيون العاملون في الخليج.

ورغم ان الشريان يقول: "وسيبقى تأثير هذه الحملة محصوراً في من يقف خلفها"، وانه "لن يكون لهذه الحملة تأثير أو مس بمصالح اللبنانيين وكرامتهم" في السعودية.. وبالرغم من أن مقاله لا يمس مواطنين في المملكة، الا أنه تعمّد في مقالات أخرى لاحقة الخوض في النقاش المذهبي، فكتب سلسلة مقالات متشابهة في (الحياة) يركز فيها على "حزب الله" والشيعة من زاوية مذهبية، ويتوجها بمقالة بعنوان: "ما هو موقف الشيعة في لبنان؟" (10 مايو 2015) يجبّ فيه كل ما كتبه في مقاله "الاعتذاري"، ويكرّر بشكل شبه كامل ما كتبه الذيابي بحق اللبنانيين، وليؤكد التحاقه بحملة الكتاب السعوديين (النجديين تحديداً) العنصرية والاستعلائية.

الاستعلاء يكاد يتجلي في كل كلمة في مقال الشريان، وبدا وكأنه قاض أو مفت في "المدينة الفاضلة" يسأل ويحاكم ويعاقب. وهكذا بالجملة. كل الشيعة مطالبون بالادلاء بمواقفهم لدى محكمة الشريان. وفي حال كانت مواقف الشيعة غير متوافقة مع رغبة الشريان فالحكم هو: طرد العاملين اللبنانيين الشيعة في دول الخليج، وسحب الاستثمارات السعودية والخليجية إن أمكن ذلك من لبنان. وفي نبرة استعلائية لا تخلو من مذهبية مقيتة يقول الشريان: "نريد من العرب الشيعة في لبنان موقفاً عربياً، يليق بتاريخهم ووطنيتهم".

ولفهم الخلفية الحقيقية التي ينطلق منها الشريان، تكفي نظرة خاطفة على عناوين المقالات التي نشرها في "الحياة" في فترة محدّدة: "المواجهة الجديدة مع حزب الله" (7 مايو 2015)، "هل نستمر في النقاش المذهبي أم نتوقف" (25 ابريل 2015)، و"حكاية تاريخنا المذهبي" (26 أبريل 2015)، و"ماذا قدّم حزب الله للعرب الشيعة؟" (23 أبريل 2015)، و"إعلام حزب الله بين قطيش والذايدي" (21 أبريل 2015)، و"نزع سلاحه ضرورة" (20 أبريل 2015).

ليست المرة الأولى التي يجنح فيها الشريان نحو مواقف منحازة وبعيدة عن المهنية. سقطته المهنية المدوّية حصلت خلال تغطية برنامجه "الثامنة" لجريمة مجزرة الدالوة في الاحساء في 4 نوفمبر 2014.

ما يبعث على الغرابة، أن الرسائل التحذيرية من الجانب السعودي للبنان من أجل استدراجه للوقوع في النفوذ السعودي بصورة كاملة، بقيت تتكرر لاحقاً، وهذا ما حصل في الأزمة المفتعلة بين الرياض وبيروت عقب قرار السعودية المفاجىء بوقف الهبة العسكرية للجيش اللبناني في 21 فبراير 2016. وفي التداعيات بدأت السعودية ومعها عدد من الدول الخليجية وعلى رأسها البحرين والامارات بتنفيذ بعض الاجراءات العقابية ضد مواطنين لبنانيين في الخليج وخصوصاً الشيعة بالترحيل أو تقليص امتيازاتهم. وكانت البداية تتمثل في إيصال رسائل الى كل السعوديين بمغادرة الاراضي اللبنانية على الفور، ثم تلاحقت الإجراءات التي تعبّر عن نيّة مبيّتة لدى الجانب السعودي بقطع الطريق على أية تسوية لبنانية أو إقليمية عقب التفاهم الروسي الاميركي حول الأزمة السورية.


هوامش

1- Rori Donaghy, Saudi Arabia's Shiite community protest sectarianism after deadly mosque attack, MiddleEastEye, 23 May 2015;

http://www.middleeasteye.net/news/saudi-arabias-shiite-community-protest-sectarianism-after-deadly-mosque-attack-1339755529

2- http://www.tvwesal.com/about.php

3- Saudi Arabia shuts office of TV channel for fomenting sectarian tension, Reuters, Nov 5, 2014

http://uk.reuters.com/article/us-saudi-television-idUSKBN0IP1BB20141105

4- طارق الحميد، السعودية.. مثقفو الشيعة والبيان الفضيحة، صحيفة (الشرق الأوسط)، بتاريخ 24 مارس 2013

http://archive.aawsat.com/leader.asp?article=721980&issueno=12535#.Vlh1pr_j98A

5- الإعدام يطوق خلية التجسس، صحيفة (الوطن) 23 فبراير 2016، أنظر الرابط:

http://alwatan.com.sa/Local/News_Detail.aspx?ArticleID=253894&CategoryID=5

6- د. محمود محمد بترجي، النبرة المذهبية، الاقتصادية، 10 مايو 2013، أنظر:

http://www.aleqt.com/2013/05/10/article_754577.html

7- ناصر القفاري، عودة الغزو الباطني، جريدة (اليوم)، بتاريخ 29 إبريل 2015 أنظر:

http://www.alyaum.com/article/4063521

8- سلمان الدوسري، الصفار ومتطرفو الشيعة، جريدة (الاقتصادية)، 2 مارس 2013، أنظر الرابط:

http://www.aleqt.com/2013/03/02/article_735696.html

9- سلمان الدوسري، أين شيعة الإمارات وقطر؟، صحيفة (الشرق الأوسط)، 2 إبريل 2011 أنظر:

http://archive.aawsat.com/leader.asp?article=615419&issueno=11813#.Vk29ZE1Oc5s

10- يمكن العودة الى كتابي الشيعة في السعودية، دار الساقي، بيروت 2007 والذي يعالج موضوع الاندماج الوطني.

11- ناصر الصرامي، الشيعة في الإمارات.. الشيعة في الخليج..!05 أبريل 2011م أنظر:

http://www.alarabiya.net/views/2011/04/05/144313.html

12- جمال خاشقجي، لا أريد ان أكون طائفياً..ولكنّك لا تساعدني، صحيفة (الحياة)، 21 يونيو 2013، أنظر الرابط:

http://www.alhayat.com/Details/525755

13- توفيق السيف، كن طائفيا أو كن ما شئت.. لكن لا تضحي بوطنك، صحيفة (الاقتصادية)، بتاريخ 25 يونيو 2013، الرابط:

http://www.aleqt.com/2013/06/25/article_765499.html

14- خالد الدخيل، المثقف الشيعي وإيران، صحيفة (الحياة)، 22 مارس 2014،

http://goo.gl/wsdgYY

15- خالد الدخيل، أوباما وحلم التفاهم مع إيران الشيعية ضد الجهاديين السنّة، صحيفة (الحياة) 4 يناير 2015 أنظر الرابط:

http://goo.gl/mtM9EW

16- الأمير نايف والسلفية، في لقاءالأمير نائف حفظه الله في الجامعة الإسلامية في ليلة الخميس الموافق 28/11/1429هـ، موقع (الاسلام العتيق)، أنظر الرابط:

http://islamancient.com/play.php?catsmktba=2355

17- خالد الدخيل، مواجهة الخطاب المذهبي، صحيفة (الحياة) 3 مايو 2015،

http://goo.gl/S9ayNR

18- خالد الدخيل يرصد الأهداف الاستراتيجية لتغير موقف السعودية من إخوان مصر، شؤون خليجية، 23 يوليو 2015، أنظر الرابط:

http://goo.gl/fY3ft3

الصفحة السابقة