تمثال ابراهيم باشا مغطى حتى لا يخدش مشاعر الملك سلمان!

الأخطر في زيارة سلمان الى القاهرة

هل يقع الأزهر في الأسر الوهابي؟

تغطية تمثال ابراهيم باشا، قائد الحملة المصرية ضد حكم الوهابيين آل سعود في نجد في القرن التاسع عشر الميلادي، والتي أدت الى إسقاط الدولة السعودية وأسر قيادات نجد السياسية والدينية.. تغطيته أثناء مرور موكب الملك سلمان، كان مؤشراً واضحاً على عبء التاريخ المطروح على كاهل علاقات البلدين: مصر والسعودية. فالملوك والأمراء ليس فقط لا يتحمّلون رؤية التمثال الذي يذكّرهم بالهزيمة، وإنما أيضاً هو تعبير عن انتصار سعودي جسدته زيارة تاريخية للملك السعودي.

الحكومة المصرية بررت الأمر بـ (أعمال صيانة)؛ وهي كذلك حقاً، ولكنها صيانة ليست للتمثال، وإنما صوناً لمشاعر الوفد السعودي النفسية من تأثيرات مشهد ابراهيم باشا.

نعم.. للتاريخ حكمه في هذا الأمر، ولا يمكن استئصال مخاوف الرياض من مصر، ولا طمعها في السيطرة عليها واستخدامها كأداة في استراتيجيتها.

لكن الذي طغى على زيارة الملك سلمان ـ ومن وجهة نظر السعوديين العاديين ـ أمران:

الأول ـ حجم الإنفاق السعودي على الزيارة، بما تشمله من عقود ضخمة، استثمارية، أو إعانات.. وهو ما أزعج المواطن العادي جدّاً، في ظروف التقشف، والغلاء، وزيادة الضرائب. ويرى المواطنون أن إنفاق تلك الأموال أمر غير مبرر، وأن البلاد والشعب المُسعوَد أولى بها، وأكثر حاجة اليها.

والثاني ـ تنازل مصر عن جزيرتي صنافير وتيران في خليج العقبة. وهذا أمرٌ بقدر ما فجّر أزمة شعبية كبيرة في مصر بوجه السيسي، فإنه خفّف من وطأة ما صُرف مقابل ذلك؛ وكأن المواطن لم يستشعر أهمية تلكم الجزيرتين إلا من خلال ردّ الفعل المصري الشعبي الحادّ والعنيف.

النخبة السعودية ـ النجدية بالتحديد ـ والتي هي أكثر التصاقاً بالموقف الرسمي، وأكثر إدراكاً لأهداف النظام، والتي تدير الدولة السعودية فعلياً رغم أقلويتها، كانت تدرك قيمة التحالف الاستراتيجي بين البلدين، بغض النظر عن الأكلاف المالية العالية. فأنْ تضع حكومة الرياض (القاهرة) في جيبها، وأن تسيطر على مؤسساتها لتكون خادمة للمشروع السعودي، فذلك يتطلّب تنازلات مالية كبيرة، حتى وإن لم يدرك عامة المواطنين اهمية ذلك.

يعبّر عن هذا الموقف تركي الحمد، فيقول مبرراً وبشكل مكثّف: (الكثيرون ينتقدون المليارات التي أنفقت على مصر واليمن. القضية هنا قضية وجود. فإذا انتفى الوجود فلا معنى للنقود). فما تقوم به الرياض ـ من وجهة النظر هذه ـ يرقى لأن يكون دفاعاً عن (وجود) الدولة السعودية نفسها. سواء عبر العدوان على اليمن، أو الدعم الاستراتيجي لمصر، إذ ليس المقصود هنا الدعم (لوجه الله)! وإنما أهداف الدعم بما تحمله من سيطرة وهيمنة سعوديتين، تجعل مصر مجبرة ـ بسبب الحاجة ـ على أن تكون برغيّاً في الاستراتيجية السعودية.

لكن الأخطر على مصر، ليس التنازل عن جزيرتي صنافير وتيران، وهما جزيرتان صنّفتا ضمن المحميات حسب وزارة البيئة المصرية.. وليس الأمر متعلق فيما اذا كانت الرياض ستدفع ثمنهما، والأرجح أنها لن تدفع الا بعض الثمن، وتجعل المصريين يلاحقونها ويركعون اليها لسنوات قادمة.

 

وليس الخطر على مصر من السعودية قادم من الجسر الذي قيل أنه سيربط بين البرّ السعودي وسيناء عبر الجزيرتين آنفتي الذكر.. فالأرجح أن الرياض (قد) تعمد الى عمل جسر الى تلك الجزيرتين، تأكيداً لسيادتها عليها، ولكن من المستبعد (حدّ الإستحالة تقريباً) أن يكون هناك جسر أو نفق بين الجزيرتين الى سيناء. فلا هو بمشروع اقتصادي، ولا الرياض لديها الاستعداد للإيفاء بتعهداتها بهكذا مبالغ ضخمة. وبالتالي لا مبرر كبير بأن السعوديين سيزحفون على مصر، وينشرون الإنحلال الأخلاقي اكثر مما هو موجود الآن. ولا مبرر أيضاً للحديث عن قدوم سعوديين عبر الجسر المقترح لكي يفجّروا العنف والإرهاب في مصر!

أيضاً ليس الخطر الأكبر على مصر كامنٌ في حقيقة التبعية السياسية والاستراتيجية لمصر، فلطالما كانت الأخيرة تابعة منذ عهد حسني مبارك، اللهم إلا في بعض المواقف المحدودة، التي لا يغير الموقف المصري منها شيئاً كثيراً، بما في ذلك الموقف من ايران وسوريا مثلاً. فضلاً عن أن مصر اليوم ليست في وارد لعب دور إقليمي مهما كانت تريد تنشيطه، فهي مشغولة ـ وستبقى مشغولة لفترة طويلة ـ بأزماتها السياسية والأمنية والإقتصادية المحلية، بما لا يدع لها مجالا لممارسة ترف الزعامة العربية التي شغر مقعدها منذ ثلاثة عقود على الأقل!

الخطر الحقيقي الذي يواجه مصر هو (التبعية الدينية)، أو لنقل (الإختراق المذهبي الوهابي) لحصن مصر المعتدلة، ونقصد به الأزهر. فحتى في زمن حسني مبارك لم يتجرّأ السعوديون ليفكروا ـ مجرد تفكير ـ في أن يسيطروا على الأزهر، ويغيروا اعتداله الى داعم للوهابية التي تنشر الخراب والفساد والتكفير والعنف في كل العالم بلا استثناء.

المؤسسة الدينية الوهابية السعودية كانت ترى في الأزهر منافساً. وكانت ترى أنها أضعف من أن تواجهه مباشرة بالفكر والرأي. وكانت القيادات السياسية المصرية، بمن فيهم حسني مبارك، يرون أن الأزهر هو دعامة لنفوذهم في افريقيا وغيرها، وأنه عمود يُستند اليه لمكافحة التطرف الديني، القادم من الخارج ـ السعودية. وايضاً كان الأزهر ـ كما مؤسسات دينية اسلامية وعربية اخرى ـ يمثل عنواناً لاستقلال مصر الديني عن الوهابية في الفتيا وفي تأطير المواطنين حتى وإن كانوا خارج الحدود.

لهذا، كان الأزهر تابعاً للدولة. ولهذا كانت الدولة تراه جزءً لا يتجزّأ من أجهزتها التي لا يسمح لأحد بالإقتراب منها.

لكن سقوط حسني مبارك، وافتراق الإخوان المسلمين المتزايد عن الأزهر، أفسح المجال للنفوذ السعودي لأن يطمعوا في السيطرة على الأزهر، وقد قام عبدالله عبدالمحسن التركي، وزير الشؤون الاسلامية السابق، والرئيس الحالي لرابطة العالم الاسلامي، بزيارات هندست السيطرة على الأزهر، وشراء العديد من مشايخه. كان هذا حتى قبل أن يتم انقلاب السيسي على حكم الإخوان. بل ربما كان انقلاب السيسي ـ بهندسة سعودية ـ لم يكن ليتحقق وينجح لولا النفوذ السعودي في الأزهر، ولدى النخبة السلفية المصرية.

ولأن الدولة المصرية في حالة ضعف، فقد أصبحت نهباً للإمارات والسعودية وقبلهما قطر. والرؤية السعودية اليوم تستكمل ما كانت قد قامت به، إذ ان الغرض من زيارة سلمان، ضمن أغراضها الأخرى، هو السيطرة على الأزهر، وهو طموح لم يكن السعوديون الوهابيون يحملونه في الأساس إلا منذ خمس سنوات فقط. فهل سيتحقق لهم هذا الحلم؟

ان لم يجد السعوديون رادعاً من الحكم المصري نفسه، فالأرجح ان الرياض ستسيطر على الأزهر بمالها، ليس فقط عبر شراء المشايخ، وهو أمرٌ فعلته وتفعله، وهي قادرة على الإستمرار فيه، ما لم يتوازى بضغط حكومي مصري يوقفه.. وإنما أيضاً، عبر الدخول عميقاً في المؤسسات الأزهرية بحجة الدعم: دعم اسكان الأزهر مثلاً!! او ما سمي مدينة البعوث، وهو حي سكني للأزهر يسكنه طلابه القادمون من الخارج، تم تأسيسه في ١٩٥٤، والآن يريد السعوديون المساهمة فيه.

السيطرة على الأزهر تعني ـ سعودياً ـ السيطرة على العالم الاسلامي السنّي كاملاً وليس ان يكون لهم حصة فيه، وتعويم المذهب الوهابي وفكره ليكون حاكماً من وراء الستار. باسم الأزهر تستطيع السعودية ان تتمدد الى مواقع لم تصلها، وأن ترث الأزهر (وهو حيّ!)، وأن تدافع عن مذهبها التكفيري، بل قد تدرّسه في الأزهر نفسه، وتفرض رؤيته تالياً على الأجيال المصرية وغير المصرية. بكلمة، قد يصبح الأزهر مجرد نسخة من (الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة) التي خرجت عشرات الآلاف من الدعاة، أصبحوا فيما بعد أعمدة للقاعدة وداعش منتشرين في كل الدنيا.

اليوم يستطيع المرء أن يقول ويحاجج بأن خريجي الأزهر شيء، وخريجي السعودية شيء آخر. لكن في الغد، قد لا تصمد هذه المعادلة اذا ما استطاعت السعودية احكام سيطرتها عليه من خلال النزعة الخيرية الطارئة لدى الملك سلمان!

وفي كل الأحوال، فإن الرياض أشعلت أزمة للسيسي بدلاً من أن تدعمه، من خلال الاعلان عن ان جزيرتي صنافير وتيران سعوديتان!

اصبح السيسي صغيراً في عيون حتى مؤيديه، حين فرّط في الحقوق الوطنية المصرية، خاصة وأنه هو من اتهم حكم مرسي الإخواني بأنه يريد بيع مصر وقناتها الى قطر.

لأول مرّة يجد السيسي تياراً شعبياً ورسمياً خرج عن طوره ليعارضه في موضوع الجزر، فهل كانت الرياض تريد إضعافه؟

كلا.. لكن الرياض تريد اضعاف مصر او ابقائها ضعيفة من ناحية الدور الاستراتيجي الذي تمثله والذي يفترض ان تقوم به على الصعيد الاقليمي، وذلك من خلال بقاء السيسي ورجال النظام القديم في الحكم. لكن الجزيرتين، أوجعتا المصريين، وأطلقت سهاماً أصابت الرياض نفسها، وشكلت بوادر سخط عارم ضد السعودية نفسها، وليس فقط ضد السيسي.

ماذا تفيد الجزيرتان الرياض، اذا خسرت الشعب المصري نفسه؟ أو خسرت جزءً غير قليل من النخبة المصرية إيّاها؟ ماذا تفيد إذا كان الدستور المصري، والنزعة الوطنية المصرية الحادّة، تجعلان من سيطرة السعودية على الجزيرتين سرقة ونهباً غير شرعيين، بما يعني خلق مشكلة بين البلدين لأمد طويل قادم؟

هل الرياض بحاجة الى مجرد زيادة جزيرتين، مساحتهما لا تزيد كثيراً عن مائة كيلومتر مربع؟ أي بعد استراتيجي قد يفيد الرياض، في حين قد يوقعها في مشاكل او علاقات مباشرة مع اسرائيل باعتبار الرياض وريثاً لمصر كامب ديفيد على الجزر؟ ربما تريد الرياض علاقات مع اسرائيل مباشرة، وقد تستفيد من الجزيرتين كحجة، ولربما لهذا السبب لم تمانع اسرائيل بأن تتحول السيادة المصرية على الجزيرتين الى السعودية. وقد اعلن الصهاينة فعلاً بأن الرياض أرسلت الى تل أبيب بما يشبه التعهد بحماية خليج العقبة كممر للملاحة الدولية.

في نهاية الأمر، فإن الجزيرتين قد تضيفان عبئاً سياسياً اكثر مما تفيد اقتصاديا او استراتيجياً، اللهم إلا إذا كان الغرض من السيطرة هو مواجهة اسرائيل وخنق مينائها (ايلات)، وهو أمر نعلم جميعاً أنه ليس في بال أحد من أمراء آل سعود.

الصفحة السابقة